"ولما أراد الله تعالى إظهار دينه" انتشاره بين الناس ودخولهم فيه، "وإعزاز نبيه" تصييره عزيزا معظما عند جميع الناس، ومنع من يريده بسوء بعدما لقي من قومه، "وإنجاز موعده" تعالى "له" صلى الله عليه وسلم، أي: نصره على أعدائه، فهو تفسير لما قبله، وقد قال تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33] ، وفي الصحيح: "إن الله روى ليس الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما روى لي منها".
"خرج صلى الله عليه وسلم في الموسم" وكان في رجب كما في حديث جابر عند أصحاب السنن "الذي لقي فيه الأنصار" جمع ناصر كأصحاب وصاحب على تقدير حذف ألف ناصر لزيادتها، فهو ثلاثي يجمع على أفعال قياسا، ويقال: جمع نصير كشريف وأشراف على القياس وجمعوا جمع قلة وإن كانوا ألوفا؛ لأن جمع القلة والكثرة إنما يعبتران في نكرات الجموع.
فعرض -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم،..........
__________
أما في المعارف فلا فرق بينهما وتسميتهم بالأنصار حينئذ باعتبار المآل وإلا فهو اسم إسلامي لما فازوا به دون غيرهم من نصره -صلى الله عليه وسلم- وإيوائه ومن معه ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم. "الأوس والخزرج" بنصبهما على البدلية، وفي نسخة بواو عطف التفسير سموا باسم جديهما الأعليين الأوس والخزرج الأكبر، ولدى حارثة بن ثعلبة، قال السهيلي: الأوس في الأصل الذئب والعطية والخرزج الريح الباردة، وفي الصحاح الأوس العطية والذئب وبه سمي الرجل، وفيه أيضا الخزرج ريح، قال الفراء: الجنوب غير مجراة فلم يقيده بالباردة، وتبعه القاموس لكنه قال الأوس إلا عطاء، وبينه وبين العطية التي عبر بها فرق.
"فعرض -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب" بأمر الله تعالى؛ كما في حديث علي الآتي، "كما كان يصنع في كل موسم" ذكر الواقدي أنه -صلى الله عليه وسلم- مكث ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: قومك أعلم بك، فكان ممن سمي لنا من تلك القبائل بنو عامر بن صعصعة ومحارب وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نصر والبكاء وكندة وكعب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة، وذكر نحوه ابن إسحاق بأسانيد متفرقة.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كان قبل الهجرة يعرض نفسه على القبائل ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: "لا أكره أحد منكم بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالات ربي"، فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به، وأخرج أحمد والبيهقي وصححه ابن حبان عن ربيعة بن عباد بكسر المهملة وخفة الموحدة، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله تعالى.
وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم، عن جابر: كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس بالموسم، فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"، فأتاه رجل من همدان فأجابه ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه، فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم أتيك من العام المقبل، فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب.
وأخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب، قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة، فقال: من القوم؟ قالوا:
فبينما هو عند العقبة، لقي رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان من صنع الله، أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض:
__________
من ربيعة، قال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل، فذكر حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة، قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخرزج وهم الذين سماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضنا حتى بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم.
"فبينما هو عند العقبة" الأولى كما في ابن إسحاق، أي: عقبة الجمرة كما جزم به غير واحد، واستظهره البرهان تبعا للمحب الطبري إذ ليس ثم عقبة أظهر منها، ويجوز أن المراد بها المكان المرتفع عن يسار قاصد منى، ويعرف عند أهل مكة مسجد البيعة، وعليه فالمعنى في مكان قريب من العقبة، "لقي رهطا" رجالا دون عشرة "من الخزرج" لا ينافي قوله: أولا الأوس والخرزج؛ لجواز أنه لقيهم من جملة القبائل قبل لقي أولئك الرهط من الخزرج، "أراد الله بهم خيرا" هو الهداية للدين القويم، "فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر" بفتحتين "من الخزرج" زاد ابن إسحاق: قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم، يعني من حلفائهم؛ لأنهم كانوا تحالفوا على التناصر والتعاضد، "قال: "أفلا تجلسون أكلمكم" بالجزم جواب الطلب وجازمه شرط مقدر على الصحيح، ويجوز الرفع على الاستئناف، "قالوا: بلى" زاد في رواية: من أنت؟ فانتسب لهم وأخبرهم خبره، "فجلسوا معه" وفي رواية: وجدهم يحلقون رءوسهم فجلس إليهم، "فدعاهم إلى الله" وبين المراد منه بقوله: "وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن" أي: بعضه، "وكان من صنع الله أن اليهود كانوا معهم" مع الأوس والخزرج "في بلادهم كانوا أهل كتاب" وعلم وكانوا هم أصحاب شرك أصحاب أوثان وكانوا قد عزوهم ببلادهم؛ كما عند ابن إسحاق "وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء" من خصومة أو محاربة "قالوا" أي: اليهود "إن نبيا سيبعث" السين لتخليص الفعل عن وقت التكلم فلا تنافي بينه وبين قوله: "الآن" أي: الزمان الذي فيه الحروب والمخالفة بينهم وإن امتد وأطلق اسم الآن عليه للعرف في مثله، ولفظ المصنف هو ما في الفتح عن ابن إسحاق، ولفظ العيون عنه أن نبيا مبعوث الآن "قد أظل" قرب "زمانه نتبعه فنقتلكم معه" قتل عاد وإرم؛ كما في ابن إسحاق، أي: نستأصلكم، "فلما كلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت" الوصف الذي كانوا يسمعونه قبل من اليهود، "فقال بعضهم لبعض"
لا تسبقنا اليهود إليه.
فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم:
أبو أمامة، أسعد بن زرارة.
وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء.
ورافع بن مالك بن العجلان.
__________
بادروا لاتباعه "لاتسبقنا اليهود إليه" وفي رواية: فلما سمعوا قوله أيقنوا به واطمأنت قلوبهم إلى ما سمعوا منه وعرفوا ما كانوا يسمعون من صفته، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقونكم إليه، "فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام" وكانوا من أسباب الخير الذي سبب له -صلى الله عليه وسلم، "فأسلم منهم ستة نفر" وقيل: ثمانية، ذكره غير واحد "وكلهم من الخزرج" أتى به مع علمه من قوله: لقي رهطا من الخزرج لما قد يتوهم أنه انضم إليهم وقت الإسلام بعض الأوس، أو لدفع توهم التغليب لما جرت به عادتهم من تغليب الخزرج على الأوس والخزرج معا، قال شيخنا البابلي: ولم يعكس ذلك فرارا من إشعار لفظ الأوس بالذم؛ لأنه معناه لغة الذئب ولزجر البقر والمعز بخلاف لفظ الخزرج، فإنما يشعر بالمدح لأنه الريح أو الريح الباردة.
"وهم أبو أمامة أسعد" بألف قبل السين الساكنة "ابن زرارة" بضم الزاي النجاري شهد العقبات الثلاث، وكان أول من صلى الجمعة على قول، وأول من مات من الصحابة بعد الهجرة، وأول ميت صلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا قول الأنصار، أما المهاجرون، فقالوا: أول ميت صلى عليه عثمان بن مظعون، رواه الواقدي. قال في الإصابة: واتفق أهل المغازي والأخبار على أن أسعد مات في حياته -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة إحدى من الهجرة في شوال.
"وعوف بن الحارث بن رفاعة" بكسر الراء وبالفاء النجاري استشهد ببدر، "وهو ابن عفراء" بنت عيد النجارية الصحابية وهي أم معاذ ومعوذ وإليها ينسبون، "ورافع بن مالك بن العجلان" ضد المتاني الزرقي بزاي فراء فقاف العقبي اختلف في شهوده بدرا، قال ابن إسحاق: هو أول من قدم المدينة بسورة يوسف.
وروى الزبير بن بكار عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زريق أول مسجد قرئ فيه القرآن، وأن رافع بن مالك لما لقيه -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة أعطاه ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليهم في موضعه، قال: وتعجب -صلى الله عليه وسلم- من اعتدال قبلته،
وقطبة بن عامر بن حديدة
وعقبة بن عامر بن نابي.
وجابر بن عبد الله بن رئاب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام.
__________
استشهد بأحد، "وقطبة" بضم القاف وسكون المهملة "ابن عامر بن جديدة" بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين، أبو الوليد السلمي، حضر العقبات الثلاث وبدرا والمشاهد، قال أبو حاتم: مات في خلافة عمر، وقال ابن حبان: في خلافة عثمان. "وعقبة" بضم العين وسكون القاف "ابن عامر بن نابي" بنون فألف فموحدة منقوص كالقاضي، قال ابن دريد: من نبا ينبو إذا ارتفع؛ كما في النور، وفي سبل الرشاد بنون فألف فموحدة فتحتية، السلمي حضر بدرا وسائر المشاهد واستشهد باليمامة، "وجابر بن عبد الله بن رياب" بكسر الراء فتحتية خفيفة فألف فموحدة ضبطه ابن ماكولا وغيره ابن النعمان بن سنان السلمي شهد بدرا وما بعدها، له حديث عند الكلبي عن أبي صالح عنه رفعه في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] ، قال: يمحو من الرزق، قال ابن عبد البر: لا أعلم له غيره، ورده في الإصابة بأن البغوي وابن السكن وغيرهما رووا عنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مر بي ميكائيل في نفر من الملائكة" الحديث، قال البغوي: لا أعرف له غيره، وهو مردود أيضا بالحديث قبله، وبأن البخاري في التاريخ روى عنه قصة أبي ياسر بن أخطب والأحاديث الثلاثة طرقها ضعيفة، انتهى ملخصا.
