عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الإسراء والمعراج.
عباد الله! الإسراء والمعراج كان مكافأة ربانية، ومواساة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الحصار الظالم الذي استمر ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، وبعد وفاة الناصر الحميم أبي طالب، والزوجة الوفية الأمينة خدبجة -رضي الله عنها-، وبعد رحلة الطائف الأليمة.
فكانت هذه الرحلة الربانية، التي أكرم الله -تبارك وتعالى- فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليُذهب عن صدره الآلام والأحزان.
عباد الله! الإسراء: هو ذهاب الله -تبارك وتعالى- بنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، راكباً على البراق، من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى في القدس، في جزء من الليل ثم رجوعه من ليلته.
والمعراج: هو صعود الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من المسجد الأقصى في تلك الليلة، بعد إسرائه إلى السموات العلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم رجوعه إلى بيت المقدس في تلك الليلة.
عباد الله! حادث الإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة. ففي كتاب ربنا، ذكر الله تعالى الإسراء وحكمته بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} [الإسراء: 1].
- ويستفاد من هذه الآية ما يلي-:
أولاً: بدأ الله الآية بـ (سبحان) لأن من قدر على هذا فهو مستحق للتنزيه والتقديس.
ثانياً: في ذكر العبد في هذا المقام تشريفٌ، ولذلك وصف الله رسوله بالعبودية في أشرت المقامات:
ففي مقام التنزيل قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} [الكهف: 1].
وفي مقام الدعوة قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن: 19].
وفي مقام التحدي قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
وفي مقام الإسراء قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
وفي ذكر العبد في هذا المقام أيضاً تحذير أن يتخذ الإسراء ولسيلة لرفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الإطراء والغلو حتى لا يقع الناس في الشرك، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" (1).
ثالثاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بمكة،
__________
(1) رواه البخاري (رقم 3445).
وسمى حراماً لحرمته وهو أول بيت وضع في الأرض، {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} بفلسطين: وسمى بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، وهو ثاني بيت بني لله في الأرض، سئل - صلى الله عليه وسلم -: "أي بيت وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قيل: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة" (1).
رابعاً: وفي قوله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} فالمسجد الأقصى مبارك، والأرض التي حوله مباركة، وهي بركات دينية ودنيوية.
خامساً: وفي قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} تلك هي حكمة الإسراء، لقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحلته؛ ما أذهب عن صدره الآلام والأحزان والروع والخوف، وليربط على قلبه وليثبت فؤاده، وليكون من المؤمنين أن الله معه ولن يتخلى عنه، وأن الله ناصره.
عباد الله! وفي كتاب ربنا ذكر الله قصة المعراج وثمرته في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ} يعني جبريل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 13 - 18].
فالإسراء والمعراج ثابت في كتاب ربنا.
وكان بالروح والجسد وفي اليقظة لقوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} والعبد لا يكون إلا بالروح والجسد، ولقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} والبصر
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3366)، ومسلم (رقم 520).
يكون في الجسد.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كذبتني قريش قمت في الحجر فَجَلَّى الله ليَ بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته" (1).
فلو أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بأنها رؤيا رآها لما اختبروه بالسؤال عن آياته وعلاماته.
عباد الله! والإسراء والمعراج ثابت في سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فتعالوا بنا لنستمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخبرنا خبر الإسراء والمعراج.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدري ثم غسله بماء زمم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه" (2).
عباد الله! بعد أن فرغ جبريل عليه السلام من عملية شق الصدر وغسله ولأمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ الإسراء من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى على البراق.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتيت بالبراق -وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه تحية المسجد ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة" (3).
عباد الله! ومن هناك من المسجد الأقصى بدأت رحلة المعراج فعُرج
__________
(1) رواه البخاري (رقم 4710).
(2) رواه البخاري (رقم 3342).
(3) رواه مسلم (رقم 162).
بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، من المسجد الأقصى، إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء الله.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبربل فقيل: من أنت؟ قال: جبربل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل: من أنت؟ قال: جبربل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا -صلوات الله عليهما- فرحبا بي ودَعَوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل عليه السلام: من أنت؟ قال: جبربل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام وقد أعطى شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا؟ قال: جبربل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير.
قال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57].
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل قيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون - صلى الله عليه وسلم - فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل:
من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. قال: ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشى، تغيرت فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها.
فأوحى الله إلى ما أوحى، ففرض علي، خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة.
قال: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم.
قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي، فحط عني خمساً، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمساً.
قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي -تبارك وتعالى- وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمَّد! إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت
له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه" (1).
