(فصل) وأما شفقته ورأفته ورحمته بجميع الخلق فقال تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فمن شفقته صلى الله عليه وسلم تألفه العرب ورؤساء القبائل بالعطايا حتى كان (ولو في قضمة) بفتح القاف وسكون المعجمة والجواب محذوف أى لكان خيرا له.
(فصل) في بيان شفقته ورحمته ورأفته (لقد جاءكم رسول) هو محمد صلى الله عليه وسلم (من أنفسكم) تعرفون حسبه ونسبه وقال السدى من العرب من بنى اسماعيل وقد مر أول الكتاب انه قرئ بفتح الفاء (عزيز عليه) أي شديد وعظيم (ما عنتم) قيل ما صلة أى عنتكم وهو دخول المشقة عليكم والمضرة لكم وقال القتبي ما أعنتكم وقال ابن عباس ما ضللتم وقال الكبى ما اثمتم (حريص عليكم) أى على هدايتكم وصلاحكم أو على ضالكم ان يهديه الله (بالمؤمنين رؤف رحيم) قيل رؤف بالمطيعين رحيم بالمذنبين (كان
سبب اسلامهم وفلاحهم قال صفو ان بن أمية والله لقد أعطانى ما أعطانى وانه لا بغض الخلق الى فما زال يعطينى حتى انه لاحب الخلق الى وأعطى اعرابيا عطاء ثم قال له أحسنت اليك قال الاعرابى لا ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا اليه فأشار اليهم ان كفوا فزاده شيأ ثم قال له أحسنت اليك قال نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا فأمره ان يخبرهم بذلك فأخبرهم ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها الا نفورا فناداهم صاحبها خلوا بينى وبين ناقتى فانى أرفق بها منكم واعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الارض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وانى لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار وقال صلى الله عليه وسلم لا يبلغني أحد منكم على أحد من أصحابي شيأ فانى أحب ان أخرج اليهم وأنا سليم الصدر ومن شفقته صلى الله عليه وسلم سؤاله ربه التخفيف عن أمته وتركه أشياء خشية ان تفرض عليهم فيعجزوا عنها فيقعوا في الحرج. وكان صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة يريد اطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخفف خشية ان يشق على أمه وربما أصغى الاناء للهرة فما يرفعه حتى تروى. وروي انه صلى الله عليه وسلم لما تناها اذى قريش وحرج صدره سبب) بالفتح (ولا اجملت) بالجيم أي ولا فعلت جميلا (فامره أن يخبرهم بذلك) لفظ الشفاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم انك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابى من ذلك شيء فان أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدى حتى يذهب ما في صدورهم عليك قال نعم فلما كان الغداة وقال العبشمى جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان هذا الاعرابي قال ما قال فرددناه فزعم انه رضي أكذلك قال نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا (من قمام الارض) بضم القاف وتخفيف الميم جمع قمامة وفي ذلك من بديع المثل تمثيل عرض الدنيا التى دفعها للاعرابى بالقمامة (وقال لا يبلغنى أحد الى آخره) أخرجه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود (سؤاله) بالرفع (ربه) مفعول (التخفيف) مفعول ثان (عن أمته) أي من الصلاة من خمسين الي خمس وغير ذلك (وتركه) بالرفع (أشياء) منها قيام رمضان وترك قول نعم للاقرع بن حابس حين قال له في الحج أكل عام يا رسول الله وغير ذلك (وكان يدخل في الصلاة يريد اطالتها الى آخره) أخرجه أحمد والشيخان وابن ماجه عن أنس (فيسمع بكاء الصبى) أى وتكون أمه في المصلين خلفه صلى الله عليه وسلم (فيخفف) كى تسرع الانصراف الى ولدها وهو معنى التجوز في رواية اخرى (حسنة ان يشق على أمه) في رواية اخري مما اعلم من شدة وجد أمه من بكائه (وربما أصغى الاناء للهرة الى آخره) للطبراني في الاوسط وأبي نعيم في الحلية من حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي للهرة الاناء فتشرب ثم يتوضأ بفضلها (وروى انه صلى الله عليه وسلم لما تناهي أذى قريش الي آخره) أخرجه
لذلك ناداه ملك الجبال وسأله ان يطبق عليهم الاخشبين فأبى صلى الله عليه وسلم وقال أرجو ان يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيأ وقال ابن مسعود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
[,
(فصل) وأما خلقه صلى الله عليه وسلم في الوفاء وحسن العهد وصلة الرحم فقد حاز السبق فيها وأبرز خافيها حتى ورد في الصحاح انه كان يكرم صدائق خديجة ويصلهم ويرتاح لهم فسئل عن ذلك فقال ان حسن العهد من الايمان. ومن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم بأمه وأخته من الرضاعة كما سبق في غزوة حنين وأعتق بسببهم ستة آلاف رأس ومنه ما روي عن عبد الله بن أبى الحمساء قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل ان يبعث وبقيت له بقية فوعدته ان آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فاذا هو في مكانه فقال يافتى لقد شققت على انا هنا منذ ثلاث انتظرك ولقد صدقت فراسة خديجة فيه حيث قالت في ابتداء الوحى ابشر فو الله لا يخزيك الله أبدا انك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق.
الشيخان وغيرهما وقد مر في صدر الكتاب (وقال ابن مسعود) أخرجه عنه البخارى وغيره (يتخولنا) بالمعجمة وتشديد الواو ثم لام أى يتعهدنا وقال أبو عمرو بن العلاء الصواب ينحو بنا بالنون ومعناه يتعهدنا وقال أبو عمرو الشيباني الصواب يتحولنا بالمهملة واللام أي يتطلب أحوالنا التي يبسط فيها للموعظة والصواب من حيث الرواية كما قاله الحافظ ابن حجر في الاول وقد صح المعني فيه (مخافة) كذا في موضع من صحيح البخاري وفي آخر كراهة وزعم في التوشيح انه من تصرف الرواة (السآمة) بالمهملة على وزن المخافة وهى الفتور والملال (علينا) هو ظاهر على رواية مخافة وكذا على رواية كراهة اذهى بمعنى مخافة.
(فصل) في بيان خلقه (السبق) بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر سبق يسبق سبقا وأما بفتح الموحدة فهو المال المبذول في السبق (وابرز) أى أظهر (خافيها) ياؤه في الاصل مفتوحة لانه مفعول ويجوز أن تسكن لمجاورة فيها (وورد في) الاحاديث (الصحاح) في الصحيحين وغيرهما عن عائشة (ويرتاح) أي يستأنس (حسن العهد من الايمان) أخرجه الحاكم عن عائشة (ومنه ما روي) في سنن أبي داوود وغيرها (ابن أبي الحمساء) بفتح المهملة وسكون الميم ثم مهملة مع المد ووقع في بعض النسخ الشفاء الخنساء بالمعجمة والنون قال الشمنى وهو تصحيف وفي بعضها عن أبي الحمساء وهو غلط اذ ابو الحمساء لم يسلم (فراسة) بكسر الفاء والمهملة وهو النظر بالفعل والتدبر به وربّما كانت فيه زيادة قوة بحسب صفاء القلب وكدورته فيصل بسبب التفرس شيء يقع في القلب تسميه أهل الطريقة مكاشفة وفي الحديث اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله أخرجه البخاري في التاريخ والترمذى عن أبى سعيد وأخرج الحكيم وسيبويه
[