"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة" فيما جزم به ابن إسحاق وغير واحد من العلماء وقيل: خمسًا وعشرين سنة، رواه ابن عبد البر عن محمد بن جبير وعبد الرزاق عن ابن جريج عن مجاهد، وجزم به موسى بن قبة في معاوية ويعقوب بن سفيان في تاريخه، قال الحافظ: والأول أشهر، ويمكن الجمع بأن الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء.
وحكى الأزرقي: أنه كان غلامًا، قال الحافظ: ولعل عمدته ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: لما بلغ صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت الكعبة امرأة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فذكر القصة، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، حكى الأخير المصنف ولعله غلط قائله.
وأما قول الشامي ما حاصله: وسن المصطفى خمس وثلاثون سنة، وقيل: قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وقيل: ابن خمس وعشرين وغلط قائله فعجيب، فإن الثالث هو عين الثاني،
خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا باقوم -بموحدة فألف فقاف مضومة فواو ساكنة فميم- القبطي مولى سعيد بن العاصي..........................
__________
وليس بغلط بل هو قوي، ولذا احتاج الحافظ للجمع بينه وبين الأول كما ترى، وممن ذكر جمعه الشامي. وأما ما رواه ابن راهويه عن علي: أنه صلى الله عليه وسلم كان حينئذ شابًا فهو يأتي على جميع الأقوال.
"خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول" فيما حكاه في العيون والفتح عن موسى بن عقبة، قال: إنما حمل قريشًا على بنائها أن السيل أتى من فوق الردم الذي بأعلى مكة فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء، وقيل سبب ذلك احتراقها، فروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الزهري: أن امرأة أجمرت الكعبة فطارت شرارة في ثيابها فأحرقتها، وروى الفاكهي عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كانت الكعبة فوق القامة فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وروى ابن راهويه عن علي في حديث: فمر عليه الدهر فبنته قريش، حكاه في الفتح، وقيل: إن السيل دخلها وصدع جدرانها بعد توهينها.
وقيل: إن الأنفر أسرقوا حلي الكعبة وغزالين من ذهب، وقيل: غزالا واحدًا مرصعًا بدر وجوهر، وكان في بئر في جوف الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ويرفعوه حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، وجمع بأنه لا مانع أن سبب بنائهم ذلك كله.
وقال شيخنا: يجوز أن خشية هدم السيل حصل من الحريق حتى أوهن بناءها ووجدت السرقة بعد ذلك أيضًا، "فأمروا باقوم بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم" ويقال: باقول باللام الصحابي؛ كما في الإصابة، "القبطي" بالقاف نسبة إلى القبط نصارى مصر، "مولى سعيد بن العاصي" بن أمية، وفي الإصابة روى ابن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار عن عبيدة بن عمير، قال: اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميًا وكان في سفينة حبسها الريح فخرجت إليها قريش وأخذوا خشبها، وقالوا له: ابنها على بناء الكنائس، رجاله ثقات مع إرساله، انتهى.
فيحتمل أنهما اشتركا جميعًا في بنائها أو أحدهما بنى والآخر سقف وإنهما واحد وهو رومي في الأصل ونسب إلى القبط حلفًا ونحوه، وهذا هو الظاهر من كلام الإصابة، فإنه بعدما جزم بأنه مولى بني أمية، وذكر الرواية التي صرحت بأنه مولى سعيد منهم ذكر روايتي بنائه الكعبة وعمله المنبر، وقال في آخره: يحتمل أنه الذي عمل المنبر بعد ذلك ولم يقع عنده أنه قبطي وهو يؤدي ما في بعض نسخ المصنف النبطي بفتح النون والموحدة.
قال في الفتح: هذه النسبة إلى استنباط الماء واستخراجه وإلى نبيط بن هانب بن أميم بن
وصانع المنبر الشريف، بأن يبني الكعبة المعظمة.
__________
لاود بن سام بن نوح، انتهى.
فيحتمل أنه كان يستخرج الماء فنسب إليه وإن كان روميًا، ويؤيده قول بعضهم وكان نجارًا بناء فإن من جملة حرف البناء معرفة استخراج الماء من المواضع بأن يقول: الماء يوجد هنا أقرب من هنا فليست بتحريف.
"وصانع المنبر الشريف" النبوي المدني في أحد الأقوال كما يجيء إن شاء الله تعالى، وأخرج أبو نعيم بسند ضعيف عن صالح مولى التوءمة: حدثني باقوم مولى سعيد بن العاص، قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرًا من طرفاء الغابة ثلاث درجات المقعد ودرجتين. "بأن يبني الكعبة المعظمة" وذلك أنه كان بسفينة ألقاها الريح بجدة فتحطمت فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إليها، فابتاعوا خشبها وأعدوه لتسقيف الكعبة وكلموا باقوم الرومي في بنائها فقدم معهم.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم بعض ما يصلحها، قال: فهاب الناس هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام وهو يقول: اللهم لم ترع، بفوقية مضمومة فراء مفتوحة، أي: لم تفزع الكعبة فأضمرها التقدم ذكرها، وهذا أولى من إعادة السهيلي الضمير لله قائلا: لا روع هنا، فينبغي لكن الكلمة تقتضي إظهار قصد البر فيجوز التكلم بها في الإسلام، واستشهد بحديث: "فاغفر فدا لك ما أبقينا"، قال: وفي رواية: لم نزغ، أي: بفتح النون وكسر الزاي وغين معجمة، قال: وهو جلي لا يشكل، أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه، اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين الأسود واليماني وتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته عائدًا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسمنة جمع سنام، وهو أعلى الظهر للبعير، ومن رواه كالأسنة جمع سنان شبهها بالأسنة في الخضرة أخذ بعضها ببعض فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منها ليقلع بها بعضها، فلما تحرك الحجر تنغصت مكة بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس وبنوا عليه.
وفي رواية: لما شرعوا في نقض البناء خرجت عليهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء البطن، فمنعتهم من ذلك فاعتزلوا عند مقام إبراهيم فتشاوروا، فقال لهم الوليد: ألستم تريدون بها الإصلاح؛ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين ولكن لا تدخلوا في
وحضر صلى الله عليه وسلم وكان ينقل معهم الحجارة، وكانوا يضعون أزرهم.........
__________
بيت ربكم إلا طيب أموالكم، وتجنبوا الخبيث فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
وعند موسى بن عقبة، أنه قال: لا تجعلوا فيها مالا أخذه غصبًا ولا قطعت فيه رحم، ولا
انتهكت فيه حرمة.
وعند ابن إسحاق: أن الذي أشار عليهم بذلك هو أبو وهب بن عمر بن عامر بن عمران بن مخزوم ففعلوا ودعوا، وقالوا: اللهم إن كان لك في هدمها رضى فأتمه وأشغل عنا هذا الثعبان، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ظهره أسود وبطنه أبيض ورجلاه صفراوان والحية على جدار البيت فأخذها ثم طار بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن الله قبل عملكم ونفقتكم.
وفي التمهيد عن عمرو بن دينار: لما أرادت قريش بناء الكعبة خرجت منها حية فحالت بينهم وبينها فجاء عقاب أبيض، فأخذها ورمى بها نحو أجياد، انتهى.
وعن ابن عباس: أنها الدابة التي تخرج في آخر الزمان تكلم الناس اختطفها العقاب، فألقاها الحجون فابتلعتها الأرض، وقيل: الخارجية فصيل ناقة صالح وهما غريبان.
وروى ابن راهويه في حديث عن علي: فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان صلى الله عليه وسلم أول من خرج فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل.
وذكر الطيالسي، أنهم قالوا: نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فكان صلى الله عليه وسلم أول من دخل منه، فأخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه ثم أخذه فوضعه بيده.
وذكر الفاكهي وابن إسحاق أن الذي أشار عليهم أن يحكموا أول داخل أبو أمية المخزومي أخو الوليد، وعند موسى بن عقبة أن المشير أخوه الوليد.
قال السهيلي: وذكر أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي، فصاح بأعلى صوته، يا معشر قريش، أقد رضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم غلام يتيم دون ذوي أسنانكم، فكاد يثير شرًا بينهم، ثم سكتوا.
وحكى في الروض: أنها كانت تعة أذرع من عهد إسماعيل، يعني طولا، ولم يكن لها سقف فلما بنتها قريش زادوا فيها تسعة أذرع ورفعوا بابها على الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم. وقال الأزرقي: كان طولها سبعة وعشرين ذراعًا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعًا أدخلوها في الحجر.
"وحضر صلى الله عليه وسلم" بناءها "وكان ينقل معهم الحجارة" من أجياد "وكان يضعون أزرهم" جمع
على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم فلبط به -بالموحدة، كعنى أي سقط من قيامه كما في القاموس- ونودي: عورتك، فكان ذلك أول ما نودي.
__________
إزار، يذكر ويؤنث، "على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم" بأمر العباس، فروى الشيخان عن جابر، قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: "إزاري إزاري"، فشد عليه إزاره، فما رئي بعد ذلك عريانًا. "فلبط به بالموحدة، كعنى" فهو من الأفعال التي جاءت بصيغة المبني للمفعول، وهي بمعنى المبني للفاعل، "أي: سقط من قيامه؛ كما في القاموس، ونودي" يا محمد، غط "عورتك" روى عبد الرزاق والطبراني والحاكم عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدور وكانت ذات ركنين، فأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبًا من جدة انكسرت فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارًا فقدموا به وبالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرًا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها، فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانًا بعد ذلك.
ففي قول السراج بن الملقن في شرح البخاري: لعل جزعه لانكشاف جسده، وليس في الحديث، يعني حديث جابر المتقدم أنه انكشف شيء من عورته تقصير؛ لأنه وإن لم يكن فيه فقد ورد في غيره، وخير ما فسرته بالوارد نعم ليس المراد العورة المغلظة.
"فكان ذلك أول ما نودي" زاد في رواية أبي الطفيل: فما رأيت له عورة قبل ولا بعد، وذكر ابن إسحاق في المبعث: وكان صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: "لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم لذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل وإزاري عليّ من بين أصحابي".
قال السهيلي: إنما وردت هذه القصة في بنيان الكعبة، فإن صح أن ذلك كان في صغره فهي قصة أخرى، مرة في الصغر، ومرة بعد ذلك، قلت: قد يطلق على الكبير غلام إذا فعل فعل الغلمان فلا يستحيل اتحاد القصة اعتمادًا على التصريح بالأولية في حديث أبي الطفيل، كذا في
فقال له أبو طالب أبو العباس: يابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: "ما أصابني ما أصابني إلا من التعري". خاتمة.
__________
فتح الباري. وجمع في كتاب الصلاة بحمل ما عند ابن إسحاق على غير الضرورة العادية، وما في حديث جابر على الضرورة العادية، والنفي فيها على الإطلاق، أو يتقيد بالضرورة الشرعية؛ كحالة النوم مع الأهل أحيانًا، انتهى.
"فقال له أبو طالب أو العباس" شك من الراوي "يابن أخي، اجعل إزارك على رأسك" وكأنه توهم أن سقوطه من جعله على رقبته، لا من كشف عورته ولا يشكل أنه نودي عورتك؛ لجواز أنه لم يسمع النداء وإنما سمعه المصطفى، فقال: "ما" نافية "أصابني ما" الذي "أصابني" من السقوط "إلا من التعري".
خاتمة:
اختلف في أول من بنى الكعبة، فذكر المحب الطبري في منسكه قولا: أن الله وضعه أولا لا ببناء أحد، وروى الأزرقي عن علي بن الحسين: أن الملائكة بنته قبل آدم. وروى عبد الرزاق عن عطاء، قال: أول من بنى البيت آدم. وعن وهب بن منبه: أول من بناه شيث بن آدم. وفي الكشاف: أول من بناه إبراهيم، وجزم به ابن كثير، زاعمًا أنه أول من بناه مطلقًا إذ لم يثبت عن معصوم أنه كان مبنيًا قبله.
قلت: ولم يثبت عن معصوم أنه أول من بناه. وقد روى البيهقي في الدلائل عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة بناء آدم لها، ورواه الأزرقي وأبو الشيخ وابن عساكر، عن ابن عباس موقوفًا وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيًا، وأخرج الشافعي عن محمد بن كعب القرظي، قال: حج آدم فلقيته الملائكة، فقالوا: بر نسكك يا آدم. وقد روى ابن أبي حاتم، من حديث ابن عمر: أن البيت رفع في الطوفان فكان الأنبياء بعد ذلك يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإبراهيم فبناه على أساس آدم وجعل طوله في الساء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعهم، وأدخل الحجر في البيت ولم يجعل له سقفًا وجعل له بابًا وحفر به بئرًا عند بابه يلقى فيها ما يهدى للبيت؛ فهذه الأخبار وإن كان مفرداتها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا ثم العمالقة ثم جرهم، رواه ابن أبي شيبة وابن راهويه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، عن علي: أن بناء إبراهيم لبث ما شاء الله أن يلبث ثم انهدم فبنته العمالقة ثم انهدم، فبنته جرهم ثم قصي بن كلاب نقله الزبير بن بكار وجزم بن الماوردي، ثم قريش فجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعًا وفي رواية: عشرين، ولعل راويها جبر بالكسر ونقصوا من طولها ومن عرضها أذرعًا أدخلوها