أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم نيّته بالحج، وأشعر الناس بذلك حتى يصحبه من شاء.
فترك المدينة أواخر ذي القعدة، بعد أن أمّر عليها في غيابه «أبا دجانة» «2» .
والحجّ هذه المرة جاء مغايرا لما ألفته العرب أيام جاهليتها.
انتهت العهود المعطاة للمشركين، وحظر عليهم أن يدخلوا المسجد الحرام.
__________
(1) صحيح، أخرجه أحمد: 5/ 235، بسند صحيح عن معاذ.
(2) لم أجد من أسند هذا، وإنّما ذكره ابن هشام: 2/ 350، معضلا، ولم يجزم به، فإنّه قال: «فاستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري» .
فأصبح أهل الموسم- قاطبة- من الموحّدين، الذين لا يعبدون مع الله شيئا، وأقبلت وفود الله من كلّ صوب، تيمم وجهها شطر البيت العتيق، وهي تعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في هذا العام أمير حجهم ومعلمهم مناسكهم!!.
ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الألوف المؤلفة وهي تلبّي وتهرع إلى طاعة الله، فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام، وعزم أن يغرس في قلوبهم لباب الدين، وأن ينتهز هذا التجمّع الكريم ليقول كلمات تبدّد اخر ما أبقت الجاهلية من مخلّفات في النفوس، وتؤكّد ما يحرص الإسلام على إشاعته من اداب وعلائق وأحكام.
فألقى هذه الخطبة الجامعة «1» :
«أيّها النّاس! اسمعوا قولي، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
أيها النّاس! إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت.
فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإنّ كلّ ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون.
قضى الله أنّه لا ربا، وإنّ ربا العباس بن عبد المطّلب موضوع كلّه.
وإنّ كلّ دم كان في الجاهلية موضوع، وإنّ أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا في بني ليث، فقتلته هذيل- فهو أوّل ما أبدأ به من دماء الجاهليّة.
أما بعد: أيها الناس، إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدا، ولكنّه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!!.
__________
(1) رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بدون إسناد، وقد جاء سندها في أحاديث متفرّقة يطول الكلام في بيانها. وتفصيل ذلك في كتابي الكبير «حجة الوداع» ، أرجو الله أن يوفقني لإتمامه. وقسم كبير منها في حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، وقد جمعت طرقه وألفاظه في رسالة لطيفة طبعت في المطبعة السلفية بمصر.
أيها الناس! إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] ، ويحرّموا ما أحلّ الله.
وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد: أيها الناس، فإنّ لكم على نسائكم حقّا، ولهنّ عليكم حقّا.
لكن عليهن ألايوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهنّ ألايأتين بفاحشة مبيّنة؛ فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.
واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ عندكم عوان «1» ، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا.
وإنّكم إنّما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإنّي قد بلّغت.
وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم، وأنّ المسلمين إخوة، فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم، اللهم هل بلغت؟» .
قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ اشهد» .
قال ابن إسحاق: كان الرجل الذي يصرخ في الناس: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة- ربيعة بن أميّة بن خلف.
يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل: يا أيها الناس إنّ الرسول يقول: هل تدرون أيّ شهر هذا؟» فيقول لهم.. فيقولون: الشهر الحرام..!! فيقول: «قل لهم:
إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة شهركم هذا» ..
__________
(1) عوان: أسيرات.
ثم يقول: «قل: يا أيها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أيّ بلد هذا؟» فيصرخ به! فيقولون: البلد الحرام، فيقول: «قل: إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا» .
ثم يقول: يا أيها الناس! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هل تدرون أيّ يوم هذا؟» .
فيقول لهم.. فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: «قل لهم: إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا..» .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد- بعد بلاء طويل في إبلاغ الرسالة- أن يفرّغ في اذان الناس وقلوبهم اخر ما لديه من نصح.
كان يحسّ أنّ هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة واحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه الرشد، ويذكّره بما ينفعه أبدا.
وكان هذا النبيّ الطيب صلى الله عليه وسلم كلما أوجس خيفة من مكر الشيطان بالناس، عاود صيحات الإنذار، واستثار أقصى ما في الأعماق من انتباه، ثم ساق الهدى والعلم ... وقطع المعاذير المنتحلة، وانتزع- بعد ذلك- شهادة من الناس على أنفسهم وعليه أنّهم قد سمعوا، وأنّه قد بلّغ.
لقد ظلّ ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويتلو على القاصي والداني اي الكتاب الذي نزل به الروح الأمين على قلبه، ويغسل أدران الجاهلية التي التاث بها كلّ شيء، ويربّي من هؤلاء العرب الجيل الذي يفقه الحقائق، ويفقّه العالم فيها.
وها هو ذا يقود الحجيج في أوّل موسم يخلص فيه من الشرك، ويتمحّض فيه لله الواحد القهار.
وها هو ذا على ناقته العضباء يستنصت الجماهير المائجة ليؤكّد المعاني التي بعث بها، والتي عرفهم عليها، ويخلّي ذمته من عهدة البلاغ والتبيان التي نيطت بعنقه.
لقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام حين هتف وهو يا بني البيت العتيق:
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة] .
إنّ العزيز الحكيم تجلّى باسميه الجليلين على هذه الديار، فوهب العزّة
والحكمة- أو قل: القوّة والسياسة- لمحمد بن عبد الله، فعالج بها الاثام الجاثمة على صدر الأرض، فما استعصى على الأناة والحلم استكان للتأديب والحكم.
وبهذا المنهج الجامع بين العدل والرحمة أخذت رقعة الباطل تنكمش رويدا رويدا حتى اختفت الجاهلية ولوثاتها، وثبت الإسلام، ثم أصاخ العرب- بعد ما لان قيادهم- إلى صوت الحقّ الأخير في حجة الوداع.
وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجلّ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...
[المائدة: 3] .
وعند ما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنّه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنّه استشعر وفاة النبيّ صلوات الله عليه وسلامه.
والحقّ أن مشاعر التوديع للحياة والأحياء كانت تنضح بها بعض العبارات التي ترد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ما سبق ذكره في خطبته بالموسم، ومنها ما يقع في أثناء تعليمه الوفود المحتشدة حوله، كقوله عند جمرة العقبة: «خذوا عنّي مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا» «1» .