...
مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع
إبراهيم بن إبراهيم قريبي
تقديم بقلم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة:
وبعد … فقد هدف المؤلفون في السير والمغازي، ونحوها من الأخبار والتواريخ، إلى سرد ما يتصل بالحادثة التي يكتبون عنها، دون تمييز للغث من السمين، والدخيل من الأصيل، ولا تكاد تجد واحداً منهم التزم الصحة والتحري فيما يكتب.
حتى إن شيخ المؤرخين وإمامهم ابن جرير الطبري - رحمه الله - نص على هذا وصرح به في مقدمة (تاريخه) ليزيح عن نفسه الملامة، وليوضح لقارئ كتابه أن في الكتاب ما لا يصح، فليحذره! وأن وجود خبر ما في كتابه (مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه) كما قال لا يسوغ لأحد بعد ذلك أن يستمسك به قائلاً؛ إنه مذكور في كتاب ابن جرير الطبري أحد أئمة الإسلام، يريد أن يروج شبهة له أو بدعة ضالة! وهكذا حال سائر كتب الأخبار.
نعم يتسامح في رواية ما لا تعلق له بالعقائد والأحكام، ولكن شريطة أن لا يتصادم مع ما هو مقرر في حكم العقل السليم ومقررات الإسلام في عقائده وشرائعه.
ولذلك نبه النقدة من أهل العلم إلى ضرورة كتابة السيرة والتاريخ كتابة جديدة على منهج المحدثين، وعرض أخبارهما على موازين النقد عندهم، لتصفيته وتخليصه من الشوائب والدخائل، وذلك لأن كثيراً من مسائله تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة للحسنة، والقدوة للناس، وهو المبلغ عن الله عز وجل، وقسماً آخر كبيراً من أخبار السيرة والتاريخ يتصل بالصحابة
رضي الله عنهم، واعتماد كل ما يذكر عنهم في كتب المؤرخين لا يتلائم مع الأسس الثابتة في حقهم، فإنهم هم الذين خلد الله عز وجل الثناء عليهم في كتابه الكريم، وهم حملة هذا الإسلام ونقلته، واختارهم الله تعالى لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام.
وقسماً ثالثاً كبيراً جداً يتعلق بتاريخ صدر الإسلام من التابعين والسلف الصالح عامة، فأخذ تاريخ هذه الحقبة الزمنية اعتماداً على كتب التاريخ والأدب القديم، مثل (الأغاني) - أمر يمس تلك الفترة الذهبية في تاريخ الإسلام، ويسيء إلى رجالاتها وأئمة دينها.
ومن هنا كان لزاماً على المؤسسات الإسلامية أن تقدم البديل عن تلك الكتب، مع الاعتراف لها بأنها معادن العلم وخزائنه، إنما نريد تخليص المعادن الكريمة من الشوائب العالقة بها. ويكون تقديم البديل على مرحلتين.
الأولى: توجيه ذوي الاختصاص في علم الحديث والتاريخ للاشتراك في كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتاريخ الإسلام وأحداثه، على ذلك المنهج القويم الذي ابتكره أسلافنا، وطبقوه، للحفاظ على السنة المطهرة أن يُخْرَج منها ما هو منها، أو أن يُدخل فيها ما ليس منها.
المرحلة الثانية: أن تكفل تلك المؤسسات نشر هذه الكتب وتقدمها للناس بأعداد وكميات وفيرة جداً، تغطي على وجود تلك الكتب في المكتبات، لتصرف الناس عنها.
وهذا العمل - ولا ريب - يحتاج إلى أيد عاملة خبيرة وأمينة، جادة دائبة، وإلى نفقات كبيرة ضخمة، وإلى زمن مديد. وكل هذا لا يحول دون السير في هذا المضمار الهام جداً، والذي يؤدي خدمة للإسلام جليلة تؤتي ثمارها، وتظهر آثارها بعد خطوات قليلة.