عباد الله! وهكذا كان الإسراء والمعراج- تلك الرحلة العجيبة- تم في جزءٍ من الليل، وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من رحلته والناس نيام لم يشعر أحدٌ بذلك.
عباد الله! كفار مكة وخبر الإسراء والمعراج.
الذين كذبوا أن يقع وحيٌ على الأرض أتراهم يصدِّقون به في السماء؟ تعالوا بنا يا عباد الله! لنستمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخبرنا عن حال قريش عندما وصلهم الخبر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة، فظعْتُ بأمري وعرفتُ أن الناس مكذِّبيَّ"، قال: فقعد معتزلاً حزيناً، فمرَّ به عدوُّ الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمُستهزئ: هل كان من شيء؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم".
قال: ما هو؟ قال: "إنه أُسري بي الليلة".
قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس".
قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: "نعم".
قال: فلم يُره أنه يُكذِّبه، مخافه أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه.
__________
(1) رواه مسلم (رقم 162).
قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم".
فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي. فانتفضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما.
قال (أي أبو جهل): حدث قومك بما حدَّثتني.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أسري بي الليلة".
قالوا: إلى أين؟
قال: "إلى بيت المقدس".
قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟!
قال: "نعم".
قال: فمن بين مُصَفِّق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب زعم!
قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد، ورأى المسجد.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذهبت أنعتُ، فما زلت أنعتُ حتى التبس عليَّ بعض النعت".
قال: "فجيء بالمسجد وأنا انظر حتى وضع دون دار عِقالٍ -أو عقيل- فنعتُّه، وأنا أنظر إليه".
فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب" (1).
__________
(1) إسناده حسن، "مسند الإِمام أحمد" رقم (2819 - ط المؤسسة)، و"فتح الباري" (7/ 239).
ومع ذلك ما زادهم ذلك إلا نفوراً.
عباد الله! وفي هذا الحديث معجزات للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
,
عباد الله! موعدنا في هذا اليوم- إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الدروس والعظات والعبر؛ التي تؤخذ من قصة الإسراء والمعراج.
عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أنه أسري برسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء الله -تبارك وتعالى- وقد فرض الله -تبارك وتعالى- على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، وقد رأى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - من آيات ربه الكبرى، ثم عاد إلى المسجد الأقصى، ثم إلى المسجد الحرام في نفس الليلة، وكان ذلك بالروح والجسد، وفي اليقظة لا في المنام، وقد تبين لنا أن الإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة.
أمة الإسلام! قصة الإسراء والمعراج فيها دروس وعظات وعبر كثيرة جداً منها:
أولاً: أهمية المسجد الأقصى في الإِسلام.
عباد الله! إذا كنتم قد نسيتم المسجد الأقصى فها نحن نذكركم به؛ المسجد الأقصى هو ثاني مسجد وضع في الأرض؛ لعبادة الله وتوحيده.
سئل - صلى الله عليه وسلم -: أي بيت وضع في الأرض أول؟
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسجد الحرام" قيل: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قيل: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة" (1).
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3366)، مسلم (رقم 520).
المسجد الأقصى رفع بناءه وجدده سليمان بن داود عليهما السلام: عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بني بيت المقدس -أي المسجد الأقصى- (وفي رواية: لما فرغ من بناء مسجد بيت المقدس)، سأل الله -عز وجل- خلالاً ثلاثة .. " الحديث (1).
الشاهد منه يا عباد الله! أن الذي رفع بناء المسجد الأقصى وجدده؛ هو سليمان بن داود عليهما السلام.
المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى.
عن البراء - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت .. " الحديث (2).
فكان - صلى الله عليه وسلم - يقلب وجهه في السماء، يرغب، ويسأل ربه أن يحول قبلته إلى المسجد الحرام، فاستجاب الله له، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
أمة الإسلام! المسجد الأقصى مسجد مبارك، بارك الله فيه وحوله من بركات الدنيا والدين، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
__________
(1) "صحيح سنن النسائي"، (رقم 669)، "صحيح ابن ماجه" (رقم 1408).
(2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 40)، ومسلم (رقم 525).
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71] وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)} [سبأ: 18].
المراد بها المسجد الأقصى.
فهذه البلاد المباركة المقصود منها، هي، بيت المقدس، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يردها للمسلمين من أيدي إخوة القردة والخنازير.
