أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن الفتح الأكبر (فتح مكة).
عباد الله! فتح مكة: هو الفتح الأعظم الذي أعزّ الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، فتح مكة هو الفتح الأكبر الذي اسستنقذ الله به بلده الحرام وبيته، الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين.
فتح مكة: هو الفتح الذي دخل النَّاس به في دين الله أفواجاً
قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [سورة النصر]
فتح مكة هو الفتح الذي تحطمت فيه الأصنام، وزهق فيه الباطل، وانكسرت رؤوس الكفر، وعلت فيه كلمة التوحيد في مكة خاصة وفي كل الدنيا عامة، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]
عباد الله! وحديثنا عن فتح مكة سيكون حول العناصر التالية:
العنصر الأول: سبب هذا الفتح.
العنصر الثاني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد للخروج إلى مكة في سريةٍ تامةٍ.
العنصر الثالث: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجيش الإِسلامي في طريقهم إلى مكة وأحداث الطريق.
العنصر الرابع: أحداث الفتح.
العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من فتح مكة.
,
العنصر الثاني: جيش المسلمين بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعد في مكة للقضاء على بقايا الشرك والوثنية، وأحداث الطريق.
العنصر الثالث: أحداث الغزوة.
العنصر الرابع: حكمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في تقسيم الغنائم.
العنصر الخامس: الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من غزوة حنين.
العنصر الأول: جيش المشركين بقيادة مالك بن عوف سيد هوزان يستعد لمحاربة المسلمين:
كان فتح مكة بمثابة الضربة القاضية للشرك والمشركين في مكة ومن حولها من قبائل العرب، ولما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وأعلى كلمته،
ونصر دينه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وخضعت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ خافت هوازن وثقيف -وهي من أشرس وأقوى القبائل العربية- وقالوا: قد فرغ محمَّد لقتالنا، فلنغزُه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا، وولَّوا عليهم مالك بن عوف سيد هوازن.
عباد الله! وكان مالك بن عوفٍ شجاعاً مقداماً، إلا أنه سقيمُ الرأي سيءُ المشورةِ، فلما اجتمعت قبائل العرب إليه، وجعلوا أمرهم بين يديه؛ أمرَ الناس أن يُخرجوا نساءهم وأبناءَهم وأموالهم معهم؛ ظنًّا منه أن هذه الأموال وتلك الأولاد؛ تحمل الرجال على الثبات عند اللقاء دفاعاً عنها.
عباد الله! ورفض هذا الرأي أعرابيٌ كبيرٌ مُحنّك، هو دُرَيدُ بنُ الصِّمة وقال له: إنك إن نُصرت لن ينفعك إلا رجلٌ بسفيه ورمحه، وإن كانت الأخرى فُضحت في نسائِك وأَموالك، فسفَّه مالك رأيه وأصرَّ على خُطتِه.
عباد الله! ووضع مالك بن عوفٍ قائد المشركين خطته لخوض المعركة ضد المسلمين على النحو التالي:
أولاً: حشر نساء المقاتلين وأطفالهم وأموالهم خلفهم، وقصد من وراء هذا التصرف؛ دفع المقاتلين إلى الاستبسال والثبات أمام أعدائهم لأن المقاتل -من وجهة نظره- إذا شعر أن أعزّ ما يملك وراءه في المعركة، صعُبَ عليه أن يلوذ بالفرار مخلفاً ما وراءه في ميدان المعركة.
ثانياً: رتب قومه بشكل صفوفٍ؛ قدَّم الخيل ثم المقاتِلة ثم النساء ثم الغنم ثم الإبل.
ثالثاً: رفع الروح العنوية لدى جنوده؛ بأن وقف فيهم خطيباً يحثهم على الثبات والاستبسال وأمرهم أن يُجردوا سيوفهم، وقال لهم: "إذا أنتم رأيتم القوم فاكِسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحدٍ عليهم".
رابعاً: وضع الكمائن لمباغتة جيش المسلمين والانقضاض عليهم، وقد كادت هذه الخطة أن تقضي على قوات المسلمين لولا لطف الله -سبحانه وتعالى- وعنايته.
