الأحزاب نسبة لقبائل مشركة تحالفت لضرب دولة الإسلام، أما الخندق فهو وسيلة حاسمة استعان بها المسلمون بمعركتهم.
وقعت غزوة الخندق في شوال ٥ هـ، وقد وقعت على حدود المدينة المنورة الشمالية.
قادها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على رأس ٣ آلاف مجاهد مسلم، وحمل لواء المهاجرين زيد بن حارثة، فيما حمل سعد بن عبادة لواء الأنصار، رضي الله عنهم جميعا.
وفي المقابل كان أبوسفيان بن حرب على رأس جيش المشركين من قبيلة قريش وبني كنانة، ومعه عيينة بن حصن قائد بني فزارة (غطفان)، الحارث بن عوف قائد بني مرة، مسعر بن رخيلة قائد بني أشجع، طليحة بن خويلد الأسدي قائد بني أسد وسفيان بن عبد شمس قائد بني سليم، وكان مجموع جيش المشركين ١٠ آلاف مقاتل (أربعة من حلف قريش، وستة من حلف غطفان)، بمعاونة يهود بني النضير وبني قريظة، بقيادة حيي بن أخطب وكعب بن أسد، على التوالي.وقد حمل اللواء عثمان بن طلحة المقتول والده في غزوة أحد وعماه .
تحريض يهود بني النضير ممن أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، وإقناعهم قريش وسائر القبائل المشركة المعادية بضرورة التحالف لضرب المسلمين للأبد، فكان من المسلمين أن تأهبوا لقتالهم وصدهم بخطط محكمة.
كان يهود بنو النضير يضمرون حقدًا دفينًا على المسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم، بعدما أخرجوهم من ديارهم بالمدينة لنقضهم العهد، وما جرى من نفيهم لخيبر وتخريب بيوتهم بأيديهم، فانطلق وفد من كبرائهم مؤلف من ٢٠ رجلًا بقيادة حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرّضونهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فرحب أبوسفيان، وقيل إن اليهود قالوا بأن دين العرب خير من دين محمد وبالغوا بتكريمهم بالسجود لأصنامهم، فأنزل الله قوله فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا) [النساء: ٥١] وعند ذلك خرج من بطون قريش خمسون رجلا وتحالفوا، وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها، ألَّا يخذل بعضهم بعضًا.
ثم جاء اليهود إلى غطفان إحدى أكبر القبائل المعادية للمسلمين، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم عليه، وتكرر الحال مع قبائل عدة.
فور علمه بما يضمره الأعداء، نصب النبي صلى الله عليه وسلم مجلسه الاستشاري لبحث خطة الدفاع واستجابوا لفكرة لم يكن العرب يعهدونها من قبل، وقد طرحها الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان أول من أسلم من فارس، وذلك حين قال: كنا إذا حوصرنا تخندقنا فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : «سلمان منا أهل البيت».وجاء بحديث آخر أنه أحد ثلاثة تشتاق الجنة إليهم.
وكّل الرسول إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعا، واختار أن يكون شمال المدينة المحاطة بالبساتين، وهو الاحتمال الأكبر للهجوم.
وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم بنقل التراب على كاهلهم، وعن أنس، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى بهم النصب والجوع قال صلى الله عليه وسلم:
اللهم إن العيش عيش الآخرة.. فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له :
نحن الذين بايعوا محمدا.. على الجهاد ما بقينا أبدا
وكان المسلمون يحفرون الخندق طوال النهار، ويرجعون إلى أهليهم في الليل، حتى تكامل الخندق في نحو شهر .
وعن البراء بن عازب قال: «رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب، ويقول:اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا..فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا..إن الآلي قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا»
ذهاب الجوع: ربط الصحابة الكرام الحجارة على بطونهم من شدة الجوع، وكذا فعل نبيهم صلى الله عليه وسلم، وظل صيامه متواصلًا أيام بلا زاد، وكانت خاصية لا تؤتى لغيره فكان يجوع لله ويكافئه ربه بأن يطعمه ويسقيه عنده، وقد رأى جابر بن عبد الله في النبي صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا، فذبح بهيمة وطحنت امرأته صاعًا من شعير ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت برمة اللحم تغطيه كما هي، وبقي العجيبن يخبز كما هو، وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغذى أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه، وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب. (رواه البخاري)
الحجر الشديد: وقد روى البخاري عن جابر أيضًا قصة ذلك الحجر الصلب الشديد الذي واجه الصحابة خلال حفر الخندق،وقد أخذ النبي معولًا فضربه ثلاثًا فعاد كالرمال المفتتة بين يديه، وقد شاهده سلمان الفارسي يكبر ويسمي الله قائلا أنه أعطي مفاتيح الشام وفارس واليمن، يشاهد قصورها أمامه خاضعة للمسلمين مع كل ضربة معول.
وكان سلمان الفارسي رجلًا قويا يعمل عمل عشرة رجال في الخندق حتى أصابته العين، فاوصاه النبي بالوضوء، وقيل أنه هو من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد برق البرق تحت معوله وهو يكسر الحجر، وقد وصف لسلمان أماكن فارس التي يفتحها المسلمون من بعده، كان يراها رأي العين.
أقبلت قريش حتى نزلت بمنطقة مجتمع الأسيال بين الجرف وزعابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب قمي إلى جانب أحد، ونزل قول الحق (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: ٢٢] وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزت قلوبهم لرؤية هذا الجيش، وقال تعالى عنهم (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب: ١٢]
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار، وكان شعارهم (ح.م لا ينصرون) و(يا خيل الله)واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجاءوا في حصون المدينة التي بناها المسلمون لمواجهة الخطر القادم.
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقًا عريضًا يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابا، يتحسسون نقطة ضعيفة، لينحدروا منهاـ وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين،يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه.
وكان على رأس جيش مكة أبوسفيان وعمرو بن العاص وجبيرة بن وهب وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن ود وضرار بن الخطاب وغيرهم من الفرسان المشهورين، وبالفعل فقد صنعوا ثغرة اقتحموا منها للسهل بين الخندق والجبل ولكن علي بن أبي طالب واجههم فتراجعوا.
ودعا عمرو بن وُد إلى المبارزة، فانتدب له علي بن أبي طالب، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتجاولا وتصاولا، حتى قتله علي رضي الله عنه، ولم يرض النبي محمد صلى الله عليه وسلم بتسلم دية في جثته وترك قريش يدفنوه، وقد انهزم الباقون حتى فروا من الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم.
وروي عن عمرو بن ود إنشاده تلك الأبيات قبل المبارزة، وقد كان يقول لعلي إنه لا يحب إهراق دمه لأن والده صاحبه:
ولقد بححت من الندا ** ء يجمعكم هل من مبارز
إن الشجاعة في الفتى ** والجود من خير الغرائز
فأنشده علي :
لا تعجلن فقد أتا ** ك مجيب قولك غير عاجز
ذو نية وبصيرة ** والصدق منجي كل فائز
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته. وقال صلى الله عليه وسلم «اللهم أعنه عليه»، وفي لفظ: «اللهم هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين»
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل سليطا وسفيان بن عوف بالطليعة لأحزاب المشركين لتقصي الخبر فقتلوهما، فأتي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنهما في قبر واحد، فهما (الشهيدان القرينان). وبعث النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة مع أربعمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير تخوفًا على الأبناء الصغار والنساء من جيرانهم اليهود الأعداء من بني قريظة، بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نقضهم العهد.
وفي تلك المدّة قُتل نوفل بن عبد الله بن المغيرة بينما كان يثب بفرسه فوقع في الخندق، واندقت عنقه، وقَتل الزبير رضي الله عنه هبيرة بن أبي وهب وهو زوج أم هانىء أخت علي، وسعى عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- خلف أخيه ضرار المشرك ولم يستمكن من قتله، وقد أسلم لاحقًا وحسن إسلامه.