"وليس" جابر هذا "بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام" بفتح المهملة الأنصاري الصحابي بن الصحابي، وجابر بن عبد الله في الصحابة خمسة، الثالث جابر بن عبد الله العبدي من عبد القيس، الرابع: جابر ن عبد الله الراسبي نزل البصرة، روى ابن منده عنه رفعه: "من عفا عن قاتله دخل الجنة"، قال ابن منده: غريب إن كان محفوظا.
وقال أبو نعيم: قوله الراسبي وهم، إنما هو الأنصاري. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري استصغره النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فرده وليس بالذي يروى عنه الحديث، رواه ابن سعد عن زيد بن حارثة وذكره الطبري وكذا اليعمري في المغازي كما في الإصابة، فقصر البرهان في قوله: إنهم أربعة، فترك الخامس مع أن ممن ذكره اليعمري الذي حشاه هو ونبه على أنه غير راوي الحديث، لكن البرهان قال في غزوة أحد: هو إما الراسبي أو العبدي، انتهى.
وفيه نظر للتصريح بأنه أنصاري وأيضا فالعبدي من وفد عبد القيس وإنما وفدوا سنة تسع ولهم قدمة قبلها سنة خمس، وأُحد سنة ثلاث باتفاق. وقوله أيضا: لا أعلم رواية لغير جابر بن عبد الله بن عمرو تقصير، فقد علمت أن لابن رياب ثلاثة أحاديث وكذا العبدي، فقد روى أحمد
ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت، ويسقط جابر بن رئاب، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي".
فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث أول عام أول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به،
__________
والبغوي عنه، قال: كنت في وفد عبد القيس مع أبي فنهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن الشرب في الأوعية.. الحديث.
"ومن أهل العلم بالسير" كما قال أبو عمر "من يجعل فيهم عبادة بن الصامت" أبا الوليد البدري وحضر سائر المشاهد، مات بفلسطين ودفن ببيت المقدس عن الأشهر، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين، وحكى ابن سعد أنه بقي إلى خلافة معاوية وأمه قرة العين بنت عبادة أسلمت وبايعت. "ويسقط جابر بن رياب" نسبة لجده كما علم، ولكن الأول قول ابن إسحاق وتبعه جماعة وبه صدر في الفتح، ثم قال: وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة هم أسعد ورافع ومعاذ بن عفراء، ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان، انتهى.
واختلف في أول الأنصار إسلاما، فقال ابن الكلبي وغيره: أولهم رافع بن مالك، وقال ابن عبد البر: جابر بن عبد الله بن رياب، وقال مغلطاي: لما ذكر ابتداء إسلام الأنصار فأسلم منهم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، فلما كان من العام المقبل في رجب أسلم منهم ستة، وقيل: ثمانية فذكرهم، انتهى. ويمكن الجمع بأن أسعد ما أظهره إلا مع الخمسة أو السبعة المذكورين معه وإن رافعا وابن رياب أول من أظهره من الستة.
"فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي"، فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث" بضم الموحدة، وحكى القزاز فتحها وتخفيف المهملة فألف فمثلثة، وذكر الأزهري أن الليث صحفه عن الخليل بغين معجمة، وذكر عياض أن الأصيلي رواه بالمهملة والمعجمة، وأن رواية أبي ذر بالمعجمة فقط، ويقال: إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا وهو مكان، ويقال: حصن، يقال: مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة كانت به وقعة بين الأوس والخزرج قتل فيها كثير منهم وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد الصحابي، ويقال له رئيس الكتاب، ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وقتلا يومئذ وكان النصر فيها أولا للخزرج، ثم ثبتهم حضير فرجعوا وانتصرت الأوس، ذكره الفتح، قال في المطالع: يجوز صرف بعاث وتركه. قال العيني: إذا كان اسم يوم صرف وإذا كان اسم بقعة منع للتأنيث والعلمية، انتهى. "أول عام أول" بالإضافة ومنعه ابن السكيت وأجازه غيره كالعام الأول، وهو "يوم من أيامنا اقتتلنا به" ذكر أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل
فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل.
وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
لا يقتل بالحليف، فقتل أوسي حليفا للخزرج فأرادوا أنه يقتدوه فامتنعت فوقعت الحرب بينهم لأجل ذلك فقتل فيها من أكابر من كان لا يؤمن، أي: لا يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وإلى ذلك أشارت عائشة رضي الله عنها؛ بقولها في الصحيح: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قال الحافظ: وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبد الله بن أُبي ابن سلول وكانت هذه الوقعة قبل الهجرة بخمس سنين على الأصح، وقيل: بأربعين سنة، وقيل بأكثر.
"فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا" وقد فعل كما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم- يوم خطبهم، بقوله: "ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي"، "وندعوهم" أي: عشائرنا، "إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد" بالنصب اسم لا النافية للجنس، "أعز منك" بالرفع خبرها وهو أظهر من رفع أحد ونصب أعز على أنها نافية للوحدة لإفادة النافية للجنس التنصيص على العموم.
"وموعدك الموسم العام المقبل وانصرفوا إلى المدينة، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لتحدثهم بما علموا منه فظهر وانتشر، "فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا، وفي الإكليل" اسم كتاب للحكام بكسر الهمزة وسكون الكاف وهو في الأصل؛ كما في الفتح العصابة التي تحيط بالرأس وأكثر استعماله إذا كانت العصابة مكللة بالجوهر، وهي من سمات ملوك الفرس، وقيل: أصله ما أحاط بالظفر من اللحم ثم أطلق على كل ما أحاط بشيء ما.
فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا -وفي الإكليل: أحد عشر- وهي العقبة الثانية، فأسلموا فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة. وعوف بن عفراء، ورفع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، ولم يكن جابر بن عبد الله بن رياب لم يحضرها. والسبعة تتمة الاثني عشر هم:
معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور.
وذكوان بن عبد قيس الزرقي، وقيل إنه رحل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري قتل يوم أحد.
__________
"أحد عشر وهي العقبة الثانية" وعدها أولى ابن إسحاق وغيره باعتبار المبايعة أو بالنسبة للثالثة؛ كما في نحو: ادخلوا الأول فالأول فسمى غير الأول أولا بالنسبة لمن بعده، "فأسلموا فيهم خمسة من الستة المذكورين" في الأولى "وهم أبو أمامة" أسعد بن زرارة "وعوف بن عفراء ورافع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابي ولم يكن منهم جابر بن عبد الله بن رياب لم يحضرها" صفة لازمة لمجرد التأكيد "والسبعة تتمة الاثني عشر وهم معاذ بن الحارث بن رفاعة" كما في العيون وأقره البرهان وبه جزم في الإصابة، وأبدل الشامي معاذا بأخيه معوذ وضبطه بصيغة اسم الفاعل ولكن لم يذكر ذلك في الإصابة في ترجمة معوذ، "وهو" أي: معاذ المشهور بأنه "ابن عفراء" أمه "أخو عوف المذكور" وأخو معوذ أيضا الثلاثة أشقاء وأخوتهم لأمهم إياس وعاقل وخالد وعامر بنو البكير الليثي وشهد السبعة بدرا وهل جرح معاذ بأحد فمات بالمدينة من جراحته أو شهد جميع المشاهد، ومات في خلافة عثمان وفي خلافة علي أقوال حكاها أبو عمر. قال ابن الأثير: وزعم ابن الكلبي أنه استشهد ببدر لم يوافق عليه، "وذكوان" بفتح المعجمة وإسكان الكاف، "ابن عبد قيس" البدري "الزرقي" بتقديم الزاي المضمومة على الراء وكذا كل ما في نسب الأنصار، قاله ابن ماكولا وغيره نسبه إلى جده زريق الخزرجي يكنى أبا اليسع.
"وقيل: إنه رحل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري" وبه جزم أبو عمر وتبعه الذهبي وروى الواقدي عن حبيب بن عبد الرحمن، قال: خرج أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس إلى عتبة بن ربيعة بمكة فسمعا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتياه فأسلما ولم يقربا عتبة وكانا أول من قدم المدينة بالإسلام، "قتل يوم أحد" قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق فشد علي رضي الله عنه على أبي الحكم فقتله، وقال -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينظر إلى رجل يطأ بقدمه غدًا خضرة الجنة، فلينظر إلى هذا"، رواه ابن المبارك.
وعبادة بن الصامت بن قيس.
وأبو عبد الرحمن، يزيد بن ثعلبة البلوي.
والعباس بن عبادة بن نضلة.
وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان:
أبو الهيثم بن التيهان، من بني عبد الأشهل.
