"وأما أم المؤمنين سودة" بفتح السين المهملة، علم منقول من صفة دالة على المدح، وهو السفح المستقيم تفاؤلا أن تكون بعد كبرها بهذه الصفة وقد كانت رضي الله عنها طويلة جسيمة، "بنت زمعة" بزاي، فميم، فمهملة مفتوحات قال ابن الأثير: وأكثر ما سمعنا أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم، وقول المصباح لم أظفر بالسكون في كتب اللغة قصور، فقد قدمه القاموس، ثم حكى الفتح، فظاهره أن السكون أكثر لغة، وتقدم إنهاء نسبها إلى عامر بن لؤي بن غالب، "وأمها الشمول" بشين معجمة، وميم، فواو، فمهملة "بنت قيس" بن عمرو بن زيد الأنصارية من بني عدي بن النجار بنت أخي سلمي بنت عمرو بن زيد أم عبد المطلب، "فأسلمت قديما، وبايعت" على الإسلام قديما، "وكانت تحت ابن عم" لأبيها "يقال له السكران بن عمرو" بن عبد شمس بن عبدود وأبوها زمعة بن قيس بن عبد شمس المذكور، فعمرو وقيس أخوان، فالسكران ابن عم أبيها، "أخو سهيل" بالتصغير "ابن عمرو" وسهيل بالتكبير، وسليط، وحاطب بنو عمرو، وكلهم صحابة رضي الله عنهم، وإنما اقتصر تبعا للإصابة على سهيل لشهرته "أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها" وولدت له ابنا اسمه عبد الرحمن، قتل في حرب جلولاء قرية من
وقيل إنه مات بالحبشة.
وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة، هذا قول قتادة وأبي عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره، ويقال تزوجها بعد عائشة، ويجمع بين القولين: بأنه صلى الله عليه وسلم على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل منهما، وإن كان المتبادر إلى الفهم العقد دون الدخول.
__________
قرى فارس، "وقيل إنه مات بالحبشة"، وعن ابن عباس أنها رأت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل يمشي حتى وطئ عنقها فأخبرت زوجها بذلك فقال: إن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك، ثم رأت في المنام ليلة أخرى إن قمرا انقض عليها، وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها، فقال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيرا حتى أموت وتتزوجين من بعدي، فاشتكى السكران من يومه ذلك، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات، "وتزوجها صلى الله عليه وسلم" عقد، ودخل عليها "بمكة" ويروى بالمدينة.
قال الشامي: وهي رواية شاذة وقع فيها، وهم "بعد موت خديجة" سنة عشر من النبوة، وقيل سنة ثمان بناء على المشهور، ومقابلة في وفاة خديجة "قبل أن يعقد على عائشة" على الصحيح، وأصدقها أربعمائة درهم في قول ابن إسحاق.
وأخرج ابن سعد برجال ثقات وابن أبي عاصم وغيرهما، أن خولة بنت حكيم قالت: ألا أخطب عليك؟ قال: بلى، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك، فخطبت عليه سودة وعائشة، فتزوجهما، فبنى بسودة بمكة وعائشة بعد الهجرة.
"هذا قول قتادة وأبي عبيدة" معمر بن المثنى، "ولم يذكر ابن قتيبة غيره" وبه جزم الجمهور.
قال في الإصابة: ورواه ابن إسحاق، فقال: كانت سودة أول امرأة تزوجها بعد خديجة.
قال اليعمري وهو الصحيح، "ويقال تزوجها بعد عائشة".
قال عبد الله بن محمد بن عقيل "ويجمع بين القولين" كما نقله في الفتح عن المارودي، "بأنه صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة قبل سودة، أي قبل الدخول بسودة لا قبل العقد عليها، كما توهمه من استشكله، بدليل بقية كلام المصنف، فلا ينافي أنه عقد عليها قبل عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة" بعد عقده على عائشة، "والتزويج يطلق على كل منهما" من العقد والدخول فيحمل الأول على العقد، والثاني على الدخول، لكونه سببا فيه، فيتفق القولان "وإن كان المتبادر للفهم العقد دون الدخول" وهو الذي جاء منه تباين القولين، وبهذا الجمع سقط قول الخيضري كيف يكون الأول أصح، ومقابله في مسلم، فهو من باب صحيح وأصح، وكلاهما صحيح، فتقدم رواية الأكثر انتهى؛ لأنه بناه على العقد فيهما، وأما ابن كثير، فقال:
ولما كبرت سودة أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، فسألته أن لا يفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها.
__________
الصحيح أنه عقد على عائشة قبل سودة، ولم يدخل بها إلا في ثانية الهجرة، ودخل بسودة بمكة وسقه إلى ذلك أبو نعيم، وفيه نظر، فإن جزمه بدخوله في الثانية يخالف ما ثبت أنه دخل بعائشة بعد خديجة بثلاث سنين، كما في فتح الباري، وتصحيحه أنه عقد عليها قبل سودة معارض بتصحيح اليعمري، وجزم الدمياطي أنه عقد على عائشة بعد عقده على سودة.
