ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الأذى يشتد بأصحابه، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة: "فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام1.
وفي هجرة المسلمين إلى الحبشة لا بد بعرض سؤال: لماذا فكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحبشة ولم يفكر في غيرها من أقاليم الجزيرة العربية؟ الواقع أن تفكير النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحبشة ينطوي على معرفة كبيرة بالظروف وإلمام تام بأحوال الجزيرة العربية، كما أن فيه لفتة سياسية من جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- موجهة إلى قريش.
__________
1 ابن هشام 1/ 343.
لم يلجأ المهاجرون إلى قوم من العرب في الجزيرة العربية؛ لأن القبائل العربية كانت مرتبطة بقريش ارتباطًا تجاريًّا ودينيًّا قويًّا، وكان لبعضها محالفات وعقود مع قريش؛ وهي لذلك حريصة على حسن العلاقة مع قريش حرصها على مصالحها المادية؛ فلم تكن لذلك تستطيع إيواء الخارجين عليها، ثم هي تؤمن بزعامة قريش وتخضع لتشريعها الديني، وقد تجلى موقف القبائل واضحًا بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، فقد اتخذت جانب قريش في صراعها ضد يثرب وتحرشت بالمسلمين وحاربتهم في صفوف قريش.
أما اليمن فكانت الأحوال فيها غير مستقرة، والخلافات الداخلية تمزقها إلى جانب خضوعها للنفوذ الفارسي، ووقوعها في المجال التصارع الدولي الذي تعدى السياسة إلى الدين، فكان التنافس شديدًا بين المسيحية واليهودية فيها، وهي بذلك غير صالحة لأن يجد فيها المهاجرون المأوى الأمين. وكذلك كانت الحال في مملكة الحيرة ومملكة غسان.
كما لم تكن مدن الحجاز مهيأة في ذلك الوقت لقبول هجرة المسلمين إليها؛ فيثرب كانت تمزقها الخلافات الداخلية، ويقوم الصراع فيها على أشده بين قبائلها، هذا إلى علاقات قريش التجارية المتينة مع بطونها؛ سواء من اليهود أو من الأوس والخزرج. وخيبر كانت مدينة يهودية، وكانت صلات اليهود عامة طيبة مع قريش، فضلًا عن أن اليهود كانوا منصرفين إلى مصالحهم راغبين عن الدخول في عداء مع القبائل العربية.
وإذن فقد كانت بلاد الحبشة هي أقرب إقليم هادئ إلى مكة يمكن أن يجد المهاجرون فيه الأمن على حياتهم، كما يمكن أن يحصلوا فيه على معاشهم فقد كانت الحبشة متجرًا لقريش ووجهًا، وكان القرشيون يغشونها للتجارة فهم على معرفة بها وعلى خبرة بمزاولة العمل فيها. كما كانت تكمن وراء الهجرة إليها حكمة سياسية؛ فإن الحبشة كانت تطمع منذ أجيال في فتح الأقاليم العربية، وكان ملوك الحبشة يراقبون من أجل ذلك أحوال الجزيرة مراقبة شديدة، وقد سبق للحبشة أن أرسلت حملة لفتح مكة، ومع أن الحملة باءت بالفشل، ومع أن الحبشة خرجت من الجزيرة العربية كلها إلى أن الصراع الدولي على امتلاك طرق التجارة لم ينته بعد.
فالهجرة إلى الحبشة تؤدي إلى غرضين: الغرض الأول أن المهاجرين يلقون ترحيبًا من ملك الحبشة؛ أملًا في أن يتمكن بمساعدتهم من التدخل في شئون مكة الداخلية، وفعلًا لقي المهاجرون احتفاء وحسن معاملة من النجاشي1.
__________
1. ابن سعد 1/ 189.
والغرض الثاني هو لفت نظر قريش إلى أن عدوانها على المسلمين يضطرهم إلى الالتجاء إلى قوة خارجية ربما تتدخل لحمايتهم، فتتعرض مكة لغزو أجنبي أو تتعرض للإضرار بمصالحها الاقتصادية؛ ولذلك فإن مصلحتها أن تهادن المسلمين وتوقف عدوانها عليهم. وقد أوجست قريش خيفة من هذه الرحلة وحسبت لها حسابًا كبيرًا، فسارعت إلى إرسال بعثة إلى النجاشي تحمل الهدايا له ولرجاله وتطلب إليه رد هؤلاء المهاجرين، وربما لتحاول معرفة موقف الحبشة مع الوضع في مكة، مخافة أن تؤدي هذه الصلة الجديدة إلى أن تعاود الحبشة الكرة على مكة مرة أخرى. لكن البعثة فشلت مهمتها، وبقي المسلمون يتمتعون بالحرية والرعاية، فقد لفتت البعثة أنظار النجاشي نحو هؤلاء الفارين بدينهم إلى بلاده؛ فقدر تضحياتهم وعطف على موقفهم، فبذل العون لهم والرعاية1.
في هذه الأثناء دخل في الإسلام عناصر قوية من القرشيين فقد أسلم رجلان اشتهرا بالبأس والقوة، هما حمزة بن عبد المطلب2 وعمر بن الخطاب3 وكان كلاهما رجلًا قويًّا مرهوب الجانب جريئًا في إظهار رأيه والوقوف في وجه مخالفيه، وكان من اليسير أن يشتبك مع مناوئي الإسلام، فتسيل الدماء وتقع الحرب الأهلية التي كان الملأ حريصًا على عدم وقوعها. ولم يتأن الرجلان عن تحدي قريش، فاشتد بهما ساعد المسلمين وقويت قلوبهم واضطرت قريش إلى أن تهادن بعض الوقت حتى تدبر موقفها إزاء هذا الوضع الجديد، وقد وصلت أخبار هذه المهادنة مسامع المسلمين في الحبشة مبالغًا فيها، حتى لقد قيل: إن قريشًا تابعت النبي -صلى الله عليه وسلم- فعاد بعضهم إلى مكة لكنهم ما كادوا يصلون إليها حتى كانت قريش قد اتخذت لنفسها خطة أشد تجاه المسلمين ومن ينصرهم، فدخل بعضهم مكة في جوار بعض رجال قريش، فقد اعتبرتهم القبيلة خارجين عليها قد خلعوا أنفسهم منها فلم يكن لهم من حماية قبلية إلا في جوار -وعاد بعضهم أدراجه ومعهم عدد آخر أكبر من العدد الأول4.
__________
1 ابن هشام 1/ 356 -362 الطبري 2/ 73.
2 ابن هشام 1/ 412.
3 نفسه.
4 ابن سعد 1/ 190-192.
أدركت قريش أن ما تقوم به من الأذى للمسلمين لن يحول دون إقبال الناس على الدين الجديد، كما رأت بني هاشم يقومون دون النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تستطيع أن تبلغ به ما تريد؛ لذلك قررت أن توقع على هذا البطن القرشي عقوبة قاسية؛ لعلها تجبره على التخلي عن موقفه في حماية النبي -صلى الله عليه وسلم- وتضطره إلى تسليمه أو الكف عن نصرته، ورأت أن يكون عملها جماعيًّا ترتبط به كل البطون المكية وحلفاؤها، فبعد مشاورة عامة ائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب: على أن لا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئًا ولًا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم1.
وحصروا بني هاشم والمسلمين في شعب خارج مكة يسمى شعب أبي طالب، وقامت قريش على هذا الحصار الاقتصادي ثلاث سنين حتى أجهد المحاصرون أيما إجهاد، وكان يسمع صياح أطفالهم من شدة الجوع. ولكن أحدًا لم يضعف، وظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى دينه بين العرب. كما حفل القرآن بالآيات التي تشدد النكير على قريش2. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حلف الفضول الذي عقدته بعض بطون قريش وتعاهدت فيه على منع الظلم في مكة؛ قد تعطل، فلم يتنادى أصحابه بنصرة المظلومين ممن كان يقع عليهم العذاب، ويبدو أن الملأ من قريش كان يخشى أن يطالب بنو هاشم حلفاءهم من أصحاب الفضول بالوقوف إلى جانبهم، ومن أجل ذلك كان حرصهم على الإجماع وعلى التواثق على ذلك في صحيفة مكتوبة، وقد استجابت كل البطون القرشية -ماعدا بني هاشم وبني المطلب الذين وقفوا إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم بدافع عصبية العشيرة- لأنهم اعتبروا الدعوة الإسلامية ذات خطر على مكة يهدد الجميع بالخراب، لذلك اجتمعوا وتضامنوا على إيقاف هذا التيار.
