وقعت في جمادي الآخرة عام 8 هــ، وذلك عند ماء بأرض جذام وراء وادي القرى، يقال له السلسل، يقع بين الشام والمدينة. [ابن هشام: 2/624]
وهي تختلف عن معركة ذات السلاسل التي وقعت في سنة 12 هـ ، بعد وفاة رسول الله، بين جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد وجيش الفرس بقيادة هرمز، وانتهت بإنتصار المسلمين.
قادها الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه، في 500 من أصحابه (كانوا 300 قبل أن يطلب المدد من المدينة فجاءه 200 بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه) . [ابن هشام، مصدر سابق]، وقد أعطى النبي عمرو بن العاص راية سوداء وعقد له لواءً أبيضًا . [ابن سعد، 2/131]
- وأد محاولات الأعراب وبينهم قبيلة قضاعة للإغارة على أطراف المدينة، بعد سرية مؤتة التي واجه فيها العرب لأول مرة نصارى الشام من العرب والروم، والتي أكدت منعتهم وقوتهم رغم انسحابهم حقنا للدماء. [ابن سعد، مصدر سابق].
-تأليف قلوب القبائل من بلي وعذرة وغيرها لدين الإسلام والمساهمة بحروب المسلمين في الشام.
-تأديب الأعراب ممن ساندوا الروم في غزوة مؤتة قبل شهر، على حدود الشام، منهم قبائل لخم وجذام وطيء وغيرهم، مما ضاعف بلاء المسلمين آنذاك.
الرسول يعطي ابن العاص إشارة البدء
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل تحشد ضد المسلمين، دعا عمرو بن العاص لقتالهم في 300 من أصحابه، واختارهم من سراة المهاجرين والأنصار (وجهائهم) ومعهم 30 فرسًا، وأمره باستنفار من يتعرض له من قبائل "بلي"و"عذرة" و"بلقين" ومحاولة اجتذابهم لمعسكر المسلمين وإن أبوا إلا الحرب فقتالهم. [ابن سعد، مصدر سابق، بتصرف].
ومن الدوافع التي ذٌكرت في اختيار النبي عمرو بن العاص للإمارة رغم أنه كان حديث عهد بالإسلام، أنه من جهة أثبت شجاعة قتالية في سرية مؤتة، التي استشهد فيها عددا من كبار الصحابة، وأنه ينتمي من جهة الأم لقبيلة "بلي" فبعثه رسول الله لاستنفار العرب من تلك القبيلة ومن جاورها لملاقاة نصارى الشام. [ابن هشام، مصدر سابق].
وجاء أن النبي قال لابن العاص: "يا عَمرُو، إنِّي أُريدُ أن أَبعثَك على جَيشٍ فيُغنِمَك اللهُ، وأَرغَبَ لك رغبةً منَ المالِ صالحةً، قُلتُ: إنِّي لم أُسلِمْ رغبةً في المالِ، إنَّما أَسلَمْتُ رغبةً في الإسلامِ، فَأكونَ معَ رَسولِ اللهِ، فَقال: يا عمرُو، نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالحِ".[صحيح الأدب، الألباني، 229]
ابن العاص يهدد من يوقد النار!
وقعت أحداث السرية في ليلة شديدة البرودة، وقد كلم الصحابة أبا بكر أن يطلب من أمير السرية أن يسمح لهم بإيقاد النيران للتدفئة، فأجابه: "لا يوقِدُ أحدٌ منهم نارًا إلَّا قذَفْتُه"
لما انصرف الجيش منتصرا، وعادوا للنبي، ذكروا له ما كان، فسأله عن مقولته، فأجاب ابن العاص: "يا رسولَ اللهِ إنِّي كرِهْتُ أنْ آذَنَ لهم أنْ يوقِدوا نارًا فيرى عدوُّهم قِلَّتَهم وكرِهْتُ أنْ يتبَعوهم فيكونَ لهم مددٌ فيَعطِفوا عليهم"(أي خشي إجهاز العدو عليهم إن رآهم وعلم قلة عددهم وخشى عليهم الوقوع بكمين) فحمِد رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَه . [رواه ابن حبان: 4540]
إرسال المدد بقيادة أبي عبيدة
سار عمرو بن العاص ليلا هو وأصحابه وكمنوا نهارا كعادة المسلمين في سراياهم، ولما اقتربوا من العدو، علموا حشدهم بأعداد كبيرة، فبعث أمير السرية عمرو بن العاص، إلى رسول الله، الصحابي رافع الجهني، يطلب منه المدد.
وبالفعل؛ وضمانا لنجاح السرية، أرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا عبيدة بن الجراح في 200من المقاتلين المسلمين، وعقد له لواء، وبعث معه أكابر الصحابة وفيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعًا ولا يختلفا (أي لا يتنازعا القيادة) . [ابن سعد، مصدر سابق].
