وقد حرص القرآن على أن يظلّ حكم العقل سليما، لا يتسرّب إليه ما يؤثر في حسن تصوّره الإيمان والخلق. لذلك اعتبر الخمر والميسر رجسا من عمل الشيطان؛ ولئن كان فيها منافع للناس لإثمهما أكبر من نفعهما، ومن ثمّ وجب اجتنابهما. فالميسر يصرف ذهن المقامر عما سواه، ويستنفد من وقته ويغريه بما يلهيه عن موجب الخلق الفاضل. والخمر تذهب العقل والمال على حدّ تعبير عمر بن الخطاب حين دعا أن يبيّن الله فيها. وطبيعي أن يضلّ حكم العقل إذا ذهب أو تغيّر، وأن يهوّن ضلاله على صاحبه مؤاتاة الدنيّة بدل أن يسمو عن أن يمرّ به طيف الفاحشة.
,
اختلف مؤرّخو السيرة في تحريم الخمر متى كان، وذهب بعضهم إلى أنه كان في السنة الرابعة للهجرة، ولكن أكثرهم على أنه كان عام الحديبية. والفكرة في تحريم الخمر اجتماعية غير متصلة بالتوحيد من حيث هو التوحيد. ولا أدلّ على ذلك من أن التحريم لم ينزل به القرآن إلا بعد انقضاء عشرين سنة أو نحوها على بعث النبيّ، وأن المسلمين ظلّوا يشربونها إلى أن نزل التحريم. ولا أدلّ على ذلك من أن التحريم لم ينزل مرّة واحدة، بل نزل على فترات جعلت المسلمين يخفّفون منها، حتى كان التحريم فانتهوا عن شربها. فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه سأل عن الخمر وقال: اللهم بينّ لنا فيها؛ فنزلت الآية: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) «1» .
فلمّا لم يكفّ المسلمون بعد هذه الآية، وكان بعضهم يقضي ليله متوافرا على شرابه حتى كان إذا ذهب إلى صلاته لا يعلم ما يقول فيها، عاد عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فإنها تذهب العقل والمال؛ فنزلت الآية: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) «2» .
ومن يومئذ كان منادي الرسول ينادي وقت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة سكران. وعلى رغم ما كان يقضي هذا الأمر من الإقلال من الشراب، وما كان له في هذه الناحية من أثر بالغ جعل الكثيرين يقلون من الخمر ما استطاعوا، عاد عمر بعد زمن يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال.
وقد كان عمر في حلّ من قولها أن كان العرب، والمسلمون من بينهم، يصل بهم الشراب إلى حد يجعلهم يعربدون، يأخذ بعضهم بلحية بعض، ويهوي بعضهم على رأس بعض. دعا بعضهم جماعة إلى طعام وشراب، فلما ثملوا ذكروا المهاجرين والأنصار، فأبدى أحدهم التعصب للمهاجرين فأخذ متعصّب للأنصار بعظمة من عظام رأس الجزور التي يأكلونها فجرح بها أنف المهاجريّ. وثمل حيّان فتشاجرا فشجّ بعضهم بعضا فوقعت في أنفسهم الضغائن، وكانوا من قبل ذلك أحبة متصافين. إذ ذاك نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) «3»
وقد كان أنس الساقي يوم حرّمت الخمر، فلمّا سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها- ولكن أناسا لم يرقهم هذا التحريم فقالوا أتكون الخمر رجسا وهي في بطن فلان وفلان قتل يوم أحد، وفي بطن فلان وفلان قتل يوم بدر! فنزل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) «4» .
وما أمر به الإسلام من البرّ والرحمة، وما دعا إليه من عمل الخير، وما في عبادته من رياضة النفس والطبع، وما يصل إليه الركوع والسجود في الصلاة من قتل غرور القلب، كل ذلك جعله الكمال الطبيعيّ للأديان التي سبقته، وجعل الدعوة إليه للناس كافة.