"ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة للحبشة" بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدًا، وهم أجناس وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة ويقال أنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير قياس، وقد قالوا أيضًا: حبشان وأحبش وأصل التحبيش التجميع، ذكره في فتح الباري.
وعند ابن إسحاق أن سبب الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين يؤذون أصحابه ولا يستطيع أن يكفهم عنهم، قال: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". فخرجوا إليها مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: لما كثر المسلمون وظهر الإسلام أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم فبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين: "تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم"، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: "إلى هاهنا"، وأشار بيده إلى أرض الحبشة.
وذلك في رجب سنة خمس من النبوة.
فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا, وقيل: اثنا عشر رجلا, وأربع نسوة, وقيل: وخمس نسوة، وقيل: وامرأتين.
__________
"وذلك في رجب" بالصرف ولو كان معينًا ففي المصباح رجب من الشهور مصروف، "سنة خمس من النبوة" كما قاله الواقدي، وزاد: فأقاموا شعبان وشهر رمضان وفيه كانت السجدة وقدموا في شوال من سنة خمس، "فهاجر إليها ناس ذوو عدد منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا" عثمان بن عفان، وعبد الرحمن، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة هاربًا من أبيه بدينه، ومصعب، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمر والعامريان، وابن مسعود، كذا قال الواقدي.
قال في الفتح: وهو غير مستقيم مع قوله أول كلامه: كانوا إحدى عشر، فالصواب ما قاله ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب. وجزم ابن إسحاق بأن ابن مسعود إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما عند أحمد بإسناد حسن عنه، قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا، انتهى. وقال أبو عمر: اختلف في هجرة أبي سبرة إلى الحبشة، ولم يختلف في شهوده بدرًا، قال في النور: ولم أر أحدًا سماه.
"وقيل: اثنا عشر رجلا" وجزم في العيون والحافظ في سيرته إلا أن الأول ترك الزبير وذكر سليط بن عمرو وأهمل الثاني حاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء، وذكر بدلهما حاطب بن الحارث وهاشم بن عمرو، "وأربع نسوة" السيدة رقية مع زوجها عثمان، وسهلة بنت سهيل مع زوجها أبي حذيفة مراغمة لأبيها فارة عنه بدينها فولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، وأم سلمة مع زوجها، وليلى العدوية مع زوجها عامر بن ربيعة.
"وقيل: وخمس نسوة" هؤلاء الأربع وأم كلثوم بنت سهل بن عمرو زوج أبي سبرة، وبهذا جزم الحافظ اليعمري قائلا: لم يذكرها ابن إسحاق، وذكر ابن عبد البر وتبعه ابن الأثير في المهاجرات أم أيمن بركة الحاضنة. قال البرهان: وأظنها هاجرت مع رقية؛ لأنها جارية أبيها، انتهى. فلعل من أسقطها لكونها تبعًا.
"وقيل: وامرأتين" بالباء عطفًا على أحد عشر، وفي نسخة بالألف، أي: ومعهم امرأتان أو على لغة من يلزم المثنى الألف، وقيل: كانوا اثني عشر رجلا وثلاث نسوة، وقيل: عشرة رجال
وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهري وقال: لم يكن لهم أمير، وخرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال:
__________
وأربع نسوة. "وأميرهم" قال ابن هشام: فيما بلغني "عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة "وأنكر ذلك الزهري" محمد بن مسلم "وقال: لم يكن لهم أمير" ويحتمل أنهم أمروه بعد سيرهم باختيارهم ولم يؤمر المصطفى عليهم أحدًا، فلا خلف. "وخرجوا" سرًا من مكة "مشاة" ثم عرض لبعضهم الركوب، وانتهوا في خروجهم "إلى البحر" فهو متعلق بمحذوف لا صلة مشاة أو غلب المشاة لكثرتهم على الراكبين، فلا تنافي بينه وبين قول العيون والمنتقى والسبل: فخرجوا متسللين سرًا حتى انتهوا إلى الشعبية منهم الراكب ومنهم الماشي، والشعبية بمعجمة مضمومة ومهملة مفتوحة ساكنة فموحدة فتاء تأنيث: واد، كما قال الصغاني والمجد؛ كما في النور وفي السبل: مكان على ساحل البحر بطريق اليمن، لكن وقع في بعض نسخة الشعبية بزيادة ياء بعد الموحدة وهو تحريف من النساخ لقوله تصغير شعبة، إذ تصغيره بلا ياء وهو الذي في الذيل والقاموس, "فاستأجروا سفينة" جزم به تبعًا لفتح الباري، والذي في العيون وغيرها: فوفق الله ساعة للمسلمين جاءوا سفينتين للتجارة حملوهم فيهما "بنصف دينار" وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهما أحدًا، ويحتمل الجمع بأنهم استأجروا سفينة واحدة لقلتهم فضاقت عنهم لشحنها بالتجار وتجارتهم، فحملوهم في اثنتين، واستئجار واحدة لا ينافي الحمل في اثنتين، وهذا أقرب من إمكان أنهم استأجروا صاحب السفينتين على حملهم إلى مقصودهم في السفينتين أو مجموعهما، فاتفق حملهم بواحدة، فالمصنف نظر إلى الحمل وغيره لما وقع عليه التوافق؛ لأن فيه قصر حملهم في واحدة وأتى به مع قولهم: حملوهم فيهما."وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقيل: حاطب بن عمرو، وقيل: سليط بن عمرو، حكاهما اليعمري هنا وذكر في أزواج المصطفى، وتبعه المصنف ثم أن أم سلمة وزوجها أول من هاجر، فهي أربعة أقوال.
