نسبة لقوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس غدروا بالمسلمين بتحالفهم مع الأحزاب المشركة.
ذي القعدة لسنة ٥ هـ، وقد وقعت بالمدينة المنورة عند حصون بني قريظة.
قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من أصحابه المجاهدين، وحمل اللواء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
ومن طرف اليهود كان قائدهم حُيي بن أخطب من بني النضير وكعب بن أسد سيد بني قريظة.
جزاء لغدر يهود بني قريظة بالمسلمين بعد عهدهم معهم، وتحالفهم مع رؤوس الشرك من قريش والقبائل المتحزبة بغزوة الأحزاب إلى جانب يهود بني النضير ممن طردهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لخيبر فأوغروا صدر إخوانهم بالانتقام، وقد جاء الأمر بالغزوة من عند الله أرسله مع ملك الوحي جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فسمع وأطاع.
في اليوم الذي رجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة الأحزاب، جاءه جبريل عليه السلام عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال برواية عائشة :«أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنًا فأذن في الناس: من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى الراية علي بن أبي طالب، وقدمه إلى بني قريظة فسار علي -رضي الله عنه- حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتى نزل على بئر من آبار بني قريظة يقال لها بئر (أنا) وبادر المسلمون إلى امتثال أمره ﷺ، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة وأدركتهم العصر في الطريق، فاختلفوا بين من يؤخرها لحين الوصول لبني قريظة وهؤلاء صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وذهب آخرون للصلاة في الطريق تأويلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم على محمل السرعة في طلب قريظة لا تأخير الصلاة، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين وأجاز كليهما.
وبالفعل تلاحق الجيش الإسلامي نحو بي قريظة أرسالًا، ووصلوا ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرسًا، فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار.
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا، ويدخلوا مع محمد ﷺ في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبائهم ونسائهم- وقد قال لهم: والله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم - وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مصلتين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد في انزعاج: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا.
ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إرسل إلينا أبا لبابة نستشيره، وكان حليفا لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وحين سألوه هل ننزل على أمر محمد؟ قال: نعم! غير أنه أشار لحلقه يعني أن العاقبة الذبح! وكأنه يحذرهم، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمضى على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى إلى المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدًا.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره- وكان قد استبطأه- قال ﷺ: «أما أنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه».
وقيل نزل فيه (وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة: ١٠٢]
وفي السيرة، أنه لما دنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الحصن، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه وحق أزواجه، فسكت المسلمون وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلما رأى علي كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلًا أمر أبا قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن يلزم اللواء، ورجع إليه فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: «يا إخوان القردة هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ أتشتموني فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولًا، وفي لفظ: ما كنت فاحشًا. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل لهم أسيد بن حضير رضي الله عنه، فقال لهم: «يا أعداء الله لا تبرحوا من حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر، فقالوا: يا ابن الحضير نحن مواليك وخاروا أي:خافوا، قال: لا عهد بيني وبينكم»
وكان رجل من اليهود اسمه عمرو بن سعدي يقول لهم: قد خالفتم محمدًا فيما حالفتموه، ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فوالله ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك. قال فإني بريء منكم، وخرج في تلك الليلة، وقد وُجد جسده فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أنه رجل أنجاه الله بموته، وكان قد ذكَّر قومه بمصير بني النضير وبني قينقاع ثم لا زال يخوفهم بالحرب والسبي والجلاء، ثم أقبل على كعب بن أسيد، وقال: والتوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء إنه للعز والشرف في الدنيا.
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة جعلت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وصاح علي: يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم.
وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. قالوا: قد رضينا.
فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة، لم يخرج معهم؛ للجرح الذي أصاب أكحله في معركة الأحزاب فأُركب حمارًا، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون: يا سعد أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم.
