...
,
وحينما جاء موسم الحج من العام العاشر الهجري، كان البيت العتيق قد تخلص من شوائب الشرك وأرجاسه، فتجهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأداء فريضة الحج في الحجة الأولى في حياته، وقد شاء الله أن تكون الأولى والأخيرة، ومن أجل ذلك سميت: حجة الوداع1.
وقد سرت الأنباء بحج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل مكان، وتسمعت الصحراء لهذه الأنباء في زهوٍ وطرب، وتجمعت القبائل العربية من كل صوب وحدب، حتى لقد بلغت عدة المسلمين حينئذٍ مائة ألف أو يزيدون جاءوا يتسابقون ركضًا لينالوا شرف الحج مع النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وليروا عن كثب تلك المناسبات المقدسة كما يؤديها الرائد الأكبر والقائد المظفر، وكما تقضي بها تعاليم الدين الحنيف.
ولم يكد يأتي اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة، حتى بدأ الركب يولي وجهه شطر المسجد الحرام2، ويحث الخطا لبلوغ تلك الغاية الكريمة، وأخذ
__________
1 انظر تفاصيل حجة الوداع في:
"سيرة ابن هشام" 4/ 211، "طبقات ابن سعد" 2/ 172، "صحيح مسلم" بشرح النووي 8/ 170، "تاريخ الطبري" 3/ 148، "عيون الأثر" 2/ 345، "البداية" 5/ 109، "نهاية الأرب" 17/ 371، "دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 432، "ثقات ابن حبان" 2/ 124، "الكامل في التاريخ" 2/ 205، وغير ذلك.
وهي تسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ أيضًا.
2 وكان ذلك يوم الخميس، فوصل لذي الحليفة فيه، وبات ليلة الجمعة فيها.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه جميع نسائه، وكأنه كان يحس بقرب الأجل ونهاية المطاف، وكأنما ألهمه الله أن هذا الموسم من الحج هو آخر العهد به في هذه الحياة الدنيا، فلم يشأ أن يخصص واحدة من نسائه بفضل صحبته في هذه الحجة الأولى والأخيرة، حتى لا تضيع الفرصة على غيرها من أمهات المؤمنين.
ولقد أنصت التاريخ في إكبار يسجل هذا المشهد الحافل، وتساءل الناس وهم يتبعون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكأنهم في حلم عجيب.
ما هذه الجموع الحاشدة؟ وإلى أين تسير؟ ومن ذلكم القائد الكبير؟ ثم طفقوا يسترجعون الذكريات القريبة، كلما أغذُّوا السير في الطريق من يثرب إلى مكة وأطلت عليهم جباله، وانبسطت بين أيديهم رماله.
فمن هذا الطريق سار محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أربع سنوات في جمع قليل وعدد ضئيل1 يريدون أن يؤدوا نسك العمرة، فوقفت قريش في سبيلهم ولم تمكنهم من دخول المسجد الحرام في ذلك العام.
ومن هذا الطريق سار محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- منذ ثلاث سنوات ليؤدي عمرة القضاء بعد صلح الحديبية في جمع من أصحابه بلغت عدتهم قرابة الألفين، فصدق الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا بالحق، ودخل المسلمون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين.
ثم شهد هذا الطريق محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منذ عامين اثنين2 يخرجون لنصرة المظلوم وردع الظالم، ولرد قريش عن البغي والعدوان بعد أن بالغت في الاستهتار وأمعنت في العناد، ولم تكترث بوعد ولم ترعَ حرمة لعهد، وكان المسلمون في جيش كبير بلغت عدته عشرة آلاف، فجاء نصر الله، ودخل الناس في دين الله،
__________
1 يعني: عام الحديبية، كما تقدم.
2 أيام فتح مكة، كما تقدم ذلك.
وخنس الشيطان، وزالت دولة الأوثان، ودوى صوت المؤذن بالتكبير في أرجاء البلد الأمين.
والآن وبعد عامين من هذا الفتح العظيم يشهد هذا الطريق محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يتوجهون إلى مكة وقد أصبح العشرة آلاف مائة ألف أو يزيدون، وهكذا ينتصر الحق فينمو ويزيد، وهكذا يزهق الباطل، وما يبدئ الباطل وما يعيد.
ولم تطل بنفوس المسلمين هذه الخواطر حتى وصلوا إلى ذي الحليفة فنزلوا بها وأقاموا ليلتهم، حتى إذا ما أصبحوا أحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحرم المسلمون معه، وبدت هذه الألوف المؤلفة في زي واحد، ومظهر واحد، ومنطق واحد، قد كشفوا عن رءوسهم الغطاء، ولبسوا الإزار والرداء، وانطلقوا يهتفون من أعماق قلوبهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فيا لله لعظمة الحق والإيمان، وما أروعه من نبأ اهتزت له البطحاء، وسبحت به الحصباء، وباركه رب الأرض والسماء.
ولما بلغ القوم سرف1 قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "من لم يكن منكم معه هدي3 فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا". ثم بلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة3، وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود وقبله، ثم طاف بالبيت سبعًا، هرول في الثلاثة الأولى منها، ثم صلى عند مقام إبراهيم، ثم عاد فقبل
__________
1 مكان على ستة أميال من مكة.
2 المراد: من ساق الهدي، وليس المراد امتلاك ثمنه.
3 في "صحيح البخاري": أنه قدم مكة لخمس خلون من ذي الحجة.