__________
"وعبادة" بمهملة مضمومة فموحدة "ابن الصامت بن قيس" بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج، "وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة" بن خزمة بفتح المعجمتين ضبطه الدارقطني كالطبري، وقال ابن إسحاق والكلبي بسكون الزاي ابن أصرم بن عمرو بن عمارة بفتح العين وشد الميم ابن مالك بن فران بفتح الفاء وتخفيف الراء وتشديدها، ويقال فيه أيضا فاران بن بلى، "البلوي" بفتحتين نسبة إلى جده: بلى هذا حليف الخزرج، ذكر ابن إسحاق أنه شهد العقبة الثانية، وقال الطبري شهد العقبتين، "والعباس بن عبادة بن نضلة" بنون مفتوحة وضاد معجمة ابن مالك بن العجلان، روى ابن إسحاق أنه قال: إنكم تأخذون محمدا على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذ أنهكتكم الحرب أسلمتموه، فمن الآن فاتركوه وإن صبرتم على ذلك فخذوه، قال عاصم بن عمر: والله ما قال ذلك إلا ليشد العقد، وقال عبد الله بن أبي بكر لحضور ابن سلول: وأقام العباس بمكة حتى هاجر معه -صلى الله عليه وسلم- فكان أنصاريا مهاجريا واستشهد بأحد، "وهؤلاء من الخزرج ومن الأوس رجلان أبو الهيثم" مالك، ويقال: عبد الله "ابن التيهان" بفتح الفوقية فتحتية مخففة عند أهل الحجاز مشددة عند غيرهم، قال السهيلي: واسمه أيضا مالك، لكن في الإصابة: يقال التيهان لقب واسمه مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعوراء الأنصاري الأوسي، وزعوراء وأخو عبد الأشهل شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها وشهد صفين مع علي في قول الأكثر، ويقال: قتل بها سنة سبع وثلاثين، ويقال: مات سنة عشرين، ويقال: سنة إحدى وعشرين، قال أبو أحمد الحاكم: ولعلها أصوب، وقد قال الواقدي: لم أر من يعرف أنه قتل بصفين ولا يثبته، وقيل: مات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر: هذا لم يتابع عليه قائله، انتهى ملخصا. "من بني عبد الأشهل" على حذف مضاف، أي: بني أخي عبد الأشهل، وفي الاستيعاب: حليف بني عبد الأشهل، ونسبه أوسيا، قال السهيلي: وأنشد فيه ابن رواحة:
فلم أر كالإسلام عزا لأهله ... ولا مثل أضياف الأراشي معشرا
فجعله أراشيا نسبة إلى أرأشه في خزاعة، وإلى أراش بن لحيان بن الغوث، وقيل: إنه بلوي من بني أرأشة بن فاران بن بلى والهيثم لغة العقاب وضرب من العشب، وبه أو بالأول سمي
وعويم بن ساعدة.
فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أي وفق بيعتهم التي أنزلت عند فتح مكة وهي: أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، والسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط.............
__________
الرجل، انتهى.
"وعويم" بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية فميم ليس بعدها راء، "ابن ساعدة" ابن عائش بتحتية وشين معجمة بن قيس بن النعمان شهد العقبتين وبدرا وباقي المشاهد، ومات في خلافة عمر عن خمس أو ست وستين سنة، ووقف عمر على قبره، وقال: لا يستطيع أحد أن يقول أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- راية إلا وعويم تحت ظلها، أخرجه البخاري في التاريخ، وبه جزم غير واحد وهو أصح من قول الواقدي: مات عويم في حياته -صلى الله عليه وسلم؛ كما في الإصابة.
"فأسلموا وبايعوا" كما رواه ابن إسحاق عن عبادة، قال: كنت فيمن حضر العقبة وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "على بيعة النساء، أي: على وفق بيعتهم" أي: المذكورين من إضافة المصدر لمفعوله، أي: إن بيعة النساء "التي أنزلت عند فتح مكة" وفق بيعة هؤلاء النفر، وجعل بيعة النساء موافقة لتأخيرها عن هذه "وهي أن لا نشرك بالله شيئا" عام؛ لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي وقدم على ما بعده؛ لأنه الأصل "ولا نسرق" بحذف المفعول ليدل على العموم كان فيه قطع أم لا، "ولا نزني ولا نقتل أولادنا" خصهم بالذكر؛ لأنهم كانوا غالبا يقتلونهم خشية الإملاق ولأنه قتل وقطيعة رحم فصرف العناية إليه أكثر، "ولا نأتي ببهتان" قال المصنف وغيره، أي: يكذب يبهت سامعه، أي: يدهشه لفظاعته، كالرمي بالزنا والفضيحة والعار "نفتريه" نختلقه "بين أيدينا وأرجلنا" أي: من قبل أنفسنا فكنى باليد والرجل عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما أو إن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، أو المعنى لا نبهت الناس بالمعايب كفاحا مواجهة، انتهى.
