(فصل) وكان صلح الحديبية في ذي القعدة وكان عدد المسلمين ألفا وأربعمائة وساقوا سبعين بدنة واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في مخرجه ذلك على المدينة تميلة بن عبد الله الليثي وكان سبب بيعة الرضوان ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان الى مكة فأشيع قتله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما والله لئن قتلوه لأناجزنهم فدعا الناس الى البيعة فبايع بعضهم على الموت وبعضهم قتال (بدء الفجور) بالهمز أي ابتداؤه (وثناه) بكسر المثلثة وروى وثناه بضم المثلثة أي عوده ثانية
(فصل) وكان صلح الحديبية (الفا وأربعمائة) في رواية البخاري خمس عشرة مائة قال في التوشيح والجمع انهم كانوا الفا وأربعمائة وزيادة لا تبلغ المائة فالاول الغى الكسر والثاني جبره ومن قال الفا وثلثمائة فعلى حسب اطلاعه وقد روى الفا وستمائة والفا وسبعمائة وكانه على ضم الاتباع والصبيان ولابن مردويه عن ابن عباس كانوا الفا وخمسمائة وخمسة وعشرين وهذا تحرير بالغ انتهى ومر عن البغوي انهم كانوا سبعمائة وانهم (ساقوا سبعين بدنة) لتكون كل بدنة عن سبعة فان صح حمل على انهم كانوا كذلك أوّل خروجهم ثم لحقهم من لحق بعد ذلك (تميلة) بضم الفوقية وفتح الميم (بعث عثمان الى مكة) وكان بعثه بمشورة عمر بن الخطاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد بعثه قبله فقال انى أخاف قريشا علىّ وليس بمكة من بنى عدى أحد يمنعنى وقد عرفت قريش عداوتي اياها وغلظتي عليها فدله على عثمان وسبب ذلك كله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية أرسل خراش بن أبى أمية الخزاعي الى مكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ اشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وارادوا قتله فمنعهم الاحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكره ابن اسحاق وغيره عن أهل العلم (فاشيع قتله) قال ابن اسحاق لما خرج عثمان الى مكة لقيه ابان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته وحمله بين يديه ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت عظماء قريش لعثمان حين فرغ من اداء الرسالة ان شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قتله (فبايع بعضهم على الموت) قال ابن اسحاق قال بكر بن الاشج بايعوه على الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على ما استطعتم (وبعضهم) بايع (على ان
على أن لا يفروا المعنى واحد وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم احدى يديه على الأخرى وقال هذه لعثمان وبايع سلمة بن عمرو بن الاكوع ثلاث مرات متفرقات وبايع عبد الله بن عمر قبل أبيه وذلك ان أباه بعثه وهو يستلئم للقتال ليأتيه بخبر النبى صلى الله عليه وسلم فوجده يبايع الناس فبايع ثم رجع فأخبر أباه وكان أوّل من بايع سنان بن وهب الاسدي ولم يتخلف أحد ممن حضر عن البيعة الا الجد بن قيس السلمى قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه فكانى أنظر اليه لاطئا بابط ناقته مستترا بها* وأما الشجرة المذكورة فكانت سمرة وطلبت من العام المقبل يفر) وكان جابر بن عبد الله ومعقل بن يسار ممن بايع هذه البيعة (والمعنى) كما قال أبو عيسى الترمذي (واحد) بايعه جماعة على الموت أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا لا نفر (فضرب صلى الله عليه وسلم باحدى يديه على الاخرى وقال هذه لعثمان) أخرجه البخاري والترمذي عن عثمان بن عبد الله بن موهب بفتح الميم والهاء عن عبد الله بن عمرو وفي رواية فقال بيده هذه يد عثمان أي بدلها في رواية الترمذي وكانت يسري رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيمانهم لهم قلت فيه اشارة الى انه صلى الله عليه وسلم علم عدم قتله والا لم ينب عنه في المبايعة فحينئذ يعد عثمان من أهل بيعة الرضوان كما يعد من البدريين وفي كلا المشهدين قد شهد له صلى الله عليه وسلم بذلك أما في بدر فبقوله ولك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه وأما هنا فالمبايعة المذكورة (سلمة) بفتح اللام (ابن) عمرو ابن (الاكوع) إسم