خامساً: أمر جيشه بالمبادرة بالهجوم على المسلمين؛ لأن النصر في الغالب يكون للمهاجم، أما المدافع فغالباً ما يكون في مركز الضعف.
ولهذا أتت هذه الخطةُ ثمارها بعض الوقت -أي: في بداية المعركة- ثم اختلت موازين القوى- بفضل الله تعالى- ثم بثبات رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حيث كسب المسلمون الجولة، وانتصروا على أعدائهم.
,
عباد الله! ولما وصلت الأخبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن مالك بن عوفٍ -قائد المشركين- خرج بجيشٍ قوامُهُ عشرين ألفاً لقتال المسلمين بعد فتح مكة، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يلي:
أولاً: أرسل أبا حدرد الأسلمي فقال له: اذهب فادخل في القوم حتى تعلم لنا مِن علمهم، فدخل فمكث فيهم يوماً أو يومين ثم أقبل فأخبره الخبر (1).
ثانياً: جهز - صلى الله عليه وسلم - جيشاً إسلامياً قوامه اثني عشر ألفاً، يقول أنسٌ - رضي الله عنه -: "لما كان يوم حنين أقبلت هوازان وغطفانُ بذراريهم ونعمهم، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ عشرةُ آلافٍ، ومعه الطلقاء- الذين أطلقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح
__________
(1) "المستدرك" للحاكم (3/ 48، 149).
مكة وخلى سبيلهم- وهم ألفان" (1)،
ثالثاً: وزيادة في الاحتياط وأخذاً بالأسباب، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صفوان بن أمية -وهو لا يزال على شركه- يستعير منه أسلحة ودروعاً، فقال له: "أعطنا سلاحك هذا، نلقي به عدوَّنا غداً -إن شاء الله-".
فقال صفوان: أغصبٌ يا محمَّد؟
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا بل عارية مؤداةٌ" فأعاره ثلاثين درعاً وثلاثين بعيراً (2).
عباد الله! خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بجيش المسلمين من مكة، وفي الطريق عيون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتقدم الجيش لتأتي بأخبار العدو، وجاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنِّي انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم ونسائهم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تِلك غنيمة المسلمين غداً -إن شاء الله تعالى-" (3) وهذه بُشرى.
وفي الطريق وجيش المسلمين يسير بهذا العدد الكبير؛ نظر المسلمون بعضهم إلى بعض والأرض قد امتلأت بهم، فقال بعضهم: لن نُغلبَ اليوم من قلةٍ، ولذلك عاتبهم الله في كتابه فقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 4337)، ومسلم (رقم 1509 بعد 135).
(2) "صحيح أبي داود" (3045).
(3) "صحيح أبي داود" (2183).
مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25].
عباد الله! وفي الطريق وقعت مخالفة من الطلقاء -أي الذين دخلوا في الإِسلام حديثاً- تعالوا بنا لنستمع إلى أحدهم وهو يخبرنا الخبر.
يقول الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حديثو عهدٍ بالجاهلية، قال: فسرنا معه إلى حنين وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرةٌ عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط؛ يأتونها كل سنةٍ فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوماً.
قال: فرأينا ونحن نسيرُ مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سدرة خضراء عظيمةُ.
قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذاتُ أنواطٍ.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)} إنها السُنن لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم (1).
عباد الله! معلوم أن هذا القول لم يصدر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وإنما كان من مُسلمة الفتح، الذين أسلموا قريباً وصدق الله إذ يقول: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
فلا يستوي إيمانُ مسلمة الفتح وإيمان من سبقوهم من المهاجرين والأنصار؛ لأن مُسلمة الفتح لم ينهلوا بعدُ من المورد العذب، لم ينهلوا بعد
__________
(1) "صحيح سنن الترمذي" (1771).
من الوحي، ولذلك لم يوبخهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ هذا جهلٌ لا يُكفِّرْ، ولذا لم يُكفرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم.
,
أولاً: كان فتح مكة بداية فتحٍ عظيم للمسلمين، فقد كان الناس تبعاً
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 357)، ومسلم (رقم 336).
(2) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 104)، ومسلم (رقم 1354).