"ولا نعصيه" -صلى الله عليه وسلم- "في معروف" قيد به، تطيبيا لقلوبهم إذ لا يأمر إلا به، أو تنبيها على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، "و" نعطيه "السمع والطاعة" فهما بالنصب بفعل محذوف أو بالجر عطف على بيعة النساء أو على معروف، قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة، "في العسر واليسر" أي: عسر المال ويسره "والمنشط" بفتح الميم والمعجمة
والمكره، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. ولم يفرض يومئذ القتال.
__________
بينهما نون ساكنة، أي: ما تنشط له النفوس مما يسرها "والمكره" ما تكرهه النفوس مما يشق عليها، والمراد أنهم يطيعونه -صلى الله عليه وسلم- في كل أمره ونهيه سهل أو شق، "وأثرة" بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما وبكسر الهمزة وسكون المثلثة، كما ذكره المصنف في حديث: "ستلقون بعدي أثرة"، وهو بالجر والنصب أيضا، أي: وعلى أثرة أو نعطيه أثره "علينا" بأن نرضى بفعله استبد لنفسه أو لغيره لكن لم يقع استئثاره لنفسه أو لغيره، لكن لم يقع استئثار لنفسه الشريفة في الأمور الدنيوية عليهم ولا على غيرهم إلا في نحو الزوجات ولسن بدنيوية محضة، "وأن لا ننازع الأمر" الملك والإمارة "أهله" فلا نتعرض لولاة الأمور حيث كانوا على الحق، قال الباجي في شرح الموطأ: يحتمل أنه شرط على الأنصار ومن لبس من قريش أن لا ينازعوا قريشا ويحتمل عمومه في جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم، وإن كان فيهم من يصلح له إذا صار لغيره، قال السيوطي: والصحيح الثاني، ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقا ولابن حبان وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، وزاد البخاري إلا أن تروا كفر بواحا، أي: ظاهرا باديا، انتهى.
"وأن نقول" ضمنه معنى نعترف فعداه بالباء، "بالحق" أي: "نعترف به" حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم" بل نتصلب في ديننا واللومة المرة من اللوم، وفيها: وفي تنكير لائم مبالغتان "ثم قال عليه الصلاة والسلام" بعد هذه المبايعة "فإن وفيتم فلكم الجنة" فضلا من الله "ومن غشى" بغين وشين معجمتين، أي: فعل، "من ذلك شيئا كان أمره مفوضا إلى الله إن شاء عذبه" بعدله، "وإن شاء عفا عنه" بفضله، "ولم يفرض يومئذ القتال" فلم يبايعهم عليه.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة لكن لم يقع في رواية الشيخين التصريح بأن المبايعة هذه ليلة العقبة، نعم إخراج البخاري الحديث في وفود الأنصار ظاهر في وقوعها ليلتئذ، وبه جزم عياض وغيره، لكن رجح الحافظ أن المبايعة ليلة العقبة، إنما كانت على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، وأما على الصفة المذكورة فإنما هي بعد فتح مكة وبعد نزول آية الممتحنة بدليل ما في البخاري في حديث عبادة هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لما بايعهم قرأ الآية كلها، ولمسلم فتلا علينا آية النساء، وله أيضا أخذ علينا كما أخذ على النساء، وعند النسائي "ألا تبايعوني على ما أبايع عليه النساء".
وفي حديث أبي هريرة: ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا وإسلام أبي هريرة متأخر عن
ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام.
وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم.
وكتبت الأوس والخزرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير.
وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن
__________
ليلة العقبة عند ابن أبي خيثمة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا"، فذكر نحو حديث عبادة ورجاله ثقات، فإذا كان عبد الله بن عمرو ممن حضر البيعة وليس أنصاريا ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما أسلم قرب إسلام أبي هريرة وضح تغاير البيعتين، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة حضر البيعتين معا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقيته؛ فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن بيعة العقبة وقعت على ذلك، وإنما وقعت على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، انتهى ملخصا.
وقال المصنف: الراجح أن التصريح بذلك، أي: بأن بيعة العبة وقعت على وفق بيعة النساء، وهم من بعض الرواة؛ والذي دل عليه الأحاديث أن البيعة ثلاثة العقبة، وكانت قبل فرض الحرب، والثانية بعد الحرب على عدم الفرار، والثالثة على نظير بيعة النساء، انتهى.
"ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم" وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كان أبي إذا مسع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة.