الاكوع جد سلم سنان ذكره ابن عبد البر وغيره (ثلاث مرات متفرقات) كما رواه مسلم عنه قال دعانا للبيعة في أصل الشجرة فبايعته في أوّل الناس ثم بايع وبايع حتي اذا كان في وسط الناس قال بايع يا سلمة قلت قد بايعتك في أوّل الناس يا رسول الله قال وأيضا ورآني اعزل فأعطاني حجفة ثم بايع حتى اذا كان في آخر الناس قال ألا تبايعنى يا سلمة قلت قد بايعتك يا رسول الله في أوّل الناس وفي أوسط الناس قال وأيضا فبايعته الثالثة وذكر تمام الحديث وفي مبايعته صلى الله عليه وسلم لسلمة ثلاث مرات اشارة الى أنه سيحضر ثلاثة مشاهد ويكون له في كل منها غناء وكان الامر كذلك فاتصل بالحديبية غزوة ذي قرد واتصل بها فتح خيبر (يستلئم) أي يلبس لامته (وكان أوّل) بالنصب خبر كان مقدم (من بايع سنان) بالرفع اسمها مؤخر ويجوز عكسه (ابن وهب الاسدى) كذا وقع هنا والصواب كما قال الواقدي أبو سنان قال السهيلي واسمه وهب بن محصن الاسدى أخو عكاشة بن محصن ثم نقل عن الواقدي وموسى بن عقبة انه كان أسن من أخيه عكاشة بعشرين سنة شهد بدرا وتوفي يوم بنى قريظة والذى ذكره المصنف انما هو ابنه وهو بدرى أيضا توفي سنة ثلاث وثمانين ولابن منده وأبي نعيم انه وهب بن عبد الله بن محصن وهو خلاف الصواب أيضا (الجد) بفتح الجيم (السلمي) بفتح اللام نسبة الى بني سلمة بكسرها (لاطئا) بكسر المهملة ثم همزة أي لاصقا (بابط) بقطع الهمزة المكسورة (وطلبت من العام المقبل
فلم يقدر عليها وكانوا يتحدثون انها رفعت قال معقل بن يسار لقد رأيتني رافعا غصنا من أغصانها عن رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[,
(فصل) ثم انه قد ثبت لشاهديها المزايا العظام والتنوية على سائر مشاهد الاسلام قال الله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وروينا في صحيح البخاري عن جابر بن عبد رضي الله عنهما قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية أنتم اليوم خير أهل الارض وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم لاريتكم مكان الشجرة وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة رواه البغوي فلم يقدر عليها) قال البغوي قال سعيد بن المسيب حدثنى أبي وكان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل طلبناها فلم نقدر عليها (فيتحدثون انها رفعت) قال البغوى روى ان عمر بن الخطاب مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال أين كانت فجعل بعضهم يقول هاهنا وبعضهم يقول هاهنا فلما كثر اختلافهم قال سيروا فقد ذهبت الشجرة (معقل) بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف (يسار) بفتح التحتية وبالسين المهملة
(فصل) ثم انه (على سائر مشاهد الاسلام) ما عدا مشهد بدر ثم أحد (لقد رضى الله عن المؤمنين اذ يبايعونك) بالحديبية على ان يناجزوا قريشا ولا يفروا (تحت الشجرة) هي اسم لكل ما قام من النبات على ساق ويسمى غيره نجما (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) يا محمد بالحديبية على عدم الفرار (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) لانهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة بالوفاء بما وعدهم من الخير (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال ابن عباس وقال السدي كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة وقيل نعمة الله عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة وفي الشفاء يد الله قوته وقيل ثوابه وقيل منته وقيل عقده وهذه استعارة وتجنيس في الكلام وتأكيد لعقد بيعتهم اياه وعظم لشأن المبايع صلى الله عليه وسلم (أنتم اليوم خير أهل الارض) هذا من العام الذي أريد به الخاص فان بعض البدريين والاحديين لم يشهد بيعة الرضوان (ولو كنت أبصر الى آخره) من كلام جابر رضي الله عنه (لا يدخل النار أحد) زاد مسلم في رواية جابر عن أم مبشر الانصارية ان شاء الله قال النووى قال العلماء هو للتبرك لا للشك لانه لا يدخلها أحد منهم قطعا (رواه البغوي) في التفسير مسندا عن أبي سعيد الشريحي عن أبى اسحاق الثعلبي عن ابن فيحويه عن على بن أحمد بن نصرويه عن ابي عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الجوني عن محمد بن رمح عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر قلت ورواه مسلم كما مرت الاشارة اليه وفيه ان حفصة قالت بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت حفصة وان منكم الا واردها فقال النبي صلى الله عليه