حتى إذا ظهر سعد بن معاذ رضي الله عنه على رسول اللّه وشاهده الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم رسول الله: «قوموا إلى سيِّدِكم فأنزِلوه، فقام الناس حينها احترامًا لسعد بن معاذ رضي الله عنه حتى وصل سعد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال له رسولُ الله ﷺ: «احكُمْ فيهم»، قال: فإنِّي أحكُمُ فيهم أنْ تُقتَلَ مُقاتِلتُهم وتُسبَى ذراريُّهم وتُقسَمَ أموالُهم. قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لقد حكَمْتَ فيهم بحُكْمِ اللهِ ورسولِه»
فإن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما أصدر حكمه على بني قُريضة لم يُراعِ بذلك ما سبق من أوليائه قبل الإسلام، بل نظر إلى إخلافهم بالوعد الذي قطعوه مع النبي ﷺ وأثر ذلك على سير المعركة
وقد وجد المسلمون بالحصون ألفا وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح وثلاثمائة درع وخمسمائة ترس وجحفة، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم فجعل يذهب بهم إلى الخنادق وفدًا بعد وفد، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم وكانت أعدادهم تتراوح بين ٤٠٠ إلى ٧٠٠ بين قتيل وأسير.
فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل.
وقتل مع هؤلاء أحد أكابر مجرمي بني النضير حيي بن اخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر أيام غزوة الأحزاب، فلما أُتى به مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله ﷺ: أما والله ما لمت نفسي في معاداتك ولكن من يغالب الله يغلب. ثم قال: أيها الناس، لابأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه.
وقتل من نسائهم امرأة واحدة، كانت قد طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته.
وقد انقلبت نساء اليهود تولولن وارتفع عويلهن وشققن الأثواب حزنًا وكمدًا على ضياع الرجال والذرية.
وكان المتولي لقتل اليهود هو عليّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، والزبير بن العوام رضي الله عنه.
وكان قد أمر رسول الله بقتل من (نبت) من الرجال، ويعني البالغين، وممن لم يبلغ وقتها عطية القرظي فترك حيًا، فأسلم، واستوهب ثابت بن قيس الزبير بن باطا وأهله وماله ولكن الزبير فضّل اللحاق بأحبته من اليهود فقتل، ولكن ولده عبدالرحمن بقي حيًا وأسلم، كما استوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس التجارية رفاعة بن سموأل القرظي، وهو أحد سادات اليهود، وقد أسلم، كما أسلم نفر من قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس فأسهم للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان، وللفارس سهم، وأسهم للراجل سهمًا واحدًا، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلًا وسلاحًا.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها،أي في السبايا الأعم من قريظة، وقال ﷺ «لايفرق بين أم وولدهاحتى يبلغ»
واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه وقال الكلبي إنه ﷺ أعتقها وتزوجها سنة ٦ هـ وماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع.
أقام أبولبابة مرتبطًا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، يعود فيرتبط بالجذع ثم نزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرًا، وهو في بيت أم سلمة فقامت على باب حجرتها، وقالت لي: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه.
استجاب الله دعوة سعد بن معاذ رضي الله عنه في غزوة الأحزاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلما تم أمر قريظة انتفضت جراحته وسال منها الدم ومات سعد.
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ. وقد قال المنافقون ما أخف جنازته لما حملت فقال رسول الله ﷺ: «إن الملائكة كانت تحمله»
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: كنت ممن حفر لسعد رضي الله عنه قبره؛ فكان يفوح علينا المسك؛ كلما حفرنا قبره من تراب.
وجاءت أمه رضي الله عنها ونظرت إليه في اللحد، وقالت: أحتسبك عند الله؛ وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وقف ودعا ثم انصرف وناحت عليه أمه، فقال ﷺ: «كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ رضي الله عنه» وقد كان جسيمًا جميلًا سيد قومه في شبابه
وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببغلة وجبة من سندس فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعجبون من حسن الجبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمناديل سعد بن معاذ: «في الجنة أحسن»، يعني من هذا.
استشهاد رجلين من المسلمين وقيل أربعة، ومنهم أبوسنان أخو عكاشة، وقتل نحو ٤٠٠ من يهود بني قريظة الخائنين، وبيعت ذريتهم بمكة.
ولاء صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لدين الله كان يغلب على أواصر حلفهم القديم بالمدينة، وقد بلغ صدقهم أن تطابق حكمهم مع حكم الله فيمن غدر بالمسلمين، وكان من يميل لهواه منهم كأبي لبابة يندم أشد الندم والله غفور رحيم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان خبر السماء يأتيه فلا يكل ولا يفتر عزمه لإتمام نور الله وحصد الكافرين المتآمرين وقد أبى من قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا الحرب ورفضوا التسليم والجزية أو الإسلام برغم بغيهم وعلمهم.