"وكتب الأوس والخزرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابعث إلينا من يقرئنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير" وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى بالمدينة المقرئ والقارئ ونزل على أسد بن زرارة، وذلك أن الأوس والخزر كره بعضهم أن يؤمهم بعض، هكذا ذكرها ابن إسحاق في رواية وذكر في رواية أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وهو الذي ذكره ابن عقبة. قال البيهقي وسياق ابن إسحاق أتم، انتهى. وجمع بجواز أنه أرسله معهم ابتداء واتفق أنهم كانوا كتبوا له قبل علمهم بإرساله وفيه بعد.
"وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن
يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا.
فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم في جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير،.........
__________
يجمع بهم ... الحديث" ولفظه عن ابن عباس: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة ولا يبدي ذلك لهم فكتب إلى مصعب بن عمير:
أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا زال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين. قال: فهو أول من جمع حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع عند الزوال وأظهر ذلك، ولا تنافي بين هذا وبين قوله قبل كان أسعد يجمع بهم، الموافق لقول كعب بن مالك: أول من جمع بهم أسعد؛ لأن جمع مصعب بمعاونته لأنه لما نزل عليه وكان يقوم بأمره وسعى في التجميع نسب إليه لكونه سببا في الجمع.
"وكانوا أربعين رجلا" كما رواه أبو داود: وصريح هذا أنهم إنما جمعوا بأمره -صلى الله عليه وسلم؛ وروى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله المدينة وقبل أن ينزل بهم الجمعة، فقال الأنصار: إن اليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد من زرارة فصلى بهم يومئذ وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9] الآية، قال الحافظ: فهذا يدل على أنهم اختاروه بالاجتهاد، وقال السهيلي: تجميع الصحابة الجمعة وتسميتهم إياها بهذا الاسم هداية من الله لهم قبل أن يؤمروا بها، ثم نزل سورة الجمعة بعد ن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فاستقر فرها واستمر حكمها، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "أضلته اليهود والنهارى وهداكم الله له"، قال الحافظ: ولا يبعد أنه -صلى الله عليه وسلم- علم بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها.
وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة؛ كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوقيف، انتهى. يعني أنهم لما اجتهدوا فيه، وأجمعوا على فعله يوم الجمعة قدم عليهم الكتاب النبوي إلى مصعب بالجمع بهم فوافق اجتهادهم النص، فلذا قال: هداكم الله له، "فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصاري الأوسي سيدهم وافق حكمه حكم الله واهتز عرش الرحمن لموته، "وأسيد" بضم الهمزة وفتح السين "ابن حضير" بضم المهملة وفتح
وأسلم بإسلامهم جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة. ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين رضي الله عنهم.
ثم قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثالثة في العام المقبل في ذي الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا وقال ابن سعد: يزيدون.............
__________
المعجمة ابن سماك بن عنيك الأنصاري الأوسي الأشهلي المتوفى في خلافة عمر سنة عشرين على الأصح وصلى عليه عمر، أسلما في يوم واحد أسيد أولا ثم سعد والقصة مبسوطة في السير.
"وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل" بفتح الهمزة والهاء بينهما معجمة ساكنة آخره لام ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس، قال ابن دريد: زعموا أن الأشهل صنم "في يوم واحد الرجال والنساء ولم يبق منهم أحد إلا أسلم" وذلك أن سعدا لما ذهب لمصعب وأسلم أقبل إلى نادي قومه ومعه أسيد، فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال في الرواية: فوالله ما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
"حاشي الأصيرم" بصاد مهملة تصغير أصرم وبه يلقب أيضا وقدمه بعض على المصغر، "وهو عمرو" بفتح العين "ابن ثابت" بمثلثة "ابن وقش" بفتح الواو وسكون القاف وتفتح وشين معجمة، ويقال: أقيش، وقد ينسب إلى جده فيقال عمرو بن أقيش، "فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد" بأحد "ولم يسجد لله سجدة وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة" رواه ابن إسحاق بإسناد حسن مطولا عن أبي هريرة، أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط فإذا لم يعرفه الناس، قال: هو أصيرم بني عبد الأشهل ... فذكر الحديث.
"ولم يكن في" بني "عبد الأشهل منافق ولامنافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين رضي الله عنهم" وهذه منقبة عظيمة "ثم قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثالثة في العام المقبل في ذي الحجة أوسط أيام التشريق منهم" أي: الأنصار، "سبعون رجلا" كما ورد من حديث جابر وأبي مسعود الأنصاري وقطع به الحافظ في سيرته، وقدمه مغلطاي "وقال ابن سعد: يزيدون
رجلا أو رجلين -وامرأتان.
وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان.
وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا.
فكان أول من ضرب على يده عليه السلام البراء بن معرور. ويقال أسعد بن زرارة،.........
