الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم، والملة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمر باتباعها، وأمره بأن يقول {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1 صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
وبعد: فإن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثا قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 2.
بل خلقهم لغاية ذكرها في كتابه الكريم في أكثر من موضع فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . 3
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . 4
وقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5
فالحكمة من خلقه للخلق هي اختبارهم وابتلاؤهم ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فهذه هي الحكمة من خلقهم أولا وبعثهم ثانيا. ولذلك لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم رسله، فكان من سنة الله تبارك وتعالى مواترة
__________
1 الآية (108) من سورة يوسف
2 الآية (115) من سورة المؤمنون
3 الآية (2) من سورة الملك
4 الآية (7) من سورة هود
5 الآية (56) من سورة الذاريات
الرسل وتعميم الخلق بهم، بحيث يبعث في كل أمة رسولا ليقيم هداه وحجته كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 2، وقال تعالى {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} 3، وقال تعالى {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما} 4 فالرسل هم الواسطة بين الله عز وجل ودون خلقه في تبليغ أمره ونهيه وإرشاد العباد إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم.
وإن الله تبارك وتعالى جعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأرسله للناس أجمعين، وأكمل له ولأمته الدين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل، فأحيا به ما درس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك والكفر من عبدة الأوثان والنيران والصلبان، وأذل به كفار أهل الكتاب، وأهل الشرك والارتياب، وأقام به منار دينه الذي ارتضاه، وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه.
فالله سبحانه وتعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للناس رحمة وأنعم به نعمة يا لها من نعمة: قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 5
وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} 6 وهم الذين لم
__________
1 الآية (36) من سورة النحل.
2 الآية (24) من سورة فاطر.
3 الآية (4) من سورة المؤمنون
4 الآية (65) من سورة النساء.
5 الآية (57) من سورة الأنبياء.
6 الآية (28) من سورة ابراهيم.
وإنما كان إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أعظم منة امتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي، وذلك بسبب الإيمان بالله ورسوله والابتعاد عن كل ما يوجب دخول النار والخلود فيها.
ولذلك فإن الناس أحوج ما يكونون إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الدين فهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل ومن نفس الهواء الذي يتنفسونه، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 1 أي كذب به وتولى عن طاعته، فهم محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته والأخذ بما جاء به والالتزام بذلك في كل مكان وزمان ليلا ونهارا، سفرا وحضرا سرا وعلانية.
ولما كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه بهذه المرتبة وكانت حاجة الناس إليه بهذه الدرجة، فقد أوجب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة جملة من الحقوق والواجبات تنظم العلاقة التي تربطهم به تنظيفا دقيقا لا لبس فيه ولا اشتباه.
وهذه الحقوق منها ما يتصل بجانب الرسالة التي بعث بها، ومنها ما يتعلق بخاصة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم تفضيلا وتكريما من الله له.
وقد وردت في شأن تلك الحقوق نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وضَّحت وفصَّلت وبيَّنت جوانب تلك الحقوق.
وهذه الحقوق في جملتها هي الأصل الثاني من أصلي الدين كما يدل عليه قولنا "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله".
ولذا فقد كان لزاما على كل من ينطق بهذه الشهادة، ويدين الله بهذا الدين
__________
1 الآيات (14- 15- 16) من سورة الليل.
أن يحيط بتلك الحقوق معرفة، ويلتزم بها اعتقادا وقولا وعملا، فذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يحصل إيمان العبد إلا به.
ومما يؤسف له أن كثيرا من المسلمين اليوم هم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق فتراهم لذلك على طرفي نقيض هذا المقام:
- فإما مقصر عن القيام بهذه الحقوق التي أوجبها الله على الأمة فتراه لا يقيم لها وزنا ولا يلقي لها بالا.
- وإما غال مبتدع منكب على ما ابتدعه، يظن أنه بما يفعله من أمور مبتدعة في هذا المقام قد أحسن صنعا وأنه مؤد لما أوجبه الله من حق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكلا الطرفين صاحب حال مذموم غير محمود. فلما كان عامة أصحاب هذين الطرفين إنما أوقعهم فيما هم فيه، جهلهم بمعرفة تلك الحقوق على الوجه المطلوب شرعا.
ولما كانت هذه الحقوق هي من جملة هذا الدين الذي تعبدنا الله به، فكان لا بد فيها من توفر شرطي القبول:
أ- الإخلاص.
2- الصواب (الاتباع) .
كما قال تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1
فقد أحببت أن أوضح تلك الحقوق النبوية وفق ما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وما كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، عسى أن يكون في هذا البيان والتوضيح تعليم للجاهل، وتذكير للغافل، وتحذير وردع للمبتدع، ومدارسة للعارف.
__________
1 الآية (10) من سورة الكهف.
فأسأل الله عز وجل التوفيق والرشاد وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والسير على هديه والتأسي به، وأن يشرح لذلك صدورنا وينير قلوبنا إنه جواد كريم وعلى كل شيء قدير.