مسندا وقال الشعبي في قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ هم الذين شهدوا بيعة الرضوان وذهب اكثر المفسرين في قوله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً انه صلح الحديبية وذلك انها نزلت في منصرفهم منها وهم مخالطهم الحزن والكآبة فقال صلى الله عليه وآله وسلم لقد أنزلت علي آية هي احب الى من الدنيا جميعها ولما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فأقرأه إياها فقال يا رسول الله أو فتح هو قال نعم فطابت نفسه ورجع رواه مسلم. وروينا في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية قال الزهري لم يكن فتح أعظم منه قال العلماء ووجه ذلك ان المشركين اختلطوا بالمسلمين في تلك الهدنة وسمعوا منهم احوال النبى صلى الله عليه وسلم الباهرة ومعجزاته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وشاهدها كثير منهم فمالت انفسهم الى الايمان وأسلم في تلك الايام خلق كثير وسلم ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا قال النووى مقصود حفصة الاسترشاد لارد مقالته صلى الله عليه وسلم قال والصحيح ان المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون انتهى وروي الحديث أيضا أبو داود والترمذي (الشعبي) عامر بن شراحيل أو شرحبيل كما مر (هم الذين شهدوا بيعة الرضوان) قال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة هم الذين صلوا الي القبلتين وقال عطاء هم أهل بدر (وذهب أكثر المفسرين) منهم أنس وابن عامر في رواية عنهما (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) انه صلح الحديبية وسمى فتحا لان الصلح مع المشركين بالحديبية كان مغلقا حتى فتحه الله وفي رواية عن أنس انه فتح مكة وقال مجاهد وفتح خيبر والتحقيق ان قوله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً المراد به الحديبية لانها كانت مبدأ الفتح لما ترتب على الصلح الذى وقع من الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى من الدخول في الاسلام للوصول الى المدينة وقوله تعالى وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً المراد به فتح خيبر وقوله فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً المراد به الحديبية أيضا وقوله إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الفتح المراد به فتح مكة (انها نزلت في منصرفهم منها) كما رواه الشيخان والترمذى عن أنس قال نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية فالفتح المبين هو فتح الحديبية فقالوا هنيئا مريئا لك يا رسول الله لقد بين الله تعالى لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الآية (الحزن والكآبة) بالمد مترادفان (أو فتح) هو بهمزة الاستفهام الداخلة على واو العطف أو واو الابتداء (الهدنة) بضم الهاء وسكون الدال المهملة بعدها نون وهى لغة المصالحة وشرعا مصالحة الكفار على الكف عن قتالهم وسبيهم والتعارض لتجارهم مجانا ويسمى موادعة ومعاهدة (سيرته) بكسر المهملة وسكون التحتية وطريقته مترادفان
ولذلك أجبرهم صلى الله عليه وسلم على الصلح وقد كان رأي اكثرهم المناجزة وقرب لهم القول حيث قال لهم اما من ذهب منا اليهم فأبعده الله وأما من جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا هذا وقد قال اهل التحقيق والنظر الدقيق بجواز احتمال المفسدة اليسيرة لدفع اعظم منها او لتحصيل مصلحة عظيمة تتوقع باحتمالها ثم ان مذهب الشافعى أنه يجوز مصالحة الكفار عند الحاجة في مدة لا تزيد على عشر سنين واستدل بصلح الحديبية فانه كان على عشر سنين وذلك مصرح به في كتب السير وهذا اذا لم يكن الامام مستظهرا فان كان مستظهرا لم يزد على أربعة اشهر وقال مالك رحمه الله لا حد لذلك بل هو منوط برأي الامام والله اعلم*
[