__________
رجلا أو رجلين وامرأتان" عطف على سبعون "وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان" وعينهما ابن إسحاق، فقال: نسيبة، أي: بفتح النون وكسر المهملة بنت كعب بن عمرو بن عوف المازني البخاري شهدت هذه العقبة مع زوجها زيد بن عاصم وولديها حبيب وعبد الله، والثانية، أسماء بنت عمرو بن عدي بن ناني، وقد صدر في الاستيعاب، يقول ابن إسحاق.
قال اليعمري: هذا العدد هو المعروف وإن زاد في التفصيل على ذلك فليس بزيادة في الجملة، وإنما هو بمحل الخلاف فيمن شهد، فبعض الرواة يثبته وبعضهم يثبت غيره بدله وقد وقع ذلك في أهل بدر وشهداء أحد وغير ذلك، انتهى. وبينهم هو وغيره بما يطول ذكره.
"وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا" هو عين ما قبله إن لم يثبت أنه كان فيهم أكثر من امرأتين، "فكان" كما روى الحاكم من طريق ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس "أول من ضرب على يده عليه السلام" في البيعة ليلة العقبة "البراء" بفتح الباء الراء ممدود مخففا "ابن معرور" بميم مفتوحة فمهملة ساكنة فراء مضمومة فواو فراء ثانية.
قال السهيلي: معناه مقصود بن صخر الخزرجي السلمي، ابن عمة سعد بن معاذ، كان سيد قومه وأفضلهم، قدم في هذه العقبة مسلما وصلى في سفره ذلك إلى الكعبة مع نسخها باجتهاد منه، وخالفه غيره، فلما سأله -صلى الله عليه وسلم، قال له: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها"، ولم يأمر بالإعادة.
قال السهيلي: لأنه كان مأولا ثم أمره أن يستقبل المقدس فأطاع، فلما حضر موته أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه -صلى الله عليه وسلم- بشهر، قاله ابن إسحاق وغيره، وأوصى بثلث ماله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبله ثم رده على ولده وهو أول من أوصى بثلثه، "ويقال" كما نله ابن إسحاق عن بني عبد الأشهل "أسعد بن زرارة" ورواه العدني عن جابر، وزاد: وهو أصغر السبعين إلا أنا، وأخرج ابن سعد عن سليمان بن نجيم، قال: تفاخرت الأوس والخزرج فيمن ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة أول الناس، فقالوا: لا أحد أعلم به من العباس بن عبد المطلب فسألوه، فقال: ما أحد أعلم بهذا مني، أول من ضرب على يده -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة
على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود.
وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] وفي الإكليل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية. ونقب عليهم اثني عشر نقيبا.
وفي حديث جابر عند أحمد بإسناد صحيح، وصححه الحاكم وابن حبان: مكث -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بمنى وغيرها، يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة"؟ حتى يعثنا الله له من...........
__________
أسعد بن زرارة ثم البراء بن معرور ثم أسيد بن الحضير.
"على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وعلى حرب الأحمر والأسود" قال في النور: يعني العرب والعجم، والظاهر أنه يجيء فيه ما جاء في بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى الأسود والأحمر العجم والعرب أو الجن والإنس؛ لأنه مبعوث للكل بخلاف الحرب "وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال": {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الآية"، كما قاله الزهري عن عروة عن عائشة أخرجه النسائي، "وفي الإكليل" أول آية نزلت في الإذن به، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، وهذه فائدة استطرادية هنا، المناسبة المبايعة على الحرب، "ونقب عليهم اثني عشر نقيبا" قال السهيلي: اقتداء بقوله تعالى في قوم موسى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] .
قال ابن إسحاق: تسعة من الخزرج: أسعد بن زرارة، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ورافع بن مالك، وأبو جابر عبد الله بن عمرو، والبراء بن معرور، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس: أسيد بن حضير، وسعيد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر، قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة، وروى البيهقي عن الإمام مالك حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل كان يشير له إلى من يجعله نقيبا، وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال للنقباء: "أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم"، قالوا: نعم.
"وفي حديث جابر" بن عبد الله "عند أحمد بإسناد صحيح وصححه الحاكم وابن حبان: مكث -صلى الله عليه وسلم" بمكة "عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بمنى وغيرها، يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة"، أن أسلم "حتى بعثنا" معشر الأنصار "الله له من
يثرب، فذكر الحديث. وفيه: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة". الحديث.
وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه.
__________
يثرب" المدينة المنورة "فذكر الحديث" وهو فصدقناه فرحل إليه منا سبعون رجلا فواعدناه شعب العقبة، فقل