وقيل: في ثمانية إلى الخزّاز في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة.
وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهراني، وعهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا يجاوز الخّزّاز، يعترض عيرا لقريش تمرّ بهم، فخرجوا على أقدامهم يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبّحوا صبح خمس الخزّاز من الجحفة قريبا من خمّ فوجدوا العير قد مرّت بالأمس فانصرفوا إلى المدينة.
,
روى الإمام أحمد عنه قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا. فأوثق لهم فأسلموا. قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب [أي من السنة الثانية] ولا نكمل مائة. وأخبرنا أن نغير على حيّ من كنانة إلى جنب جهينة، فأغرنا عليهم، فكانوا كثيرا، فلجأنا إلى جهينة فمنعونا، وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا: نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره. وقال قوم: لا بل نقيم ههنا. وقلت أنا في أناس معي: لا، بل نأتي عير قريش فنقتطعها.
فانطلقنا إلى العير [وكان الفيء إذ ذاك من أخذه فهو له] وانطلق أصحابنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمّرا وجهه فقال: «أذهبتم من عندي جميعا وقمتم متفرقين وإنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش» [ (1) ] . فبعث علينا عبد الله بن جحش أميرا فكان أول أمير في الإسلام.
الباب الثامن في سرية أمير المؤمنين المجدّع في الله تعالى عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه في رجب من السنة الثانية إلى بطن نخلة
دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العشاء فقال: «واف مع الصبح، معك سلاحك، أبعثك وجها» . قال: فوافيت الصبح وعليّ قوسي وسيفي وجعبتي ومعي درقتي. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالناس، ثم انصرف، فيجدني قد سبقت واقفا عند بابه، وأجد نفرا من قريش. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فدخل عليه، فأمره فكتب كتابا، ثم دعاني فأعطاني صحيفة من أديم خولانيّ وقال: «قد استعملتك على هؤلاء النّفر، فامض حتى إذا سرت ليلتين فانظر كتابي هذا ثم امض لما فيه» . قلت: يا رسول الله: أي ناحية؟ قال: «اسلك النجدية تؤم ركبة» .
قال ابن إسحاق وأبو عمرو: وأرسل معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبي وقاص، وعكّاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله الليثي، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 69 وعزاه لأحمد وقال: ورواه ابنه عنه وجادة ووصلة عن غير أبيه ورواه البزار وفيه المجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور ووثقه النسائي في رواية وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
وذكر ابن عائذ فيهم: سهل بن بيضاء ولم يذكر سهيلا ولا خالدا ولا عكّاشة. وذكر ابن سعد فيهم المقداد بن عمرو- وهو الذي أسر الحكم بن كيسان- وقال ابن سعد: كانوا اثني عشر [من المهاجرين] كل اثنين يعتقبان بعيرا. وروى الطبراني بسند حسن عن زرّ [بن حبيش] رحمه الله تعالى قال: «أول راية رفعت في الإسلام راية عبد الله بن جحش» .
فانطلق عبد الله بن جحش حتى إذا كان مسيرة يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «سر باسم الله وبركاته ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك على السير معك، وامض لأمري فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصّد عير قريش وتعلّم لنا أخبارهم» . فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة.
وقرأه على أصحابه وقال: [قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر] وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع. [فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] » فقالوا أجمعون:
«نحن سامعون مطيعون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولك، فسر على بركة الله» .
فسار ومعه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمكان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا في طلبه يومين، ولم يشهدا الموقعة، وقدما المدينة بعدهم بأيام. ومضى عبد الله بن جحش في بقية أصحابه حتى نزل بنخلة. فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش جاءوا بها من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل بن عبد الله، وقيل بل أخوهما المغيرة، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم أصحاب العير هابوهم وأنكروا أمرهم، وقد نزلوا قريبا منهم. فحلق عكاشة بن محصن رأسه، وقيل واقد بن عبد الله، ثم وافى ليطمئن القوم. فلما رأوه قالوا: لا بأس عليكم منهم، قوم عمّار. فأمنوا وقيّدوا ركابهم وسرحوها وصنعوا طعاما.
فاشتور المسلمون في أمرهم وذلك في آخر يوم من رجب ويقال أول يوم من شعبان وقيل في آخر يوم من جمادى الآخرة. فشكّوا في ذلك اليوم أهو من الشهر الحرام؟ أم لا.
فقالوا: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام. فتردد القوم وهابوا [الإقدام عليهم] . ثم شجّعوا أنفسهم. وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم.
فرمى واقد بن عبد اللَّه [التميمي] عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وشدّ المسلمون عليهم فأسروا عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة، والحكم بن كيسان، أسره المقداد بن عمرو،
وأعجز القوم نوفل بن عبد اللَّه بن المغيرة، عند من يقول إنه كان معهم، ومن قال إن نوفلا لم يكن معهم جعل الهارب المغيرة.
وحاز المسلمون العير، وعزل عبد اللَّه بن جحش لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خمس تلك الغنيمة، وقسّم سائرها بين أصحابه، فكان أوّل خمس خمّس في الإسلام، وأوّل غنيمة، وأول قتيل بأيدي المسلمين عمرو بن الحضرمي، وأوّل أسير كان في الإسلام عثمان بن عبد اللَّه، والحكم بن كيسان.
وذلك قبل أن [يفرض الخمس من المغانم، فلما أحل اللَّه تعالى الفيء بعد ذلك وأمر بقسمه وفرض الخمس فيه] وقع على ما كان صنع عبد اللَّه بن جحش في تلك العير، وقال بعضهم: بل قدموا بالغنيمة كلها. وروى الطبراني بسند حسن عن زرّ [بن جيش] رضي اللَّه تعالى عنه قال: أول مال خمّس في الإسلام مال عبد اللَّه بن جحش.
ثم سار عبد اللَّه بالعير والأسيرين إلى المدينة، فلما قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» . فأوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. ويقال أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أوقف غنائم، أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وأعطى كل قوم حقهم. فلما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذلك سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.
وقالت قريش: «قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدماء، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال» . فقال: «من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة، إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان» ؟ وقال يهود تفاءل بذلك على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد اللَّه: عمرو، عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد اللَّه، وقدت الحرب» .
فجعل اللَّه تعالى ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل اللَّه تعالى على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة 217] . أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل اللَّه مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند اللَّه من قتل من قتلتم منهم. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وقد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند اللَّه من القتل. فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرّج اللَّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الغنيمة أو خمسها والأسيرين.
وبعث إليه قريش في فداء الأسيرين
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم» .
فقدم سعد وعتبة، فأفدى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الأسيرين عند ذلك بأربعين أوقية كل أسير، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا. وأما عثمان بن عبد اللَّه فلحق بمكة فمات كافرا.
فلما تجلّى عن عبد اللَّه بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: «يا رسول اللَّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين» ؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة 218] فوضعهم اللَّه تعالى من ذلك على أعظم الرجاء.