وحياة التفكير والتأمل وما يستريح إليه من عمل بسيط كرعي الغنم، ليست بالحياة التي تدرّ على صاحبها أخلاف الرزق أو تفتح أمامه أبواب اليسار. وما كان محمد يهتم لذلك أو يعنى به، وقد ظلّ طول حياته أشدّ الناس زهدا في المادة ورغبة عنها. وما إقباله عليها وقد كان الزهد بعض طبعه؟! وكان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه! أليس هو الذي عرف عنه كلّ حياته حرصه على شظف العيش ودعوة الناس إلى الاستمتاع بخشونة الحياة؟ والذين يتوقون إلى المال ويلهثون في طلبه إنما يبتغونه لإرضاء شهوات لم يعرف محمد طوال حياته شيئا منها. واللذّة النفسيّة الكبرى، لذة الاستمتاع بما في الكون من جمال ومن دعوة إلى التأمل، هذه اللذّة العظيمة التي لا يعرفها إلا الأقلون، والتي كانت لذة محمد منذ نشأته ومنذ أرته الحياة في نعومة أظفاره ذكريات بقيت مطبوعة في نفسه داعية إلى الزهد في الحياة، وأولاها موت أبيه وهو ما يزال جنينا، ثم موت أمه، ثم موت جدّه- هذه اللذة ليست في حاجة إلى ثروة من المال وإن تكن في حاجة إلى ثروة نفسية طائلة يعرف الإنسان معها كيف يعكف على نفسه ويعيش بها وفي دخيلتها. ولو أن محمدا ترك وشأنه يومئذ لما نازعته نفسه إلى شيء من المال، ولظلّ سعيدا بهذا الحال، حال الرّعاة المفكرين الذين ينتظمون الكون في أنفسهم، والذين يحتويهم الكون في حبّة قلبه.
لكن عمه أبا طالب كان، كما قدّمنا، حليف فقر كثير عيال. لذلك رأى أن يجد لابن أخيه سببا للرزق أوسع مما يجيئه من أصحاب الغنم التي يرعى. فبلغه يوما أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالا من قريش في تجارتها، وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها يضاربون لها به بشيء تجعله لهم. ولقد زاد في ثروتها أنها، وكانت من بني أسد، قد تزوّجت مرّتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنى. وكانت تقوم على مالها بمعونة أبيها خويلد وبعض ذوي ثقتها. وقد ردّت خطبة الذين خطبوها من كبار قريش؛ لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها. واعتزمت أن تقف جهدها على تنمية ثروتها. وإذ علم أبو طالب أنها تجهز لخروج تجارتها إلى الشام مع القافلة نادى ابن أخيه، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين من سنه، وقال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا. وقد بلغني أن خديجة استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببت! فخرج أبو طالب إليها فقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة بكار. وكان جواب خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألته لحبيب قريب! وعاد العمّ إلى ابن أخيه يذكر له الأمر ويقول له: هذا رزق ساقه الله إليك.
,
وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا في كل عام يقضونه بعيدا عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنف والتحنث. وقد وجد محمد فيه خير ما يمكّنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمل، كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يتلمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء- على فرسخين من شمال مكة- غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طول شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنا في التأمل والعبادة، بعيدا عن ضجّة الناس وضوضاء الحياة، ملتمسا الحق، والحق وحده. ولقد كان يشتد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لقد كان ينسى نفسه وينسى طعامه وينسى كل ما في الحياة؛ لأن هذا الذي يرى في حياة الناس مما حوله ليس حقّا. وهناك كان يقلّب في صحف ذهنه كل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة وأزورارا.
,
وكان إذا استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب إلى حراء وعاد إلى تفكيره ينضجه شيئا فشيئا وتزداد نفسه به امتلاء. وبعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه، صار يرى في نومه الرؤيا الصادقة تنبلج أثناءها أمام باصرته أنوار الحقيقة التي ينشد، ويرى معها باطل الحياة وغرور زخرفها. إذ ذاك آمن أن قومه قد ضلوا سبيل الهدى، وأن حياتهم الروحيّة قد أفسدها الخضوع لأوهام الأصنام وما إليها من عقائد متصلة بها ليست دونها ضلالا وليس فيما يذكر اليهود وما يذكر النصارى ما ينقذ قومه من ضلالهم. ففيما يذكر هؤلاء وأولئك حقّ؛ لكن فيه كذلك ألوانا من الوهم، وصورا من الوثنية، لا يمكن أن تتفق مع الحق المجرّد البسيط الذي لا يعرف كل هذه المضاربات الجدلية العقيمة مما يمعن فيه هؤلاء وأولئك من أهل الكتاب. وهذا الحق هو الله خالق الكون لا إله إلا هو. وهذا الحق هو أن الله رب العالمين. هو الرحمن الرحيم. وهذا الحق هو أن الناس مجزيون بأعمالهم. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) «1» ، وأن الجنة حقّ والنار حق، وأن الذين يعبدون من دون الله إلها آخر لهم جهنم، وساءت مستقرّا ومقاما.