لقريش في جاهليتهم كما أنهم تبعٌ لقريش في إسلامهم، وكانت القبائل تنتظر ما يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه وعشيرته، فإن نصره الله عليهم دخلوا في دينه، وإن انتصرت قريش عليه يكونون بذلك قد كفوهم أمره.
فلما نصر الله رسوله والمسلمين، وفتحوا مكة عرف الناس جميعاً أنه رسول الله صدقاً، فدخل الناس في دين الله أفواجاً. قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) .. }.
ثانياً: سورة النصر علامة على أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قالت عائشة - رضي الله عنها-: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من قوله: "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه".
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخبرني ربي أنى سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتُها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه"، فقد رأيتها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} (1).
عباد الله! وهذه السورة تسمى سورة التوديع، حيث جاءت مخبرة بقرب أجل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فعن ابن عباس: قال: كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدرٍ فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لِمَ تُدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله. فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاني ذات يومٍ فأدخلني معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم.
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 817)، ومسلم (رقم 483 بعد 217) واللفظ له.
قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)}.
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمده ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً.
فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟
قلت: هو أجلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، - وذلك علامة أجلك- {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
فقال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تقولُ" (1).
ثالثاً: التحذير من الشفاعة في حدٍ من حدود الله
قال عروة بن الزبير: إن امرأةً سرقت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، ففزع قومُها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه.
قال عروة: فلما كلمة أسامة فيها تلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان العشيّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي محمَّد بيده، لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت.
قالت عائشة: فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
__________
(1) رواه البخاري (رقم 4970).
(2) رواه البخاري (رقم 2648).
رابعاً: الكبيرة دون الشرك لا تخرج صاحبها من الإيمان وقد تكفر بالحسنة الكبيرة، وهذا يؤخذ من فعل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - عندما أرسل كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وشفع له شهوده بدراً فقال- صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: يا عمر أو ليس قد شهد بدراً؟ وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
عقيدتنا في أصحاب الكبائر أنهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولا نكفرهم، ولا نخرجهم من الملة كما تفعل الخوارج.
اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.
الخطبة السابعة والأربعون: غزوة حُنين
أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع اللقاء السابع والأربعين من سيرة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - سيدُ الأنبياء وإمام المتقين، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن غزوة حنين.
عباد الله! غزوة حنين وقعت بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وتعتبر من أكبر المعارك التي خاضها المسلمون في عصر السيرة ومن أكثرها خطورة.
عباد الله! وحديثنا عن غزوة حنين سيكون حول العناصر التالية:
,
عباد الله! قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيش المسلمين إلى ميمنة وميسرة وقلب، وعين - صلى الله عليه وسلم -قادة الجيش كلٌّ في مكانه.
ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة فاتحاً منتصراً، مؤيداً من الله- تبارك وتعالى- وكان- صلى الله عليه وسلم - خاشعاً لله، شاكراً لأنعمه، يقرأ سورة الفتح، ويرجِّع في قراءتها وهو على راحلته.
عباد الله! وكانت قريش قد وبَّشت أوباشاً -أي: جمعت جموعاً متفرقة من
__________
(1) "البداية والنهاية" (4/ 290و291).
قبائل متفرقة لا أنساب بينهم- وقالت قريش: نقدِّم هؤلاء الأوباش -أي:
نجعلهم في المقدمة- فإن أصابوا -أي انتصروا- كنا معهم، وإن أُصيبوا -أي قُتلوا- أعطينا الذي سئلنا -أي: صالحنا المسلمين-
عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يخبرنا الخبر، يقول أبو هريرة: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فنظر فرآني فقال: "يا أبا هريرة نادِ في الأنصار لا يأتيني إلا أنصاري".
قال أبو هريرة: فاجتمعوا حوله، فأقاموا به.
فقال- صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إلى أوباش قريش، احصدوهم حصداً ولا تبقوا منهم أحداً، ووضع يمينه على شماله".
قال أبو هريرة: فانطلقنا فما شاء أحدٌ منا أن يقتل أحداً منهم إلا قتله، وما فعلوا بنا شيئاً.
فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أُبيدت خضراء قُريش، لا قريش بعد اليوم.