حكمة أبي عبيدة وطاعته للنبي
وجاء أن وقت الصلاة قد حان بعد وصول المدد بقيادة أبي عبيدة، فقام رضي الله عنه، يؤم المسلمين، باعتبار أنه من أقدم المهاجرين، فقام عمرو بن العاص وكان لا يزال شابا حديث عهد بالإسلام، يخبره بعدم جواز ذلك قائلا: "إنما قدمت عليّ مددًا، وأنا الأمير"، وقد فهم أن الإمامة إشارة للإمارة على السرية، فأطاع له بذلك أبو عبيدة، وقال" إنك إن عصيتني أطعتك" وذكره بوصية النبي بعدم الخلاف، وكان أبوعبيدة معروفا بلينه وسهولته وعدم طلبه للدنيا. [ابن هشام، مصدر سابق]
انتصارات ابن العاص والمسلمين
استطاع عمرو بن العاص أن يحرز انتصارا مبهرا ودخل قبائل بلي وبلاد عذرة، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا وتفرقوا ، فأرسل عمرو يخبر النبي بسلامة السرية وما أحرزته. [ابن سعد، مصدر سابق].
وجاء أن المسلمين تراشقوا بالنبال ساعة مع القبائل المتمردة فهربوا حين أيقنوا بالهزيمة.
تفقه ابن العاص يزيح الحرج
ذكرت بعض كتب السيرة أن عمرو بن العاص في طريقه للسرية، أصابته جنابة من أثر احتلام، فتيمم وصلى بأصحابه دونما غسل، لأنها كانت ليلة شديدة البرودة، وقد خشي إن اغتسل فيها أن يهلك، وتذكر قول ربه: { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء: 29]، فلما عاد ذكر ذلك لرسول الله وقد كان يسأله: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب» مستنكرا، فلما علم ما كان منه، سكت، وكان سكوته إقرارا منه على الفعل. [رواه أبوداود: 334]
نجح عمرو في إرجاع هيبة الإسلام لأطراف الشام، وإرجاع أحلاف المسلمين لصداقتهم الأولى، ودخول قبائل أخرى في حلف مع المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس، وبني مرة، وبني ذبيان، وكذلك دخلت فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين، وتبعها بنو سليم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس، وبنو أشجع، ومعظم من لم يكن قد حالف المسلمين من القبائل المجاورة للمدينة، وأصبح المسلمون أقوى عنصر سياسي في شمال بلاد العرب، وإن لم يكن في بلاد العرب جميعها . [أبوشهبة، مرجع سابق].
- حكمة النبي القائد العسكري في مبادأة الأعداء ووأد الهجمات ضد المسلمين في مهدها، وهي من أهم عوامل النجاح، إلى جانب دقة الاستخبارات المسلمة آنذاك في جلب المعلومة في حينها.
- قوة المسلمين في وحدتهم؛ وقد أمر النبي الصحابة بعدم الخلاف .
- صبر الصحابة على الجهاد لإعلاء كلمة الله، فلم يكن يمر سوى شهر حتى يستعدوا بعد معركة مؤتة المريرة لسرية قتالية أخرى.
-المال ليس مفسدة وطلبه مشروع، طالما يقع في يد رجل صالح يوجهه للخير. (حكمة نبوية).
-حسن اختيار قادة البعوث؛ وتحديد أهدافها، فلم يكن عمرو بن العاص إلا حديث عهد بالإسلام آنذاك ورغم ذلك كان القائد والرسول المحنك يربي جيل جديد من الفاتحين، ويجعله أميرا على أكابر المجاهدين والصحابة، وبينهم أبوبكر وعمر وأبوعبيدة، رضوان الله عليهم، وهم خاصة خاصته في أصحابه، ولكن النبي كان يختار استنادا لعنصر الكفاءة والملائمة وكان ابن العاص فصيحا وقريبا من تلك القبائل، ومع ذلك لما عاد علم خطأه بتصور أنه الأقرب للنبي من هؤلاء الصحابة.
-طاعة رسول الله تسمو فوق الخلافات (موقف أبوعبيدة في التراجع عن الإمامة).
- سماحة النبي وطلبه تأليف قلوب القبائل المعادية قبل حربها؛ فالقتال ليس مقصودا لذاته في الإسلام.
-حفظ النفس مطلب أصيل في الشريعة الإسلامية، وقد امتنع ابن العاص عن الغسل من الجنابة خشية هلاكه ما يعني ضياع أهداف السرية التي أمنه النبي بقيادتها.
-الحزم والسرية وضبط النفس من عوامل نجاح الجيوش، وقد طبقها المسلمون ببراعة.(عدم إشعال النيران- احتمال البرد- الكمون نهارا)
-حكمة القائد العسكري تنقذ جيشه؛ وقد اختار ابن العاص ألا يلاحق جنوده فلول الهاربين؛ كي لا يقعوا بكمين مجهز من الأعداء بأعداد لا قبل لهم بها ويكون هلاكهم.