وشارف محمد الأربعين، وذهب إلى حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيمانا بما رأى في رؤاه الصادقة، وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم وإلى الحقيقة الخالدة، وقد اتجه إلى الله بكل روحه أن يهدي قومه بعد أن ضربوا في تيهاء الضلال. وهو في توجّهه هذا يقوم ويرهف ذهنه وقلبه، ويطيل الصوم، وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء، ثم يعود إلى خلوته ليعود فيمتحن ما يدور بذهنه وما يتبين له في رؤاه. ولقد طالت به الحال ستة أشهر، حتى خشي على نفسه عاقبة أمره، فأسرّ بمخاوفه إلى خديجة وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به. فطمأنته الزوج المخلصة الوفيّة، وجعلت تحدثه بأنه الأمين، وبأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وإن لم يدر بخاطرها ولا بخاطره أن الله يهيئ مصطفاه بهذه الرياضة الروحية إلى اليوم العظيم، وإلى النبأ العظيم، يوم الوحي الأول، ويهيئه بها إلى البعث والرسالة.
,
وفيما هو نائم بالغار يوما جاءه ملك وفي يده صحيفة، فقال له: اقرأ. فأجاب مأخوذا: ما أقرا! فأحس كأن الملك يخنقه ثم يرسله ويقول له: اقرأ. قال محمد: ما أقرأ! فأحس كأن الملك يخنقه كرّة أخرى، ثم يرسله ويقول: اقرأ. قال محمد- وقد خاف أن يخنق مرّة أخرى- ماذا أقرأ؟! قال الملك: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ
__________
(1) سورة الزلزلة آيتا/ 7 و 8.
يَعْلَمْ) «1» فقرأها وانصرف الملك عنه وقد نقشت في قلبه «2» .
ولكنه ما لبث أن استيقظ فزعا يسأل نفسه: أيّ شيء رأى؟ أتراه أصابه ما كان يخشى من جنّة؟ وتلفّت يمنة ويسرة فلم ير شيئا. ومكث برهة أصابته فيها رعدة الخوف وتولاه أشدّ الوجل، وخاف ما قد يكون بالغار، ففر منه وكله حيرة لا يستطيع تفسير ما رأى. وانطلق هائما في شعاب الجبل يسائل نفسه عمّن دفعه ليقرأ. لقد كان إلى يومئذ يرى وهو في تحنثه الرؤيا الصادقة تنبلج من خلال تأمله فتملأ صدره فتضيء أمامه وتدله على الحق أين هو، وتنير له حجب الظلمات التي زجّت قريشا في وثنيتهم إلى عبادة أصنامهم. وهذا النور الذي أضاء أمامه وهذا الحق الذي هداه سبيله هو الواحد الأحد. فمن هذا المذكّر به، وبأنه الذي خلق الإنسان، وبأنه الأكرم الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم؟ وتوسّط الجبل وهو في هذه الحال من فزع وخشية ومساءلة، فسمع صوتا يناديه، فأخذه الرّوع ورفع رأسه إلى السماء، فإذا الملك في صورة رجل هو المنادي.
وزاد به الفزع ووقفه الرعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عما يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعا ويتقدم ويتأخّر فلا تنصرف صورة الملك الجميل من أمامه. وأقام على ذلك زمنا كانت خديجة قد بعثت أثناءه من يلتمسه في الغار فلا يجده. فلما انصرفت صورة الملك رجع محمد ممتلئا بما أوحي إليه، وفؤاده يجف وقلبه يضطرب خوفا وهلعا. ودخل على خديجة وهو يقول زملوني، فزمّلته وهو يرتعد كأن به الحمّى. فلما ذهب عنه الرّوع نظر إلى زوجه نظرة المستنجد، وقال: يا خديجة! مالي!؟ وحدّثها بالذي رأى، وأفضى إليها بمخاوفه أن تخدعه بصيرته أو أن يكون كاهنا. وكانت خديجة، كما كانت أيام تحنثه في الغار ومخاوفه أن تكون به جنّة، ملك الرحمة وملاذ السلام لهذا القلب الكبير الخائف الوجل. لم تبد له أي خوف أو ريبة، بل رنت إليه بنظرة الإكبار وقالت: أبشر يابن عمّ وأثبت. فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة. والله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» .
واطمأن روع محمد وألقى على خديجة نظرة شكر ومودة ثم أحسّ جسمه متعبا في حاجة إلى النوم فنام.
نام ليستيقظ من بعد لحياة روحية قوية غاية القوة؛ حياة تأخذ بالأبصار والألباب، ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية. تلك رسالة ربه يبلغها ويدعو الناس إليها بالتي هي أحسن، حتى يتمّ الله نوره ولو كره الكافرون.
__________
(1) سورة العلق الآيات من 1 إلى 5.
(2) كذلك روت كتب السيرة الأولى، وعليه إبن إسحاق. وكذلك روى كثير من المحدثين. على أن بعضهم يرى أن بدء الوحي كان في اليقظة وكان نهارا، ويذكر حديثا على لسان جبريل طمأن به محمدا حين رأى روعه. وذكر ابن كثير في تاريخه ما أورده الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (دلائل النبوة) عن علقمة بن قيس أنه قال: «إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد» : وأضاف» : «وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه، وهو كلام حسن يؤيده ما قبله ويؤيد ما بعده» .