ثم قال أبو سفيان: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل السجد فهو آمن، فردَّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مقولة أبي سفيان -تأكيداً وإقراراً لها- فقال- صلى الله عليه وسلم -: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن".
فلما سمع الأنصار مقولة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا فيما بينهم:
أمُّا الرجل -يعنون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فأدركته رغبة في قريته -أي: مكة- وأسرُّوها في أنفسهم، والله سميعٌ عليمٌ فأوحى الله بها إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الأنصار! قلتم أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته؟ ".
قالوا: إي والله يا رسول الله، لقد قلنا هذا .. يعزُّ علينا أن تتركنا يا رسول الله وتقيم في أهلِك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ورسوله يُصِّدقانكم ويعذرانكم"، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: "كلا، ما أفعل الذي ظننتم، إني رسول الله هاجرتُ إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم".
عباد الله! وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيش المسلمين بتحطيم الأصنام، وتطهير البيت الحرام منها، وشارك - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بيده، فكان يهوي بقوسه إليها فتتساقط على الأرض تحت الأقدام وهو يقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} وكانت الأصنام ستين وثلاث مئة.
عباد الله! ولطخ النبي - صلى الله عليه وسلم - صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام- وكانت هذه الصور داخل الكعبة- وقال - صلى الله عليه وسلم -: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام.
ولم يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة إلا بعد أن محيت هذه الصور منها، ثم دخل- صلى الله عليه وسلم - الكعبة فصلى فيها ركعتين، ثمَّ استلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجر الأسود، وطاف بالبيت سبعاً مهللاً مكبراً ذاكراً شاكراً، فلما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من الطواف بالبيت سبعاً، رقي الصفا فاستقبل الكعبة وهلَّل وحمد الله، وأثنى عليه، ومجَّدهُ بما هو أهله ودعا بما شاء الله أن يدعو به، ولم يطف بين الصفا والمروة لأنه لم يكن محرماً بعمرة (1).
عبادة الله! وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يصعد فوق ظهر الكعبة، فيؤذن
__________
(1) انظر "صحيح مسلم" (رقم 1330)، و"صحيح البخاري" (رقم 3352).
للصلاة، فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حُلمٍ، إن هذه الكلمات تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويِّها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين، الله أكبرُ الله أكبرُ، اللهُ أكبر اللهُ أكبر.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يوماً تحت أسواط العذاب وهو يقول: أَحدٌ أَحدٌ، ها هو اليوم يُجلجل فوق كعبة الله قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والكل خاشعٌ منصت خاضع.
ها هي الآن كلمة التوحيد هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فها هي الأصنام تحت الأقدام، إنها لحظة والله يبكى فيها القلب فرحاً على هذا النصر العظيم.
عباد الله! ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس على الإِسلام، فبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا؛ بايعهم رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً. وما مست يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -للنساء: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأةٍ كقولي لمئة امرأة" (2).
عباد الله! فلما بايع النبي- صلى الله عليه وسلم -الرجال والنساء على الإِسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - واستقر الأمن .. خرج - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيت أمِّ هانئ بنت أبي طالب بنت عمه، فاغتسل - صلى الله عليه وسلم - ثم صلى ثماني ركعات شكراً لله تعالى على هذا الفتح.
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري (رقم 5288)، ومسلم (رقم 1866).
(2) "صحيح النسائي" (4192).
وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجرنا من أجرتِ يا أمِّ هانئ" (1).
عباد الله! فلما مكن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة، واستقر الفتح أمَّنَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الناس جميعاً، وعفا عنهم كلهم ولم يأخذهم بجريرتهم السابقة، إلا أربعة رجالٍ وامرأتين كانوا قد آذوه إيذاءً شَديداً.
فقال- صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" فمنهم من قتل ومنهم من أسلم.
عباد الله! فلما كان الغد من يوم الفتح قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ومجَّدهُ بما هو أهله، ثم قال: "يا أيها الناس إن مكة حرَّمها الله، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لأحد أن يسفك فيها دماً، ولا أن يعضد فيها شجرة، فإن أحدٌ ترخص بقتال رسَّوَل الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح -أي بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب" (2).
عباد الله! وفي فتح مكة نزلت سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}.