لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر في ذي القعدة من العام السادس، وكان أهل مكة قد أبوا أن يدعوه يدخل مكة، حتى كتبوا الكتاب الذي كتبوه في صلح الحديبية.
وكان من بنوده أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون فلا يدخلوا مكة هذا العام، على أن يدخلوها معتمرين في العام المقبل، فلما حال الحول على عمرة الحديبية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن صُدَّ معه فيها، ليقضي عمرته، ومن هنا سمت عُمْرة القضاء؛ لأنها كانت قضاءً عن عمرة الحديبية، وتُسمى أيضًا عُمْرة الصلح؛ لأنه اتُفِق عليها في صلح الحديبية. وتسمى عُمْرة القصاص؛ لأن هذه الآية نزلت فيها: ( ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ) [البقرة: 194][فتح الباري شرح صحيح البخاري].
وكان عدد من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك العمرة ألفين سوى النساء والأطفال [فتح الباري شرح صحيح البخاري]. واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة عويف أبا رهم الغفاري، وساق النبي صلى الله عليه وسلم معه الهدي ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء[السيرة النبوية لابن كثير]، ولما انتهى إلى ذي الحليفة [وهو ميقات من توجه من المدينة] أحرم النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة ، ولبي صلى الله عليه وسلم ولبي معه المسلمون، وأخرج معه السلاح حذرًا من غدر قريش، فلما بلغ موضع اسمه «يَأجُج» وضع ما كان معهم من سلاح من النَّبْل والرِّماح وغيرها، وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بالسيوف في قُرُبها [زاد المعاد لابن القيم].
فلمّا وصلوا إلى مرّ الظّهران [وادي قرب مكة] قابله نفر من قريش، ففزعوا مما رأوا معه من سلاح، وأسرعوا إلى قومهم فأخبروهم، ففزعوا من ذلك فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الحرم بالسلاح، فسار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حتى دَخَلَ مَكَّةَ وهو على ناقته القصواء، واستلم الحجر بعصاه، وأمر أصحابه أن يسرعوا ثلاثة أشواط إظهارًا للقوة؛ حيث أشيع بين المشركين أن المسلمين ضعفاء ولن يستطيعوا الطواف بالبيت وتأدية المناسك، وقالوا: سيطوف اليوم بالكعبة قوم نهكتهم حمّى يثرب[صحيح البخاري]، ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: «هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا» (رواه مسلم)، قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم [صحيح مسلم]، وارتدى -عليه الصلاة والسلام- رداءه، وكشف عضده اليمنى شأن الفتوة وفعل مثله المسلمون.
وقد أتمّ المسلمون طوافهم بالبيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين كما رأى عليه الصلاة والسلام في منامه (لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ ) [الفتح: 27]. وتُعَد عمرة القضاء واحدة من أربع مرات للنبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته[أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب المغازي والسرايا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه].
وقد أثرت عمرة القضاء في تلك الفترة على معنويات قريش تأثيرًا كبيرًا، فقد راقب مشركو قريش أحداث تلك العمرة وشهدوا ما بالمسلمين من قوة ونشاط، حتى إن خالد بن الوليد وقف يقول في جمع من قريش: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق كل ذي لب أن يتبعه [انظر: الرسول القائد، لمحمود شيت خطاب].