روى الإمام أحمد بسند جيد والطبراني برجال ثقات، عن عائشة وابن سعد والبيهقي بسند حسن من مرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن بن حاطب، ووصله ابن أبي عاصم أن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تتزوج؟ قال: "من"؟، قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، أما البكر فابنة أحب الخلق إليك عائشة وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك، قال: "اذهبي فاذكريهما علي" الحديث، وفيه فذهبت إلى سودة، فقلت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: "إن رسول الله أرسلني إليك لأخطبك عليه"، قالت: وددت ذلك لكن ادخلي على أبي فاذكري له ذلك، وكان شيخا كبيرا قد جلس على المواسم، فحييه بتحية الجاهلية، فقلت: أنعم صباحا، فقال: ومن أنت؟ فقلت: خولة، فرحب بي، وقال ما شاء أن يقول: فقلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر ابنتك، قال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك، قال: فقولي له فليأت، فجاء صلى الله عليه وسلم فملكها وقدم عبد الله بن زمعة، فوجد أخته قد تزوجها رسول الله فحثا التراب على رأسه، فلما أسلم كان يجد في نفسه من ذلك شيئا ويقول: إني لسفيه يوم أحثوا التراب على رأسي أن تزوج صلى الله عليه وسلم أختي، وأفاد الحديث أن أباها هو الذي زوجها للمصطفى، وقال ابن إسحاق: زوجه إياها سليط بن عمرو، ويقال أبو حاطب بن عمرو، وتعقبه ابن هشام، بأن ابن إسحاق نفسه يخالف هذا؛ لأنه ذكر أنهما كانا غائبين بالحبشة في هذا الوقت، "ولما كبرت سودة" بكسر الباء مضارعه بالفتح لا غير، أي أسنت وبضمها فيهما في الأجسام والمعاني، وكلاهما في القرآن أنشدنا شيخنا بالمجلس عن شيخه العلامة عبد الله الدنوشري لنفسه:
كبرت بكسر الباء في السن وارد ... مضارعه بالفتح لا غير يا صاح
وفي الجسم والمعنى كبرت بضمها ... مضارعه بالضم جاء بإيضاح
قال: وقوله وارد هو المناسب لقوله جاء بإيضاح، وهو الذي سمعته من لفظه "أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، فسألته أن لا يفعل، وجعلت يومها لعائشة فأمسكها" كما رواه ابن عبد البر
وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. وروى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبي هلال.
__________
عن عائشة لما أسنت سودة هم صلى الله عليه وسلم بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء، فأمسكها حتى توفي.
وأخرج الترمذي بسند حسن عن ابن عباس، وأبو داود والحاكم عن عائشة أن سودة خشيت أن يطلقها صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ففعلت، فأنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] .
قال في الإصابة: وأخرجه ابن سعد عن عائشة من طرق في بعضها، أنه بعث إليها بطلاقها، وفي بعضها أنه قال لها: "اعتدي" والطريقان مرسلان، وفيهما أنها قعدت له على طريقه، فناشدته أن يراجعها، وجعلت يومها وليلتها لعائشة، ففعل، ومن طريق معمر بلغي أنها قالت ما بي على الأزواج من حرص ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجا لك انتهى.
ولو صحا لأمكن الجمع لكن صحح الدمياطي وتلميذه اليعمري، أنه لم يطلقها، وكانت شديدة الإتباع لأمره صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع هذا ثم ظهور الحصر، قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب وسودة، فقالتا: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، وصح عن عائشة عند أبي يعلى وغيره، أنها قالت: ما من الناس أحد أحب إلي أن أكون في مسلاخه من سودة بها الأحدة فيها كانت تسرع منها الفيئة، مسلاخ بكسر الميم، وسكون المهملة، وخفة اللام والخاء المعجمة هديها وطريقتها.
وفي الصحيح عن عائشة: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبل الناس، وكانت امرأة بطيئة يعني ثقيلة، فأذن لها، ولأن أكون استأذنته أحب إلي من مفروح به,
وعن إبراهيم النخعي قال: قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم صليت خلفك الليل، فركعت بي حتى أمسكن ما بقي مخافة أن يقطر الدم فضحك وكانت تضحكه بالشيء أحيانا.
رواه ابن سعد برجال الصحيح وعنده أيضا عن محمد بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة بغرارة من دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في غرارة مثل التمر ففرقتها، "وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين" في خلافة معاوية، كما رجحه الواقدي.
وقال الحافظ في تقريبه سنة خمس وخمسين على الصحيح.
"وروى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبي هلال" الليثي، مولاهم
أنها ماتت في خلافة عمر، وجزم الذهبي في التاريخ الكبير بأنها ماتت في آخر خلافة عمر، وقال ابن سيد الناس: إنه المشهور.
__________
أبي العلاء المصري صدوق.
روى له الجماعة "إنها ماتت في خلافة عمر" بن الخطاب "و" لذا "جزم الذهبي في التاريخ الكبير، بأنها ماتت في آخر خلافة عمر" وهو قد توفي في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين "وقال ابن سيد الناس أنه المشهور" وتبعه الشامي، وقال الخميس أنه الأصح فهذا تباين كبير، وروى عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وروت عنه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتداولة خمس أحاديث للبخاري منها حديث واحد والله أعلم.
[عائشة أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس، من بني مالك بن كنانة- فكانت مسماة على جبير بن مطعم، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم
__________