الحجر مرة ثانية، ثم خرج من المسجد إلى ربوة الصفا حيث سعى بين الصفا والمروة.
ولما انتهى من سعيه نادى في الناس ألا يبقى على إحرامه من لا هدي معه.. وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها" 1.
وقد تحلل كثير من المسلمين الذين لم يسوقوا الهدي معهم، وتبعت البقية الأخرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إحرامه.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة، ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فقضى بها طول يومه وقضى الليل كله حتى مطلع الفجر، ثم أدى صلاة الفجر وركب ناقته القصواء حتى بزغت الشمس ثم قصد إلى عرفات. وهناك وعلى هذا الجبل الخالد2 وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وأحاط به المسلمون يلبون ويكبرون وتسموا أرواحهم إلى الملأ الأعلى فينسبون الحياة، ولا يفكرون إلا في ذات الله 3. فيا له من مجتمع كريم يتلاقى فيه المسلمون من كل فج وقد وحد بينهم الهدف والغاية، وألّف بين قلوبهم دين أغناهم عن الأحساب والأنساب، وأنساهم الحمية الجاهلية، والعصبية القبلية. ويا له من مؤتمر عظيم يعقد في كل عام، ويضم المسلمين في أرجاء الدنيا على اختلاف أجناسهم ليتعارفوا ويتآلفوا ويحققوا معنى الوحدة والتضامن، ويتشاوروا فيما يكفل لهم الخير ويمكنهم من الأعداء حتى يعملوا على تلافي النقص وبلوغ الكمال.
__________
1 انظر "صحيح مسلم" بشرح النووي 8/ 170 وغيره.
2 الباقي بقاء الدنيا.
3 أي: في عظمة الإله، وأما التفكير في ذات الإله فمحرم بنص الأحاديث الكثيرة التي أوردها أبو الشيخ في أول كتابه "العظمة" ص 5 وما بعدها.
وفي هذا اليوم الخالد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألقى على المسلمين خطبته الجامعة والتي بين فيها أصول الدين وفروعه ومبادئه وآدابه، حيث قال1: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له ومن يضللل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ... أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
أما بعد: أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
إن ربا الجاهلية موضوع 2، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإنت مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة 3 والسقاية 4.
والعمد قود 5، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير. فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
__________
1 جاءت خطبة الوداع في سائر المصادر التي قدمتها أول الفصل، وأما اللفظ الآتي عند المؤلف، فسائره صحيح إلا أشياء يسيرة جدًّا منه.
2 أي: مهدور، ولا قيمة له.
3 القيام بخدمة البيت.
4 يعني: سقي الحجاج.
5 أي: يقاد قاتل العمد إلى القتل، فيقتل إلا أن يعفو أهل المقتول.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيها سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس: إنما النسيء 1 زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله. وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات وواحد فرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حق: ألا يوطئن فرشكم 2 غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة. فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تعضلوهن 3 وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرح. فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان 4، ولا يملكن لأنفسهن شيئًا: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة. ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده، كتاب
__________
1 يعني: التلاعب بالأشهر الحرم، وكانوا ربما فعلوا ذلك لمأرب لهم.
2 كناية عن الزنا ومقدماته.
3 أي: تحبسوهن وتضيقوا عليهن.
4 أسيرات.
الله 1، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.
أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش 2، وللعاهر الحجر 3 من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل 4، والسلام عليكم ورحمة الله".
وهكذا كانت خطبة الوداع في حجة الوداع. وهي خطبة جامعة، ووصية رائعة تشير كل فقرة منها إلى ما كان يحس به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قرب الأجل، ونهاية العمر، فهو يبرئ ذمته، ويصفي حسابه مع الناس، حتى لا تعظم مسئوليته أمام رب الناس، وهو يشهد الناس في كل فقرة على أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فيسألهم: ألا هل بلغت؟ ثم يتجه إلى ربه ويناديه: اللهم اشهد ... وهو يبدأ الخطبة بقوله: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا"، ثم يقول في ثناياها: "فلا ترجعن بعدي كفارًا ... فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده".
وكل هذه فقرات واضحة الدلالة على أن صاحبها قد فرغ من الدنيا، وأنه يتهيأ
__________
1 وقع هنا زيادة في روايات كثيرة "وسنتي".
2 أي: ينسب المولود لأبيه، لأنه على فراشه، ولو كان من زنًا.
3 العاهر: الزاني، والحجر كتابة عن أنه لا شيء له، ولا ينسب له ولده من الزنا بامرأة متزوجة، كما يقال: لك التراب، أو بفيك التراب.
وقيل معنى وللعاهر الحجر: أي الرجم بالحجارة -إن كان محصنًا.
4 كتابة عن أنه لا يقبل منه ما افتدى به مهما بلغ.
للحياة الجديدة في الدار الآخرة، انتظارًا لما وعده الله سبحانه حيث يقول:
{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 1.
وكان من الدلالات القوية على دنو أجل الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك الآية الكريمة التي نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم، وهي قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 2.
وقد أدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مناسك الحج، في رمي الجمار والنحر والحلق والطواف، وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قفل راجعًا إلى المدينة، ولما رآها كبر ثلاثًا ثم قال:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" 3.
__________
1 سورة الضحى، الآيتان 4، 5.
2 سورة المائدة، الآية 3.
3 صح في "صحيح البخاري" 2/ 213 وغيره عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قفل من الغزو، أو من الحج، أومن العمرة، يبدأ فيكبر ثلاث مرات، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم