«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ «يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.»
(القرآن الكريم، السورة 29، الآية 2)
كلما قضت الارادة الالهية بأن توحي إلى عصبة من الابرار أن يكونوا حملة مشاعل الحق لهداية الانسانية المتفسخة برزت بالضرورة عصبة من اولئك الذين يعقدون العزم على مقاومتهم حتى الموت، وانزال ضروب البلاء والتعذيب فيهم. والواقع ان عاصفة المعارضة الحقود أمر لا غنية عنه البتة في هذا المجال. والاضطهادات التي يخضع لها حملة مشاعل الحق إنما تكون بمثابة امتحان حاسم لصدق دواقعهم. إنهم يصبرون على الاهانات، ويتحملون المحن وضروب البلاء في ابتهاج وبشر، ولكنهم لا يتخلّون لحظة واحدة عن الحق الذي يمثّلون.
والواقع انهم يعيشون- إذا استطاعوا- للحق، ويموتون- إذا تعيّن عليهم ذلك- في سبيل الحق. وإلى هذا، فالمحن هي حقل الاختبار
الوحيد لتنمية فضائل الثبات والمثابرة التي بدونها لا يستطيع الانسان بلوغ الكمال الخلقي. فما لم تحدق بالمرء من أقطاره جميعا عقبات غامرة، وما لم يبتل بضروب الشدائد المبرّحة، فأنه لن يقوى على التخلّق بهاتين السجيّتين. ومن هنا، فأن البلايا التي تصيب أمثال هؤلاء الناس هي، في الواقع، نعم مقنّعة، مقصود بها أن تفضي إلى تهذيبهم الخلقي. وهناك، فوق هذا وذاك، هدف ثالث مراد. ذلك بأن الله الكلّي القدرة يريد ان يوقع في نفوس البشر ان النبتة التي تتعهدها اليد الالهية، مهما بدت هزيلة، قادرة على أن تصمد في وجه أشرس هبّات الريح المعادية. ووفقا لهذا الناموس الالهي، تعيّن على الرسول وصحابته ان يقاسوا على أيدي المكيين محنا لا تعدّ ولا تحصى.
في البدء، اتخذت معارضة المكيين لرسالة الاسلام شكل السخرية من الرسول والهزء به. إنهم لم يقيموا للحركة كبير وزن، متوهمين انها سوف تموت، في الوقت المناسب، ميتة طبيعية. لقد وقفوا منها موقف اللامبالاة والازدراء، وكأنها غير جديرة بأيّ اهتمام جدي. إنّ كل ما لقيه المؤمنون من إساآت المكيين، في تلك الايام، لم يعد السخرية المزدرية. كان اللجوء إلى العنف لا يزال، في اعتقادهم، أمرا لا ضرورة له. فكانوا إذا مرّوا بالمؤمنين ضحكوا وتغامزوا، هزؤا وسخرية. * وفي بعض الاحيان كانوا يزعمون أنه حالم متبطّل، نزّاع إلى نظم الشعر الركيك المضطرب، ولا بدان يهلك عما قريب. **
__________
(*) «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.» (السورة 83، الآيات 30- 34)
(**) «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.» (السورة 52، الآية 29- 30)
وكان من دأبهم ان يقولوا إنه مخالط في عقله. ولكن ما إن اتّبعه.
تدريجيا، رجال أولو علم ووجاهة حتى استشعر المكيون الخطر المحدق بهم. إنهم ما عادوا يقنعون بالهزء اللامبالي، بل عمدوا إلى العنف وذات يوم، كان الرسول في الكعبة ساجدا يصلي، فطرح ابو جهل على عنقه أحشاء ناقة. وإذ كان من مألوف عادته ان يغادر بيته لاقامة الصلاة مع الفجر، فقد اصطنعوا لمناكدته طريقة جديدة: كانوا يلقون في طريقه أغصان نباتات شائكة لكي يتعثر بها في الظلام. لقد أخذوا يقذفونه بالاقذار حينا، ويرشقونه بالحجارة حينا. وذات يوم انقضّ عليه جمع من اشراف قريش. فطرح احدهم، عقبة بن ابي معيط، رداءه حول عنقه وفتله حتى كاد أن يخنقه به. واتفق أن مرّ أبو بكر، آنذاك، بالمكان، فتدخل وانقذ الرسول، قائلا: «أتريدون أن تقتلوا رجلا لا لشيء إلا لأنه يقول ربي الله؟» ولكن المؤمنين غير المنتسبين إلى بيت من بيوتات قريش النبيلة، وبخاصة العبيد منهم رجالا كانوا أم نساء، هم الذين قدّر عليهم أن يحملوا العبء الأكبر من اضطهاد المكيين. فقد أخضع هؤلاء لأفظع أشكال التعذيب. وبلال الحبشي، أخضعه سيده- لكي يحمله على الارتداد عن الاسلام- لأقسى أنواع الألم الجسدي وأبعده عن الرحمة. ولكن التعاليم الاسلامية كانت تتمتع بسحر يجعل معتنقيها أقوى من أن يتأثروا بهذه المحن كلها.
كانوا يؤثرون الموت نفسه على التنكّر للاسلام الذي رسخ في أعماق قلوبهم. وكان اضطهاد بلال يجري على الوجه التالي: كان مولاه يكرهه على الاستلقاء على الرمل المتقد تحت شمس الصحراء المحرقة في الظهيرة. وكانت ألواح من الحجارة ثقيلة توضع على صدره، وعلى الرغم من هذا التعذيب المبرّح إلى أبعد الحدود كان لا يفتأ يردّد مغشيّا عليه: «أحد، أحد» ، أي ليس ثمة غير إله واحد. وعذّب والد عمّار، ياسر، وأمه سميّة، تعذيبا موغلا في البربرية. والواقع
ان قصة تعذيبهما تقشعر لهولها الابدان- لقد شدّت رجلا ياسر إلى بعيرين، ثم عمد مضطهدوه إلى سوق البهيمتين في اتجاهين معاكسين، وهكذا مزّق جسده تمزيقا وحشيا. وقتلت سميّة بطريقة لا تقلّ عن هذه وحشية ولكنّها أدعى إلى الخزي. وكانت لبينى جارية عمر [بن الخطاب] ، فكان قبل إسلامه يوسعها ضربا حتى يكلّ.
وكان من دأبه بعد ذلك أن يقول: «سوف اتركك الآن. لا إشفاقا عليك، ولكن لأني تعبت من ضربك.»
وحتى المؤمنون من ذوي المحتد النبيل لم ينجوا من التعذيب. كان أهلهم وعشيرتهم هم الذين ينزلون بهم ضروب الأذى. فعثمان [بن عفان] كان ينتسب إلى بيت كريم ويحتل منزلة اجتماعية رفيعة. ومع ذلك، فقد أوثقه عمه بحبل وضربه ضربا مبرّحا. أما معاملة عمر لأخته وصهره فقد سبقت منا الاشارة اليها. والزبير لفّ في حصيرة وأكره على استنشاق الدخان. وابو بكر نفسه لم ينج من الاذى. لقد اخضع المسلمون جميعا، من غير تمييز، لكل ضرب من ضروب القسوة يستطيع المرء أن يتخيله، ولكن أيما محنة مهما تكن لم تقو على تجريد قلوبهم من حب الاسلام. وذهل المكيون أنفسهم لهذا الولاء العنيد الذي تكشّفوا عنه. ولكن ثباتهم هذا ارّث غيظ معذبيهم فلجأوا إلى اضطهادهم على نحو أقسى من ذي قبل وأعنف.