وكان هذا العمل العدواني فرصة لأن يتسامع العرب في كافة أنحاء الجزيرة العربية بأنباء هذا الدين الجديد، حتى أحست قريش بفشل هذا الحصار، وبأن يوشك أن يؤدي إلى أزمة داخلية في مكة؛ فقد تحركت عاطفة الرحم في بعض القرشيين، فأخذوا يمدون المحصورين ببعض الطعام، ولما حاول زعماء قريش إيقاف هذا المدد حدثت
__________
1 ابن هشام 1/ 272.
2 انظر كلًا من سورة الأنبياء 98-100، الهمزة 1- 9، القلم10-15، الفرقان، 27، 29، الدخان 43-48.
مشاحنات واشتباكات كادت تؤدي إلى فتنة1، ثم تحزب بعض الرجال ضد الصحيفة وقاموا على نقضها، ورأى رجال الملأ أن الحصار قد فشل في إجبار المحصورين على التسليم، وأن الفتنة أوشكت أن تحدث في مكة، فاضطروا إلى تمزيق الصحيفة، وعاد بنو هاشم المسلمون إلى دورهم وإلى مزاولة حياتهم العادية2 في مكة، وإن كانت قريش قد استمرت في سياسة المقاومة والعدوان.
لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلبث بعد نقض الصحيفة أن أصيب بصدمة شديدة كان لها وقع شديد الأثر في نفسه، كما كان لها أثر كبير في تغيير اتجاهه في سياسة الدعوة الإسلامية؛ فقد أصيب بفقد زوجته خديجة، تلك الزوجة الصالحة التي كانت ملاذه في شدته، وكانت بإيمانها ومواساتها ملجأه يجد في جوارها راحة نفسه. كما أصيب بموت عمه أبي طالب الذي كان بمثابة الستار الذي يحول بين محمد وبين مواجهة خصومه وجهًا لوجه. وبفقد زوجته فقد التأييد المعنوي النفسي القريب، كما فقد بموت عمه التأييد الأدبي والمادي، وكان فقدهما لذلك عظيم الوقع في نفسه حتى سمي عام موتهما بعام الحزن3.
وبدت بيئة مكة -المتمسكة أشد التمسك بتقاليدها، الحريصة على مصالحها المادية -غير صالحة لنشر المبادئ الجديدة؛ لذلك اضطر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تخفيف نشاطه في الدعوة بين أهل مكة، وفكر تفكيرًا جديًّا في مكان آخر يكون أصلح للدعوة، وأخذ ينتهز بعد هذا العام كل فرصة من الفرص التي يجتمع فيها الناس في المواسم العامة التجارية والدينية ليعرض على رؤساء القبائل دعوته الجديدة ويدعوهم لقبولها، وليعرض عليهم الانتقال إلى أرضهم4. ولم يفد محمد -صلى الله عليه وسلم- من عرضه نفسه على القبائل شيئًا، إذ كانت هذه القبائل تحترم قريشًا وتحرص في الوقت نفسه على حسن العلاقة معها حرصًا على مصالحها المادية المرتبطة بتجارة قريش. على أن قريشًا لم تأل جهدًا في الدعاية ضد دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان رجالها يتبعونه في كل مكان، يعارضون دعوته ويحذرون القبائل من
__________
ابن هشام 1/ 376.
2 نفسه 1/ 397- 400.
3 ابن هشام 2/ 25-26، ابن سعد 1/ 195، الطبري 2/ 80.
4 ابن هشام 2/ 31-32.
متابعته، وكان لهذا أثره الشديد في منع القبائل من قبوله؛ إذ إنها ظنت أن لو كان فيه خير لتابعه أهله، ونال محمد -صلى الله عليهوسلم- أذى في نفسه وفي أصحابه، وقد تحرج مركزه في مكة حتى إنه حين رفضت قبيلة ثقيف بالطائف -وقد ذهب إليها يعرض عليهم دعوته والانتقال إليهم- لم يستطع حين عاد أن يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي زعيم بني نوفل من قريش؛ لأن القبيلة أصبحت تنظر إليه نظرتها إلى رجل ثار عليها وخلع نفسه منها1.