وكان في نتائج هذه الأيدي العاملة، ودعم المؤسسات الإسلامية لها إخراج هذا الكتاب (مرويات غزوة بني المصطلق) للأستاذ إبراهيم بن إبراهيم القريْبِي الذي تقدم به لنيل العالمية (الماجستير) من قسم الدراسات العليا
بالجامعة الإسلامية، وقد جاء الكتاب رائداً في بابه، وركيزة أولى في منهجيته، تظهر من خلاله محاسن كتابة السيرة على نهج حديثي.
وذلك أن المؤلف جمع فيه مرويات هذه الغزوة وخرجها تخريجاً حديثياً جامعاً، وتكلم على أسانيدها قبولاً ورداً، وأبعد عن دائرة اهتمامه ما رأى أنه لا ينسجم مع موازين المحدثين في قبول الأخبار.
واهتم اهتماماً بالغاً بالأحكام الفقهية التي تستنبط من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، مقتدياً في هذا بالإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (زاد المعاد) فجاء كتاباً من كتب (فقه السيرة) على وجه أخص من الطريقة التي سلكها كُتّاب (فقه السيرة) في عصرنا، فإنهم يتعرضون - أيضاً - لفقه السيرة بمعنى دروسها وعظاتها. أما كتابنا هذا فهو مقتصر على فقه السيرة بمعنى الأحكام الشرعية المستفادة منها.
فالقارئ فيه ينتقل بين علم السيرة والحديث رواية ودراية، وبين الفقه ومذاهب العلماء، مع الاستدلال لها والمناقشة والحوار، وبين الدخول في غمرة جزئيات من علم النسب والبلدانيات.
والأمل بالله تعالى أن يكون هذا الكتاب له ما بعده من قبل مؤلفه - جزاه الله خيراً - ومن قبل غيره من ذوي الاختصاص والغيرة على تاريخ الإسلام عامة، وسيرة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام خاصة، وأن يوفقنا للقيام بأعباء نشر هذه الخدمات وغيرها من تراث الإسلام - الذي يعني المجلس العلي بالجامعة الإسلامية باختيار نفائسه ونشرها وقد أصدر حتى الآن الكتب التالية:
1- كتاب الإيمان للحافظ ابن مندة بتحقيق فضيلة الدكتور علي ناصر فقيه.
2- كتاب أزواج النبي لمحمد بن الحسن بن زَبالة بتحقيق فضيلة الدكتور أكرم العمري.
3- كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي، بتحقيق فضيلة الدكتور سعدي الهاشمي.
4- البيهقي وموقفه من الإلهيات، تأليف فضيلة الدكتور أحمد عطية الغامدي.
5- غوزوة بني المصطلق، لفضيلة الشيخ إبراهيم القريْبِي.
وقد تولى عدد من الباحثين في مركز البحث العلميي تحقيق كتاب: (إتحاف المهرة بأطراف العشرة) للحافظ ابن حجر العسقلاني.
وأملنا بالله تعالى كبير، وثقتنا به عظيمة أن يوفق الجامعة الإسلامية للنهوض بمهمتها في خدمة العلوم الإسلامية ومدها بروافد جديدة، والله من وراء القصد. والحمد لله ربّ العالمين.
شُكْرٌ وَتَقْدِيرٌ:
وبعد أن انتهيت من هذا البحث الذي أردت جمعه وتحقيقه لا يفوتني أن أذكر كلمة شكر وتقدير وثناء للذين أسهموا في إنجاز هذا البحث، وأخص منهم الدكتور المشرف على الرسالة/ أكرم ضياء العمري فقد بذل معي مجهوداً كبيراً ورافقني في سيري في البحث مرافقة المرشد الحليم والمسدد لي فيما أقع فيه من اشتباه بتوضيحاته التي تجلو الغامض وتكشف المعمى، ولقد كنت ألازمه ملازمة المستفيد وأعرض عليه جميع ما أتوصل إليه من معلومات فكان يقرأها ويذكر توجيهاته عليها ويرشدني إلى المراجع التي تخفى علي، وبالجملة فإنه شاركني مشاركة فعّالة في هذا الموضوع بكل ما تتضمنه المشاركة من معنى. فجزاه الله خير الجزاء - وشكر له سعيه، وإنني لمدين له بكل ما أفادني به، ولا أستطيع مكافأته على ذلك إلاَّ بالشكر له والدعاء له بأن يزيده الله علماً وحلماً وتوفيقاً.