وقد أصيب سعد بن معاذ-رضي الله عنه- فقطع منه الأكحل وهو عِرق بساعده، وقد دعا ربه بألا يمته حتى تقر عينه من بني قريظة وأن يموت في سبيله.
وفي تلك الغزوة أقيمت أول مستشفى إسلامي حربي، فقد ضرب الرسولُ صلى الله عليه وسلم خيمةً في مسجده في المدينة، فأمر أن تكون رُفَيْدةٌ الأسلميةُ الأنصاريةُ رئيسةَ ذلك المستشفى، وقد قال صلى الله عليه وسلم لقومه حين أصاب سعدَ بنَ معاذ السهمُ بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب»
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا على المشركين حين منعوا المسلمين عن صلاة العصر، لأنهم كانوا متأهبين للهجمات بالخندق.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم «أمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب» وكان ذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف، قال عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: ٢٣٩]، والتي شرعت بغزوة ذات الرقاع، وفي البخاري عن علي -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»، وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعا.
سعى كبير مجرمي بني النضير لإقناع كعب بن أسد سيد قريظة للحلف معهم رغم عهده مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم قول الثاني: ويحك دعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
ولكنه أقنعه بالنهاية بالدخول في الحلف معهم إن عادوا لقتال محمد.
تقنع النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه حين أتاه غدر بني قريظة فاضطجع ومكث طويلًا حتى اشتد على الناس البلاء ثم غلبته روح الأمل فنهض يقول صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر.. أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره» ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن فكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة لئلا يؤتى الذراري والنساء على غرة، ولكن أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة على قريش وقد استشار صلى الله عليه وسلم صاحبيه السعدين فقالا بالرفض أن يعطي المسلمون أموالهم لهؤلاء بعد أن هداهم الله وأعزهم بدينه وقالا: والله لا نعطيهما إلا السيف، فصوب رأيهما وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب تضربكم عن قوس واحدة»، وهنا نزل قول الحق عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا٩إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا١٠هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا١١وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا١٢) [الأحزاب: ١٢:٩]
في تلك الآونة، قامت السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم خلال انشغال المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال في الخندق بقتل رجل يهودي يطوف بالحصن حولهم، وكان من بني قريظة، وطلبت في البداية من حسان بن ثابت أن ينزل إليه فيفعل فامتنع لعدم قدرته، وقيل أنه كان جبانًا عن القتال وقيل لعلة في جسده، فنزلت ممسكة بعامود، ودارت من خلف الحصن وضربته ضربة قاتلة حفظت بها أبناء المسلمين ونسائهم من أن يستباحوا من اليهود .
وقال المنافقون أن محمدًا وعدهم بكنوز كسرى فيما هم غير آمنين للذهاب للغائط اليوم، وبعضهم قال إن بيوتنا عورة من العدو يريدون الإذن بالعودة، وحتى همت بنو سلمة بالفشل وفي هؤلاء نزل قوله: (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) [الأحزاب: ١٣]
جاء نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي من بني غطفان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلن إسلامه مخبرا إياه أن قومه لا يعلمون بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة» فذهب من فوره لبني قريظة وكان صاحبًا لهم في الجاهلية، وأقنعهم بأن قريشًا ليسوا مثلهم فهم [أي: يهود بني قريظة] البلد بلدهم فيها أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم لا يقدرون التحول عنها لغيرها أما قريش وغطفان فجاءتا لحرب محمد وأصحابه، وإن لم يفلحوا سيرحلون تاركين لهم مغبة انتقام المسلمين، وأشار عليهم بالانسحاب من حلفهم مع قريش حتى يعطوا رهائن، ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش وفعل الأمر ذاته، ومنهم خرج إلى غطفان.
فلما كان ليلة السبت من شوال سنة ٥ هـ بعثت قريش على لسان أبي سفيان إلى يهود: أنَّا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم هو يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن.
فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم فبعثوا إلى اليهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم فتخاذل الفريقان ودبت الفرقة بين صفوفهم وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون الله تعالى اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال دعائه الشهير:«اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» [رواه البخاري]
وقد سمع الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين، وسرى بينهم التخاذل، أرسل الله عليهم جندًا من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، وقيل أنه دعا له بمرافقته بالجنة، فوجدهم الصحابي على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظه، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة.