ثم عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته على رجال من أهل يثرب -من الأوس- قدموا مكة يلتمسون حلف قريش على قومهم من الخزرج؛ فلم يظفروا بالحلف، وكذلك لم يسلموا2، ولكنهم حين عادوا إلى بلدهم ذكروا أمر هذا الداعي الجديد، وكان لذكرهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقع ما لبث أن ظهر أثره في العام التالي؛ فإنه قدم الموسم نفر من الخزرج عددهم ستة رجال، لقيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرض عليهم الإسلام فما أبطئوا أن أسلموا، وكان لإسلامهم السريع دوافعه، فلقد كان عرب يثرب يساكنون اليهود، واليهود أهل الكتاب وكان العرب وثنيون فكان اليهود يعيرون العرب وثنيتهم، كما كان العرب ينازعون اليهود الغلب في يثرب ويصارعونهم، وقد عز العرب آخر الأمر، فكان اليهود يهدودنهم بقرب ظهور نبي قد أظل زمانه يتبعونه فيقتلونهم معه قتل عاد وإرم3. كما أن الخزرج كانوا حديثي عهد بهزيمة حلت بهم أمام الأوس وحلفائهم من قبائل اليهود في يوم بعاث؛ فلما ذكر رجال الأوس ظهور النبي ومحادثته لهم في مكة، خشي الخزرج أن يسبقهم اليهود أو يسبقهم الأوس إليه فيتحقق تهديد اليهود، فلما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء النفر من الخزرج حين لقيهم في مكة قال بعضهم لبضع: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه4.
ولقد أوقف هؤلاء الخزرجيون النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحالة في بلدهم ووعدوه بالدعوة للإسلام في يثرب، كما بشروه بالفوز لو قدر له أن تجتمع قبائل يثرب عليه، فقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله
__________
1 نفسه 2/ 72.
2 ابن هشام 1/ 416، 2/ 28- 31.
3 نفسه 3/ 77.
4 نفسه 2/ 38.
بك، فسنقوم عليه فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك1.
وكانت الاستجابة في يثرب سريعة، حتى لم تبق دار من دورها إلا وفيها ذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-2، ولم يكد العام ينصرم حتى وافى الموسم اثنا عشر رجلًا لم يكونوا كلهم من الخزرج بل كان منهم ثلاثة من الأوس، فقد كان التنافس قائمًا بين القبيلتين، وما كانت الأوس لتترك الخزرج تنفرد بالأمر دونها، وكل ذلك بطبيعة الحال في صالح النبي -صلى الله عليه وسلم. ولقي النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء النفر عند العقبة -وهي مكان بين منى ومكة، بينها وبين مكة نحو ميلين3- فعقد لهم بيعة عرفت بيعة العقبة الأولى، بايعوه على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم. ولا يعصوه في معروف؛ فإن وفوا فلهم الجنة وإن غشوا من ذلك شيئًا فأمرهم إلى الله إن شاء غفر وإن شاء عذب4. لم يشترط عليهم عداء أحد ولا منابذته بحرب؛ وإنما كانت كلها شروطًا دينية خلقية، وقد سميت هذه البيعة فيما بعد بيعة النساء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بايع على نفس هذه الشروط نساء قريش حين أسلمن بعد فتح مكة، وقد وردت صيغة هذه الشروط في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة] .
ولما عاد هؤلاء الرجال إلى بلدهم أرسل معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد أصحابه من السابقين إلى الإسلام وهو مصعب بن عمير -وهو فتى من بني عبد الدار، اشتهر بشدة الإخلاص للإسلام، ولقي من خلاف أهله أذى كبيرًا5- وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ، ويحدثنا ابن إسحاق أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه
__________
1 نفسه.
2 نفسه ص 39.
3 ياقوت 14/ 134.
4 ابن هشام 2/ 41.
5 أسد الغابة 4/ 368- 369.
بعض1، وهذا يعطينا فكرة عن مقدار الخلاف بين أهل يثرب، وأنهم كانوا في حاجة إلى عنصر خارجي يجتمعون عليه، وهذا ما يسر للنبي -صلى الله عليه وسلم- مهمته في المدينة.
وفي المدينة أثبت مصعب بن عمير أنه جدير باختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فعلى نجاحها أو فشلها يتوقف مصير الإسلام في يثرب التي تموج بالخلافات وتضطرم فيها العصبية، فكان الداعي اللبق الفطن يدعو إلى سبييل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويأخذ الأمر بالأناة والصبر والرفق، وكان فتى اجتمعت فيه خصال قومه الحميدة وأهمها الحلم الذي سادت به قريش العرب. وبمثل هذه الأناة والصبر والموعظة الحسنة استطاع مصعب بن عمير أن ينشر الإسلام في يثرب، وأن يكتسب إلى جانبه أكبر زعيمين في قبيلة الأوس، وهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير اللذان كانا لإسلامهما أثر كبير في دخول بطون برمتها في حظيرة الإسلام، كما كانا بعد ذلك من أشد أنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- إخلاصًا وتفانيًا في نصرة الدولة الإسلامية في يثرب2.