أمة الإسلام! الصلاة في المسجد الأقصى فضلها عظيم.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بني بيت المقدس سأل الله -عز وجل- خلالاً ثلاثة: سأل الله -عز وجل- حُكماً يُصادفُ حكمه فأُوتيه، وسأل الله -عز وجل- ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأُوتيه، وسأل الله -عز وجل- حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحدٌ لا ينهزهُ -أي يدفعه- إلا الصلاةُ فيه، أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمة (وفي رواية: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا اثنتان فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة" (1).
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل، مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم بيت المقدس؟.
__________
(1) مضى قريباً.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو .. " الحديث (1).
فتكون الصلاة في المسجد الأقصى بمئتين وخمسين صلاة.
أمة الإسلام! أنسيتم المسجد الأقصى! هو مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنه عرج به إلى السماء.
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ... ثم ربط البراق في الحلقة التي تربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت تحية المسجد ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن فاخترت اللبن، فقال جبربل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء .. " الحديث
أي عرج من المسجد الأقصى إلى السماء، وفي هذه إشارة أنه كما أن النبوة انتقلت من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فهذه بشرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمين إلى يوم القيامة بأن قيادة البشرية ستنتقل من أيدي بني إسرائيل؛ لأنهم عصوا الله وملأوا الأرض غدراً وخيانة، ستنتقل إلى الأمة الإِسلامية، بقيادة رسولها - صلى الله عليه وسلم - وقد فتحت الأمة الإِسلامية الدنيا من مشرقها إلى مغربها، لما كانوا متمسكين بدينهم، وبسنة رسولهم لكن لما انشغلوا بالدنيا وحطامها فقد ضيعوا الدنيا والبلاد من مشرقها إلى مغربها، ولذلك، نقول إذا أردتم يا أمة الإِسلام أن يعود الأقصى إليكم وتحرروا أرضكم من الكفار
__________
(1) "السلسلة الصحيحة" (2902).
فعليكم أن تعودوا إلى دينكم وأن تتمسكوا بدينكم وسنة نبيكم، إن فعلتم ذلك نصرتم الله في أنفسكم وإن نصرتم الله في أنفسكم نصركم الله على عدوكم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}.
أمة الإِسلام! المسجد الأقصى من المساجد التي تشد لها الرحال.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي" (1).
وشد الرحال تكون للصلاة في هذه المساجد أو الاعتكاف فيها، أما شد الرحال إلى الأضرحة والقبور والأولياء، فهذا حرام ولا يجوز في شريعة الإِسلام.
عباد الله! ومن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من الإسراء والمعراج.
ثانياً: أهمية الصلاة في الإِسلام.
أمة الإِسلام! الصلاة، الصلاة، فلأهميتها فرضها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هناك فوق السموات، بعد سدرة المنتهى مباشرة وبدون واسطة.
عباد الله! الصلاة هي عمود الدين الذي لا يقوم إلا به.
قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه -: "ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده وذِرْوة سنامه"
قلت: بلى يا رسول الله قال: "رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" (2)
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 1197)، ومسلم (رقم 827).
(2) "رياض الصالحين" رقم (1530) تحقيق الألباني.
الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت، فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر" (1).
الصلاة هي آخر وصية وصى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، فقال - صلى الله عليه وسلم - في أنفاسه الأخيرة: "الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم".
الصلاة هي آخر ما تبقى لنا من ديننا، يقول - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى" (2).
الصلاة تجارة رابحة، يقول رب العزة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: 29].
الصلاة تمحو الذنوب والخطايا، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" (3).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟
قالوا: بلى يا رسول الله؟
__________
(1) "رياض الصالحين" رقم (1088) الألباني.
(2) "صحيح الجامع" (2572).
(3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 528)، ومسلم (رقم 667).
قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (1).
الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
الصلاة سبب للتمكين في الأرض، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 41].
الصلاة سبب لنزول الرحمة على العباد، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71].
الصلاة سبب لدخول الجنة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) .. } إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11].
أولى هذه الصفات الذين هم في صلاتهم خاشعون، وآخر هذه الصفات، والذين هم على صلواتهم يحافظون.
__________
(1) رواه مسلم (رقم 251).
أمة الإِسلام! ومع ذلك فقد ضيع الكثير من الناس الصلاة.
أنسي هؤلاء الذين ضيعوا الصلاة أن من أول أسباب دخول النار ترك الصلاة، قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر: 42 - 43].
أنسي الذين تركوا الصلاة أن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (2).
أمة الإِسلام! اتقوا الله في الصلاة، فإنكم ستسألون عنها يوم القيامة.
عباد الله! من الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة الإسراء والمعراج.