وأرسل أبو سفيان كتابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى أي وأساف ونائلة وهبل: لقد سرت إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود إليك أبدا حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بالخندق، ولك مني يوم كيوم أحد، فأرسل صلى الله عليه وسلم له جوابه فيه: «أما بعد، [أي: بعد بسم الله الرحمن الرحيم]، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، كذا في كلام سبط بن الجوزي، فقد أتاني كتابك، وقديمًا غرك بالله الغرور.
أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافا ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب انتهى».
بعد تفرق قبائل الأحزاب انبرى شعراؤهم لتهوين انهزامهم، ومن القصائد التي ذكرت بغزوة الخندق:
قصيدة لضرار بن الخطاب الفهري القرشي، أحدِ شعراء الأحزاب، يهجو فيها المسلمين ويتوعد بغزوهم كرة أخرى فيقول:
كأنهم إذا صالوا وصُلنا**بباب الخندقين مصافحونا
أناسٌ لا نرى فيهم رشيدًا**وقد قالوا ألسنا راشدينا
فأحجرناهم شهرًا كريتًا **وكنا فوقهم كالقاهرينا
نُراوحهم ونغدو كل يوم**عليهم في السلاح مدججينا
بأيدينا صوارم مرهفات**نقدُّ بها المفارق والشؤونا
فأجابه كعب بن مالك السلمي الخزرجي أحد شعراء المسلمين قائلاً منها:
بباب الخندقين كأن أسدًا**شوابكهن يحمين العرينا
فوارسنا إذا بكروا وراحوا**على الأعداء شوسًا معلمينا
لننصر أحمداً والله حتى **نكون عبادَ صدقٍ مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا**وأحزاب أتوا متحزبينا
بأن الله ليس له شريك**وأن الله مولى المؤمنينا
فأما تقتلوا سعدًا سفاهاً**فإن الله خير القادرينا
سيدخله جنات طيباتٍ**تكون مقامة للصالحينا
لم تكن معركة دامية، فقد قتل فيها رجال من الجيشين يعدون على الأصابع، ستة من المسلمين، وعشرة من المشركين، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين أجلى الله الأحزاب : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم»(رواه البخاري)
وقد نزلت العديد من الآيات القرآنية بسورة (الأحزاب) في وصف المؤمنين والمنافقين والمشركين بتلك الغزوة.
الله يؤيد نبيه والمؤمنين الصادقين بجنود لا يعلمها إلا هو؛ فقد أيدهم بكرامات في الخندق تثبت عزيمتهم وأيدهم بالخوف في صدور أعدائهم حتى فروا أمامهم، وأطلق عليهم الريح تكفيء قدورهم وتنذرهم بالرحيل، وأمن نساءهم وذريتهم رغم جوارهم غير مسلحين إلى جوار اليهود ممن نكثوا الميثاق وانضموا لحلفاء الشرك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة للمؤمنين يتحمل ويلاقي العنت والمشاق ويرفع التراب بيديه الشريفتين ويكسر بمعوله الصخر فهو لا يكتفي بالإشراف، كما كان شجاعًا مقدامًا يقودهم بأغلب مغازيهم الشريفة ضد الشرك، وقد كانت غزوة الأحزاب محنة تنطوي على منحة؛ فكشفت المنافقين ممن قالوا بالعودة لبيوتهم بحجة حمايتها، وكشفت رؤوس الكفر اليهود والمشركين، وأثبتت منعة الدولة الإسلامية وصارت تخطط لجهاد الطلب وتطمح للوصول لفارس واليمن والشام وتحطم حصونها أمام دعوة الإسلام.
"السيرة النبوية" لابن هشام 2/588، "صحيح البخاري" 2/588، "الطبقات" لابن سعد، "الرحيق المختوم" للمباركفوري ص 311، "المغازي" للواقدي 2/590، و"السيرة الحلبية".