وبذلك مهد مصعب السبيل في يثرب لدار يهاجر إليها المسلمون من مكة، ولتكون بعد ذلك دارًا يطمئن فيها الإسلام ويعتز فيه المسلمون، ثم تكون بعد ذلك قاعدة للدولة العربية الموحدة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم للدولة الإسلامية التي امتد لواؤها في مشارق الأرض ومغاربها في عهد الراشدين من بعده.
وبعد عام عاد مصعب إلى مكة ووفد معه في موسم الحج جماعة من المسلمين كان عددهم ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين، التقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في إحدى الليالي سرًّا بالعقبة حيث بايعوه بيعة العقبة الثانية، ويحدثنا ابن إسحاق أنه قد حضرها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له3، وهذا يدلنا على شدة الرابطة بين بني هاشم والنبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من دخولهم في الإسلام، هذه الرابطة التي ظلت بعد ذلك قوية وكان لها أثر واضح حين هاجر النبي ووقع الصراع بين مكة والمدينة، ومن أجل ذلك أطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس على الأمر، ومن أجل ذلك حضر العباس ليلة العقبة ليستوثق لابن أخيه.
وعند العقبة استوثق الطرفان كل لنفسه؛ فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد طلب أن يبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وأما أهل يثرب فقد سألوه: أتراه تاركهم
__________
1 ابن هشام 2/ 42.
2 ابن هشام 2/ 42- 46.
3 نفسه 2/ 49.
وراجع إلى قومه إن هم فعلوا وأظهره الله، فطمأنهم بأن ذكر صيغة العهد الذي كانت تقولها العرب عند الحلف والجوار: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم"1. فلما تمت البيعة طلب النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم أن يُخرجوا له من بينهم اثني عشر نقيبًا؛ ليكونوا على قومهم كفلاء، وهو كفيل على قومه، فأخرجوا له تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس2.
وتسمى هذه البيعة بيعة العقبة الثانية أو بيعة العقبة الكبرى أو بيعة الحرب. وهذه البيعة حددت الوضع القانوني للنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أهل يثرب، فهي قد اعتبرت النبي واحدًا من أهل يثرب دمه كدمهم وحكمه كحكمهم، وقضت ضمنًا بخروجه من عداد أهل مكة، فانتقلت بذلك تبعية النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى يثرب، وهذا النوع من تغيير الجنسية في تعبيرنا الحديث، ولهذا أخفى المسلمون أمر هذه الببيعة وأمر هذا الشرط وبخاصة عند قريش؛ لأن الفترة الواقعة بين هذه البيعة وبين وصول النبي إلى يثرب فترة لا يستطيع فيها اليثربيون أن يحموا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه بعيد عنهم، وقد اشترطوا فعلًا أن تبدأ حمايتهم له بعد وصوله إلى يثرب لا قبل ذلك. وكان في استطاعة أهل مكة بعد أن نبذهم النبي - صلى الله عليه وسلم- وخرج من عدادهم أن ينالوه بأي أذى؛ لأنه خرج عليهم ولأنه أصبح بذلك محرومًا من كل حماية قبلية.
وكان لقريش عيون أخبروها خبر البيعة، ولكن أهل يثرب ممن كانوا في موسم الحج ولم يعرفوا خبر العقبة، أكدوا لقريش عدم حدوث مثل هذا الأمر حين جاءت تستوثق مما بلغها، وبذلك استطاع المسلمون من أهل يثرب أن يعودوا إلى بلدهم آمنين؛ إلا أحد النقباء وهو سعد بن عبادة الخزرجي لحقته قريش؛ فقبضت عليه وكادت تبطش به لولا أن أجاره بعض أهل مكة ممن كان يجير لهم تجاراتهم في بلده.
ثم تسلل المسلمون من مكة أفرادًا وجماعات مهاجرين إلى يثرب، يستخفي بهجرته من يخشى على نفسه، ويستعلن بها من يجد في نفسه القدرة على التحدي، وحاولت قريش أن ترد من استطاعت رده إلى مكة لتفتنه عن دينه أو لتعذبه وتنكل به، وبلغت من ذلك أنها كانت تحول بين الزوج وزوجه إن كانت المرأة من قريش فلا تدعها تسير معه، وأنها كانت تحبس من لم يطعها وتستطيع حبسه؛ لكنها لم تكن تقدر
__________
1 ابن هشام 2/50.