ثالثاً: التحذير من الغيبة والخوض في أعراض المسلمين، وأكل لحوم الأبرياء:
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم.
فقلت: من هؤلاء يا جبربل؟
قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" (3).
عباد الله! الذين يغتابون المسلمين، ويأكلون لحوم الأبرياء في مجالسهم،
__________
(1) رواه مسلم (رقم 282).
(2) "رياض الصالحين" رقم (1086)، تحقيق الألباني.
(3) "رياض الصالحين" رقم (1534) تحقيق الألباني.
هذا عذابهم في حياة البرزخ جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً، فليتق الله كل منا في لسانه؛ لأن اللسان إذا أُطلق في أعراض المسلمين أدخل صاحبه النار قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42 - 47].
أي: كنا في الدنيا نخوض بألسنتنا بالباطل وأكل لحوم الأبرياء
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رجلاً قال: يا رسول الله إن فلانة تُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها" -أي النافلة- "ولكنها تؤذى جيرانها بلسانها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هي في النار".
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن فلانة تُذكر من قلة صلاتها وصيامها وصدقتها، ولكنها لا تؤذى جيرانها بلسانها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هي في الجنة".
وعن معاذ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه" فبعد أن أخبره ودله على أبواب الخير.
قال - صلى الله عليه وسلم - له: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله".
قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: "كف عليك هذا".
قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟
فقال: "ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا
حصائد ألسنتهم؟ " (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم - للرجل عندما سأله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك؟ " (2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" (3).
وقال رجل يا رسول الله! أي المسلمين أفضل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" (4).
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين يأكلون لحوم الناس بألسنتهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته" (5).
فاتقوا الله يا معشر المسلمين في ألسنتكم وأمسكوها عن أعراض المسلمين، وعن الغيبة، فإنكم راجعون إلى الله وموقوفون بين يديه، وسائلكم عن ألسنتكم.
قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].
عباد الله! ومن الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من قصة الإسراء والمعراج
__________
(1) "رياض الصالحين" رقم (1530) تحقيق الألباني.
(2) "رياض الصالحين" رقم (1528) الألباني.
(3) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 6018)، ومسلم (رقم 47).
(4) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 11) ومسلم (رقم 42).
(5) "صحيح الجامع" (7861).
رابعاً: التحذير من خطباء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، والذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، والذين يدعون الناس إلى كل شر الذين يدعون الناس إلى الشرك والبدع والخرافات، الذين يدعون الناس إلى الحزبية البغيضة التي فرقت الأمة، الذين يحرضون المسلمين على ولاة أمرهم ليفسدوا في الأرض.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت ليلة أسري بي- رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟
قال: هؤلاء خطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب؛ أفلا يعقلون؟! (1).
فهذا الخطيب الذي يقول للناس هذا حرام ثم يفعله، ويقول لهم هذا حلال ولا يفعله، خطيب السوء الذي يأمر بالبر وينسى نفسه، يأمر الناس بالحجاب وينسى امرأته وابنته، يأمر الناس أن يبتعدوا عن البنوك ويضع ماله في البنوك، يأمر الناس بالمحافظة على الصلاة وهو يضيع الصلاة، يحذر الناس من الكذب وهو يكذب، يحذر الناس من الغيبة والنميمة وهو واقع فيها هذا خطيب لا عقل له، قال رب العزة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44].
ونقول لهذا الخطيب:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم
__________
(1) قال الشيخ الألباني رحمه الله حديث حسن انظر كتاب "الإسراء والمعراج" ص (52).
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
والله سبحانه وتعالى يمقت ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3].
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب الذي يقول للناس ويخالف بفعله ما يقول، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (1).
أمة الإِسلام! خطباء السوء "دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" (2).
فاحذروهم يا عباد الله!.
فهذا حذيفة - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" (3).
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3267)، ومسلم (رقم 2989).
(2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 3606)، ومسلم (رقم 1847).
(3) متفق عليه، قطعة من الحديث الذي قبله.
فيا أمة الإِسلام! فوالله إني لكم لناصح أمين، فإن وجدتم المنابر قد صعد إليها الخطباء الذين يدعون إلى الحزبية البغيضة، ولا هم لهم إلا أن يحرضوا الناس على ولاة الأمر، ويجعلون بلاد المسلمين بركة من الدماء، فاحذروهم، وارجعوا إلى عقيدة التوحيد وإلى منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ما كان عليه الصحابة، كما قال ربنا -جل وعلا-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة" قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: "التي تكون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليه بالنواجذ" (2).
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المتبعين لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) حسن بشواهده.
(2) صحيح، أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676).