في ذي الحجة من هذه السنة حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وهي الحجة الأولى له صلى الله عليه وسلم والأخيرة التي ودع فيها المسلمين قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى، يقول جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجُّ هذا العام، فقدم المدينة بشر كثير -وفي رواية: فلم يبق أحد يقدر أن يأتي راكبًا أو راجلاً إلا قدم- فتدارك الناس ليخرجوا معه، كلهم يلتمس أن يأْتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثله عمله» (رواه أحمد).
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج المسلمون معه حتى أتوا ذا الحليفة، وهناك ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر فأرسلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسأله كيف تصنع؟ فأمرها أن تغتسل وتسد دم النفاس بثوب ثم تحرم، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو صامت لم يلبِّ بعد.
ثم ركب ناقته القصواء فأهل بالحج: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. والناس يهلون بما يهل به رسول الله برسول الله صلى الله عليه وسلم[صحيح مسلم].
ويصف جابر ذلك المشهد المهيب الذي خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ملبيًا والمسلمون حوله مد البصر يلبون، فيقول: «نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلمبَينَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيهِ يَنْزِلُ الْقُرآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيءٍ عَمِلْنَا بِهِ» (رواه مسلم).
حتى وصلوا مكة عند ارتفاع الضحى صباح رابع يوم من ذي الحجة، أتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فاسْتَلَمَ الحجر الأسود، ثم مضى عن يمينه فَرَمَلَ [أسرع في مشيه]حتى عاد إليه ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا قد هدأ في مشيه
ثُمَّ ذهب إلى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- فَقَرَأَ: (وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗىۖ ) [البقرة: 125]، ورفع صوته يسمع الناس فجعل مقام إبراهيم بينه وبين البيت، فصلى ركعتين، فقرأ في الركعتين: (قل هو الله أحد) و(قل يا أيها الكافرون).
ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه، ثم رجع إلى ركن الكعبة فاستلمه، ثم رجع إلى جبل الصفا، فقال: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ» (رواه أحمد).
فلما أتى الصفا قرأ: (إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ ) [البقرة: 158]، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره ثلاثا، وحمده، ثم نزل ماشيا إلى المروة فرقى عليه حتى نظر إلى البيت، ففعل على المروة كما فعل على الصفا [المصدر السابق]، حتى إذا كان في آخر طوافه على المروة قال: «يا أيها الناس لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرتُ لَم أَسُقْ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرةٌ».
فقام سراقة بن مالك فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم باب عما قاله: ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك الرسول صلى الله عليه وسلم بأصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ إلى يوم القيامة»، ثم قدم على من اليمن ببدن [بأضاحي] النبي صلى الله عليه وسلم باب فحلَّ الناس كلهم من إحرامهم وقصَّروا شعورهم، إلا النبي صلى الله عليه وسلم باب ومن كان معه هدي.
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج من البطحاء، وصلوا بمنى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث حتى طلعت الشمس وأمر بقبَّة له من شعر نُصِبَت له بنمِرة [عند جبل عرفات]، فظل بها إلى غروب الشمس ثم رحل حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس خطبته الشهيرة الجامعة لمقاصد الإسلام، والتي اشتملت على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وترك معتقدات وأفعال الجاهلية ومنها الثأر للدماء، والربا.
وبدأ صلى الله عليه وسلم باب بنفسه وأقربائه فهوة القدوة والأسوة الحسنة، فتنازل عن دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ونبذ رِبَا عمه العباس بن عبد المطلب، وأوصاهم بالنساء والإحسان إليهن وعرض الحقوق والواجبات الزوجية لكلا الزوجين، وأمرهم أن يتمسكوا بما في القرآن والسُّنَّة من تعاليم.
واختتم خطبته باستشهادهم قائلا: «وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأديتَ ونصحتَ. فرفع بإصبعه السبابة إلى السماء وأشار بها إلى الناس قائلا: «اللهُمَّ اشْهَدْ اللهمَّ اشْهَدْ» ثلاث مرات[المصدر السابق].
بعد ذلك أذن للظهر والعصر بنداء واحد، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم سارصلى الله عليه وسلم باب في سكينة.
حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء جمعًا بأذان واحد وإقامتين، ولم يصل بينهما نفلاً، ثم اضطجع صلى الله عليه وسلم باب حتى طلع الفجر. وفي صبيحة اليوم التالي ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحَّده فلم يزل واقفا حتى أضاء الفجر إضاءة تامة، ثم انصرف من المزدلفة حتى أتى بطن مُحَسِّرٍ [برزخ بين منى ومزدلفة] فأسرع السير حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها وقت الضحى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف.
يرمي على راحلته يوم النحر ويقول للناس: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِككُمْ فإني لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجّ بَعْد حَجَّتِي هَذِهِ» في إشارة منه إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم باب، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما بقي من المائة وأشركه في هديه.
ثم ركب الرسول صلى الله عليه وسلم باب فرجع إلى البيت الحرام، فصلى الظهر بمكة[المصدر السابق]. وكان صلى الله عليه وسلم باب يرفع الحرج عمن قدم شيئًا من المناسك أو أخَّر يوم النحر، في إشارة منه صلى الله عليه وسلم باب إلى يسر الدين ومقاصده [انظر تفاصيل -حجة النبي منه صلى الله عليه وسلم باب في: السيرة النبوية، لابن كثير، فصل في حجة رسول الله منه صلى الله عليه وسلم باب، السيرة النبوية، لابن هشام، حجة الوداع، الروض الأنف، فصل حجة الوداع].