كما أشكر القائمين على شؤون الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية وأخص منهم الفقيد الغالي الدكتور محمد أمين المصري الذي أرسى النواة الأولى للدراسات العليا ورعاها بعلمه وحلمه وتوجيهاته حتى وافته منيته عليه رحمة الله.
وأشكر جميع القائمين على الجامعة الإسلامية، بما أتاحوه لطلاب العلم من أبناء العالم الإسلامي من فرص التعليم من المتوسط إلى الدراسات العليا وقد بذلوا في ذلك مجهودات ضخمة، تشهد لهم بالإخلاص والحرص على توفير وسائل التعليم على كل المستويات، وما أنا إلاَّ ثمرة من غرس هذه الجامعة،
زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه يا عمر لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"، ولكن أذن بالرحيل وكان في ساعة لم يكن يرتحل في مثلها وذلك ليشغل الناس عن الخوض في مقالة ابن أبي وحتى لا يصبح الناس في مهاترات كلامية، ولما علم عبد الله ابن أبي سلول أن زيداً قد أوصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف بالله ما قال الذي بلغه زيد ولا تكلم به، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، وأقبلوا على زيد بن أرقم ولاموه وقال له عمه: ما أردت إلاَّ أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتم لذلك زيد غماً شديداً، وجلس في البيت مخافة أن يراه الناس، فيقولون هذا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز وجل جاء بالفرج من عنده فنزلت سورة (المنافقين) فأيدت زيداً في قوله، وفضحت عبد الله بن أبي رأس النفاق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم وقرأ عليه السورة. وقال: "إن الله قد صدقك يا زيد") .
وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول (يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه بسبب ما صدر منه، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم، لا تقتله بل ترفق به وأحسن صحبته، واستمر الجيش في السير نحو المدينة، ولما قربوا منها نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش ذات ليلة للاستراحة وفي هذه الأثناء ذهبت عائشة لقضاء حاجتها، فسقط عقد لها فاشتغلت بطلبه، فتأخرت وجاء الأمر بارتحال الجيش، وكانت عائشة في هودج لها، فجاء الذين يرحلون هودجها فاحتملوا الهودج ووضعوه فوق ظهر الجمل وهم يظنون أنها فيه ولنحافتها وحداثة سنها لم يستنكروا خفة الهودج، وسار الجيش وبعد مفارقتها المكان أقبلت عائشة فلم تجد أحداً. فمكثت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها، وبينما هي على هذه الحال غلبتها عيناها فنامت، وكان صفوان بن المعطل قد عرس من وراء الجيش ثم سار الجيش آخر الليل فمر بمكان نزول
الجيش صباحاً فرأى سواد إنسان نائم فقرب منه، فعرف أنها عائشة، وكان يراها قبل أن يضرب الحجاب عليها، وحين عرفها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظت عائشة رضي الله عنها باسترجاعه، فخمرت وجهها بجلبابها، وقرب إليها الجمل فركبت وولاها ظهره وانطلق يقود بها الراحلة دون أن يتكلم معها أي كلام، حتى أتى بها الجيش بعدما نزلوا في نحر الظهيرة، وهنا وجد أهل النفاق والزيغ متنفساً فانتهزوا الفرصة وأخذوا يذيعون حادثة الإفك في صفوف الناس، حتى انتشر ذلك في ساحة الجيش، وعائشة لم تعلم بذلك، وكان لهذا الحدث آثاره العميقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق وأهل بيته وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، ووصل المسلمون المدينة ولا زال صدى هذا النبأ يتردد على ألسنة الناس، وعائشة في غفلة من هذا لم تبلغها بعد هذه الإشاعة التي أرجف بها المنافقون، وصادف أن مرضت عائشة عند قدومهم المدينة واستمر بها الوجع. وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبويها ولا يذكرون لها منه قليلاً ولا كثيراً، غير أنها كانت تلمح من رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً في معاملته لها، فكان يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم، ولا يزيد على هذا. لكنها لم تكن تعلم بما رميت به، ولما نقهت1 من مرضها خرجت إلى الخلاء لقضاء الحاجة وكانت في صحبتها أم مسطح، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح: فقالت عائشة بئس ما قلت، أتسبين رجلاً قد شهد بدراً، فقالت أم مسطح: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قالت عائشة: وأي خبر: فأخبرتها بقول أهل الإفك، فقالت عائشة: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان، قالت عائشة: فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي ورجعت إلى بيتي، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فسلَّم وسأل عنها بنفس الأسلوب فقال: "كيف تيكم" فأدركت عائشة سر ذلك التغير، نحوها، وطلبت الإذن من رسول الله بالتوجه إلى بيت أبيها فأذن لها، وكانت تريد أن تتيقن الخبر من قبل أبويها، فقالت لأمها: يا أمتاه
__________
1 نقه المريض: إذا برأ وأفاق وكان قريب العهد بالمرض ولم يرجع إليه كمال صحته وقوته.
ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوني عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن عليها القول وحسدنها، قالت عائشة: سبحان الله!!.
وقد تحدث الناس بهذا!! ثم بكت واستمرت في البكاء وازدادت مرضاً إلى مرضها، ولما اشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، استشار بعض أصحابه في فراق أهله، فأشار عليه أسامة بن زيد بقوله: "يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلاَّ خيراً"، وأشار علي بن أبي طالب بقوله: "لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، وقال لها: "يا بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " فقالت بريرة: "والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أعيبها به أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فتأتي الشاة فتأكله"، وعندئذ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فخطب الناس وطلب من يعذره من عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي أثار هذه الفتنة العمياء، فقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلاَّ خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاَّ خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، فقام سعد بن معاذ سيد الأوس فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك". فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج، فقال لسعد بن معاذ: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله"، فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين"، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، وكادت تكون كارثة عظيمة بين الأوس والخزرج، تقر بها أعين الحاقدين على الإسلام وأهله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي قضى عليها بحكمته، فما زال بالحيين يخفضهم ويسكتهم حتى هدؤا، واستمر الحال على هذا نحو شهر لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحْي في ذلك، حتى اشتد الأمر عليه، وعلى صحابته الكرام، وتطلعت نفوسهم، إلى الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكشف هذه الغمة ويجلي لهم الموقف. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على أن يذهب إلى أهله فيقول:
المباركة، نسأل الله أن يوفق المسؤولين عنها إلى ما فيه الخير والصلاح وأن يجزيهم على أعمالهم خير الجزاء، ولا أنسى الجميل لمن أسدى إلي من موظفي المكتبة العامة ومكتبة قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، ولكل من سألته عن مشكل فأفادني فيه، وهم كثير والحمد لله، وأخص منهم فضيلة الشيخ حماد الأنصاري فهو مرجع لجميع الطلاب ومعروف بعلمه وسعة حلمه وصبره على الإفادة فجزاه الله عن طلاب العلم خير الجزاء.
كما أقدم الشكر والثناء للدكتور الشيخ محمود ميرة، فقد استفدت منه وراجعته في أشياء كثيرة تتعلق بالمراجع وغيرها، فكان كعادته سمحاً بالفائدة، لطيف المعشر في معاملته لتلاميذه أسأل الله له التوفيق والسداد وأن يجزل له الأجر والمثوبة.
وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم وخدمة لأبناء المسلمين.
وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تَمْهِيدٌ:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فهذا تلخيص لما اشتملت عليه غزوة بني المصطلق من حوادث ووقائع من حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة حتى رجع إليها، وذلك لإعطاء القارئ الكريم صورة موجزة عن هذه الغزوة بعيداً عن مجالات البحث وشعبه الواسعة، ليقف القارئ على مجملها بدون عناء أو تعب، ومن أراد التوسع في ذلك، فالرسالة بين يديه، وفيها جميع محتويات هذه الغزوة مفصلاً، وهذا وقت الشروع فيما نحن بصدده:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة على الراجح، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل نميلة بن عبد الله الليثي، وخرج معه في هذه الغزوة بشر كثير من المنافقين الذين لم يعتادوا الخروج في مثل هذه الكثرة قبلاً، ولعل ثقتهم بانتصار الرسول صلى الله عليه وسلم أغرتهم بالذهاب معه ابتغاء الدنيا لا انتصاراً للدين، وكان سبب هذه الغزوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار رئيس قبيلة بني المصطلق والمتحدث عنها يجمع الجموع لغزو المدينة المنورة، وبعد أن تأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك بواسطة أحد سفرائه وصار معلوماً لديه ما تنويه هذه القبيلة من الشر للمسلمين، جند جنوده وباغتلهم في عقر دارهم على ماء لهم بناحية قديد يقال له المرسيع فقتل من قتل منهم وسبى من سبى منهم بما فيهم النساء والذرية،
ووقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في جملة الأسرى، وجرت فيهم القسمة، فوقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو ابن عم له، فكاتبته على نفسها وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في فكاك رقبتها، فوقفت بين يديه قائلة: "يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في سهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك في خير من ذلك؟ " قالت: "وما هو يا رسول الله؟ ". قال: "أقضي عنك كتابتك وأتزوجك"، قالت: "نعم يا رسول الله قد فعلت"، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فقال الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسلوا ما بأيديهم من أسرى بني المصطلق، فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة أهل بيت من بني المصطلق. فكانت أعظم بركة على قومها، على أن هذا النصر الميسر الذي حازه المسلمون قد شابه من أعمال المنافقين ما عكر صفوه وأنسى المسلمين حلاوته، وذلك بينما المسلمون على ماء الميرسيع وقد فرغوا من عدوهم وردت واردة الناس وكان مع عمر بن الخطاب أجير يقال له جهجاه فازدحم على الماء مع أجير للأنصار يقال له سنان بن وبرة الجهني فاقتتلا، فكسع المهاجري الأنصاري، فصاح الأنصاري: "يا للأنصار"، وصاح المهاجري: "يا للمهاجرين"، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ " قالوا: "يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار"، فقال: "دعوها فإنها منتنة"، وسمع ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق وكان في رهط من قومه وحاشيته، وكان مطاعاً فيهم، فرأى أن الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم وإحياء ما أماته الإسلام من نعرات الجاهلية، فقال: "أو قد فعلوها؟ ".
والله ما أعدَّنا وجلابيب قريش إلاَّ كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك ثم أقبل على قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسهكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع ذلك
"يا عائشة إنه قد بلغك ما يقول الناس، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثم تاب، تاب الله عليه"، وهي تتطلب من ينجدها من هذا الموقف الحرج، فتطلب من أبويها أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فيقولا: "والله ما ندري ما نقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فتقول عائشة عندئذ: "والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم هذا ووقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني بريئة لتصدقنني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاَّ كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} " قالت: "ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرائتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولَشأْني كان أحقر فِي نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، رؤيا يبرئني الله بها"، ولما استشرفت النفوس إلىالوحي أتم استشراف، وتطلعت إليه أكمل تطلع نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة عائشة وبيان الذي تولى كبر هذا الإثم العظيم والفتنة الخطيرة، وإرشاد المؤمنين إلى التثبت في مثل هذه الأخبار الخبيثة التي يهدف مروجوها من المنافقين إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات في هذا الصدد وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد الذين خاضوا في الإفك وهم حسان ومسطح، وحمنة، ولم يثبت أنه حد عبد الله بن أبي سلول، ولعل السر في ذلك أن الحد لا يطهره لو أقيم عليه؛ لأنه منافق خبيث وسوف يلقى جزاءه يوم القيامة، في الدرك الأسفل من النار، هذا هو مجمل ما في هذه الغزوة من معلومات، ومن أراد التوسع فالرسالة بين يديه، وقد تضمنت كل ما حدث في هذه الغزوة، الله أعلم