2 نفسه 2/ 51-55.
على أكثر من ذلك حتى لا تكون حربًا أهلية بين مختلف بطونها إن هي همت بقتل واحد من هذه البطون، وإن كان بعض الموالي لقي حتفه في هذا السبيل. لكن الهجرة مع ذلك تمت وهاجر معظم المسلمين إلا من قدرت عليه قريش1.
وبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدري أحد أيبقى هو كما حدث في الهجرة إلى الحبشة، أم يهاجر في هذه المرة مثل أصحابه؟ وهذا الاحتمال الأخير هو الذي أخاف قريشًا، فإنه يستطيع من مهاجره الجديد أن ينظم جماعته، أو ينظم يثرب التي فشا فيها الإسلام بصورة تنبئ عن أنها ستكون مدينة إسلامية بعد وقت وجيز، ولو تم ذلك لهددت مكانة قريش الأدبية والدينية، لقيام هذا الدين الجديد الذي يسعى لتحطيم الوثنية في بلاد العرب، ويقضي بذلك على زعامة قريش الروحية ولهددت تجارة مكة تهديدًا خطيرًا لو وقف منها محمد موقف العداء والمخاصمة، وهو لا بد واقف هذا الموقف إن عاجلًا أو آجلًا، لما ألحقته به وبأصحابه من أذى، ولأنه يسعى لإقرار مبادئ جديدة لا بد لإقرارها من تشكيل جماعي وسياسي جديد، ولا بد أن نمى إليهم أنه يستعد للخروج، إذ كيف يخفى على أهل مكة ذلك مع أن أهل يثرب كانوا يتوقعونه وكانوا -كما تحدث الروايات- يخرجون إلى ظاهر المدينة ينتظرونه حتى تغلبهم الشمس.
لذلك مشى رجال قريش إلى بعضهم، وعقدوا اجتماعًا عامًّا في دار الندوة وتداولوا فيه الأمر، واستعرضوا كافة احتمالات الموقف ثم قر رأيهم على ضرورة التخلص من محمد شخصيًّا بالقتل، على أن يكون قتلًا جماعيًّا يشترك فيه كل بطن من بطون القبيلة بفتى يضربه مع الآخرين؛ حتى يتفرق دمه وتعجز عشيرته عن حرب كل البطون فترضى بالدية2، وتتتخلص قريش من محمد وتنجو مكة من الحرب الأهلية؛ ويعود إليها كل أبنائها المهاجرين وتعود لها وحدتها كما كانت، ثم تسير في تأكيد سيادتها وتحقيق مصالحها3. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من مكة قبل أن تستطيع القبيلة أن تحكم استعدادها، وأن تناله بما تريد، واستطاع بمهارة أن يفلت من مطاردة القوم، وكان موفقًا في خروجه توفيقًا كبيرًا، كانت عناية الله فيه من غير شك، فإن قريشًالم تترك وجهًا ولا مظنة اختباء إلا بحثت فيه؛ ولكنه نجا وهو منها قريب وإلى ذلك يشير القرآن الكريم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ
__________
1 ابن هشام 2- 26- 59.
2 ابن هشام 2/ 109.
3 نفسه 2/ 93-95.
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة] .
وكان هذا هو الهجرة، وقد نزل القرآن بهذه المناسبة، ففرض على الناس أن يقاوموا الباطل بكل قوة، فإن لم يجدوا مخرجًا؛ فإنه يجب عليهم أن يهاجروا، وعليهم أن يتبعوا مثل النبي: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء] {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء] . فالهجرة بهذا أصحبت سنة إسلامية، وكان الناس يتداعون إلى الهجرة أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده، وكانت من نتيجة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تكونت الدولة الإسلامية الأولى في يثرب، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الهجرة أساسًا لنيل حق الرعوية لهذه الدولة اليثربية، واستمر هذا الشرط إلى فتح مكة سنة 8هـ حتى انتهى شرط الهجرة وبقيت اختيارية، وهذا الشرط مذكور في آية قرآنية {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال] وبالهجرة بدأ دور جديد في تاريخ الدعوة الإسلامية عرف بالدور المدني، اختلف في ظروفه وآثاره عن الدور المكي.