"وأخرج يعقوب بن سفيان" الحافظ الفسوي بالفاء "بسند موصول إلى أنس" وأما بعده فمرسل صحابي "قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال" صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله"، كما في نفس رواية يعقوب قبل قوله: "إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط" نبي الله هاجر من كوثي إلى حران ولما وصلوا الحبشة أقاموا عند النجاشي آمنين، وقالوا: جاورنا بها خير جار على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا
إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط.
فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصي، وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي, واسمه أصحمة, وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين ولم يقبل هديتهما.
__________
نسمع شيئًا نكرهه، "فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصي" القرشي السهمي الصحابي أسلم بعد ذلك على يد النجاشي وهي لطيفة صحابي أسلم على يد تابعي، ولا يعلم مثله. "وعبد الله بن أبي ربيعة" عمر بن المغيرة المخزومي المكي أسلم بعد وصحب وكان حسن الوجه ولاه صلى الله عليه وسلم الجندي ومخالفيها فلما حوصر عثمان جاء لينصره فوقع عن راحلته بقرب مكة فمات. "بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي" بفتح النون وتكسر وخفة الجيم فياء ثقيلة وتخفف، لقب قديم لملك الحبشة، قال الحافظ. وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح الحاء وكسر الطاء الخفيفة المهملتين وتحتانية خفيفة، "واسمه" كما في البخاري "أصحمة" بمهملتين بوزن أربعة، وفي مصنف ابن أبي شيبة: صحمة بحذف الهمزة، وحكى الإسماعيلي أصخمة بخاء معجمة، وقيل: أصحبة بموحدة بدل الميم، وقيل: صحبة بلا ألف، وقيل: مصحمة، بميم أوله بدل الهمزة ابن أبجر، وقيل: اسمه مكحول بن صصة، قال مغلطاي. ولقب ملك الترك خاقان، والروم قيصر واليمن تبع، واليونان بطليوس، واليهود القيطون، فيما قيل والمعروف مالخ، وملك الصابئة النمروذ ودهمز، وملك الهند يعفور، والزنج زغانة، ومصر والشام فرعون، فإن أضيف إليهما الإسكندرية سمي العزيز، ويقال المقوقس، ولملك العجم كسرى، ولملك فرغانة الأخشيد، ومل العرب من قبل العجم النعمان، وملك البربر جالوت.
"وكان معهما عمارة بن الوليد" بن المغيرة المخزومي، والذي في العيون: وكان عمرو بن العاصي رسولا في الهجرتين ومعه في أحداهما عمارة وفي الأخرى عبد الله، ثم قال في الهجرة الثانية ولم يذكر ابن إسحاق مع عمرو إلا عبد الله في رواية زياد. وفي رواية ابن بكير لعمارة ذكر. وفي الشامية: الصحيح أن في الأولى عمارة, وفي الثانية عبد الله، انتهى. وهو خلاف ما اقتصر عليه الحافظ في سيرته من أن عمرًا وعمارة ذهبا في الهجرة الثانية، انتهى. ورواه أحمد عن ابن مسعود "ليردهم" أي: ليرد النجاشي المهاجرين "إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما" أي: عمرًا وعبد الله "خائبين" لم يجبهما إلى ما طلبا "ولم يقبل هديتهما" ولم يذكر عمارة لأنه تبع لهما، لا لما تقدم أنه توحش ولم يعد لأن المتقدم إنما هو في الهجرة الثانية، نعم على ما صححه الشامي إن ثبت يكون المعنى لم يجبهما، وزاد عمارة: خيبة بفعله ذلك معه.