وكثرت مساآت قريش من بعد ذلك لمحمد حتى ضاق بهم ذرعا. فخرج إلى الطائف وحيدا منفردا لا يعلم بأمره أحد، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ويرجو إسلامهم، لكنه رجع منهم بشرّ جواب. فرجاهم ألا يذكروا من استنصاره بهم شيئا حتى لا يشمت به قومه. ولم يسمعوا له بل أغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به. ففر منهم إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فاحتمى به، فرجع السفهاء عنه.
وجلس إلى ظل شجرة من عنب وابنا ربيعة ينظران إليه وإلى ما هو فيه من شدة الكرب. فلما اطمأن رفع عليه السلام رأسه إلى السماء ضارعا في شكاية وألم وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى؛ ولا حول ولا قوة إلا بك» .
وطال تحديق ابني ربيعة فيه، فتحركت نفساهما رحمة له وإشقاقا من سوء ما لقي، وبعثا غلامهما النصرانيّ عداسا إليه بقطف من عنب الحائط. فلما وضع محمد يده فيه قال: باسم الله، ثم أكل. ونظر عدّاس دهشا وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد! فسأله محمد عن بلده ودينه، فلما علم أنه نصرانيّ نينويّ قال له: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فسأله عدّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال محمد: ذاك أخي كان نبيّا وأنا نبيّ. فأكبّ عدّاس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه. وعجب ابنا ربيعة لما رأيا وإن لم يصرفهما ذلك عن دينهما ولم يمنعهما من التحدث إلى عدّاس حين عاد إليهما يقولان: يا عدّاس، لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه.