والسبب في ذلك أنه لما قتل الله تعالى من قتل من كفار قريش يوم بدر، ورجع فلّهم إلى مكّة، ورجع أبو سفيان بعيرهم فأوقفها بدار النّدوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحرّكها ولا فرّقها، فطابت أنفس أشرافهم أن يجهّزوا منها جيشا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أميّة- وأسلموا بعد ذلك- في رجال ممّن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش، فقالوا: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك.
قال البلاذريّ: ويقال: بل مشى أبو سفيان إلى هؤلاء الذين سمّوا، فباعوها، وكانت ألف بعير، وخمسين ألف دينار، فسلّموا إلى أهل العير رؤوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجاراتهم لكلّ دينار دينارا، فأخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار لأجل مسيرهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال 36]- فأجمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزّبعرى- وهو بكسر الزّاي والموحّدة وسكون المهملة فراء فألف مقصورة- وأسلما بعد ذلك- وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع- بسين مهملة- ابن عبد مناف، وأبا عزّة- عمرو بن عبد الله الجمحيّ الذي منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر- إلى العرب يستنفرونها لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألّبوا العرب وجمعوها. ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب، لذهاب أكابرهم- وأسلم بعد ذلك- فأخذ يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجمع الجموع، فجمع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس. وكتب العباس رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بذلك مع رجل من بني غفار، فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيّا،
ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الرّبيع فأخبره بكتاب العباس، فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا، فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند سعد أتته امرأته، فقالت: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنت وذاك، لا أم لك، قالت:
قد كنت أسمع عليكم، وأخبرت سعدا بما سمعت، فاسترجع وقال: أراك كنت تسمعين علينا، وانطلق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه فأخبره خبرها، وقال: يا رسول الله إن خفت أن يفشو
الخبر فترى أنّي المفشي له، وقد استكتمتني إيّاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلّ عنها.
,
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه السّكب، وتقلّد القوس، وأخذ قناة بيده، والمسلمون عليهم السلاح، منهم مائة دارع، وخرج السّعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، كلّ منهما دارع، والناس عن يمينه وشماله، حتى إذا انتهى إلى رأس الثّنيّة رأى كتيبة خشناء لها زجل
فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبيّ من يهود، فقال: أسلموا؟
فقيل: لا، فقال: إنا لا نستنصر بأهل الشّرك على أهل الشّرك.
وسار صلى الله عليه وسلم فعسكر بالشّيخين، وهما أطمان، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره، فاستصغر غلمانا فردّهم. قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيما نقله الشيخ نجم الدين القموليّ- بفتح القاف وضم الميم- في بحره: أنه صلى الله عليه وسلم رد سبعة عشر شابّا عرضوا عليه، وهم أبناء أربع عشرة سنة، لأنه لم يرهم بلغوا، وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم.
انتهى.
وهم: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير- وفي ذكره نظر، لأنه ولد في السنة الثانية قبل أحد بسنة- وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب- وروى السّراج عنه أنه شهدها- ورافع بن خديج، وأسيد بن ظهير- بضمّ الهمزة، وأبوه ظهير بضم الظاء المعجمة- وعرابة بن أوس بن قيظيّ- بفتح القاف وسكون التحتية وبالظاء المعجمة المشالة، وأوس هذا كان منافقا- وأبو سعيد الخدري- بالخاء المعجمة والدال المهملة- وأوس بن ثابت الأنصاري، كذا رواه ابن فتحون عن ابن عمر بن الخطاب، وسعد بن بحير- بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة، قاله الدارقطنيّ. وقال ابن سعيد: بضم الموحدة وكسر الجيم- ابن معاوية البجليّ حليف الأنصار، وسعيد ابن حبتة بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة فوقية مفتوحة فتاء تأنيث- وهي أمّه، ولما كان يوم الخندق رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل قتالا شديدا، فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في نسله وولده، فكان عمّا لأربعين، وأخا لأربعين، وأبا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف القاضي الإمام، وسعد بن عقيب- بعين مهملة مضمومة فقاف مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فموحدة وزن زبير- وزيد بن جارية- بالجيم والمثناة التحتية- ابن عمرو بن عوف، وهو أخو مجمع بن جارية، وجابر بن عبد الله، وليس بالذي يروى عنه الحديث. وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل له: إنه رام،
فقال سمرة بن جندب لزوج أمّه مريّ- بالتصغير- ابن سنان: أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردّني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«تصارعا» ، فصرع سمرة رافعا فأجازه،
ونزل عبد الله بن أبي ابن سلول ناحية، فلما فرغ العرض وغابت الشمس أذّن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم أذّن بالعشاء فصلّى بهم، وبات بالشّيخين، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من يحفظنا الليلة؟» فقام ذكوان بن عبد قيس فلبس درعه، وأخذ درقته، فكان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقه، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان السّحر، فصلّى الصّبح، ثم قال: «أين الأدلّاء؟ من رجل يخرج بنا من كثب لا يمرّ بنا عليهم؟»
فقام أبو خيثمة الحارثيّ- كذا عند ابن إسحاق بخاء معجمة فتحتية فثاء مثلثة، وعند ابن سعد وغيره: حتمه، بفتح الحاء المهملة والمثناة الفوقية بعدها ميم فتاء تأنيث، وصوّبه أبو الفتح،
قال الحافظ في الإصابة: ولم يأت على ذلك بدليل إلا قول أبي عمر: ليس في الصحابة أبي خيثمة سوى الجعفيّ والسّالميّ، وفي هذا الحصر نظر- فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فسلك به في حرّة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك في ماء مربع- بكسر الميم وفتح الموحدة- ابن قيظّي- بفتح القاف فمثناة تحتية فظاء معجمة مشالة- وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حسّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثو التراب في وجوههم، ويقول: إن كنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أحلّ لك أن تدخل حائطي،
وذكر أنّه أخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب غيرك فضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» .
وقد بدر إليه سعد بن زيد الأشهليّ قبل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه بالقوس فشجّه، فغضب له ناس من بني حارثة وهم قومه، وكانوا على مثل رأيه، فهمّ بهم أسيد بن حضير حتى أومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفّ. وذبّ فرس أبي بردة بن نيار- بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء- بذنبه، فأصاب كلّاب سيفه فاستلّه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحب الفأل الحسن ولا يعتاف: «يا صاحب السيف، شم سيفك، إني أخال السّيوف ستسلّ اليوم فيكثر سلّها» .
ذكر انخزال عدو الله ابن أبيّ بثلث العسكر
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشّوط انخزل عبد الله بن أبيّ بثلث النّاس كافّة كأنه هيق،
فقال: «أطاع الولدان ومن لا رأى له وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا أيها الناس هاهنا؟»
فرجع بمن اتّبعه من أهل النّفاق والرّيب، وتبعهم عبد الله بن حرام- بالراء- يقول: يا قوم أذكّركم الله ألّا تخذلوا قومكم ونبيّكم عند ما حضر عدوّهم، يا قوم تعالوا فقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، فقالوا: لو نعلم قتالا ما أسلمناكم، لا نرى أن يكون قتال، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلّا الانصراف قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله تعالى نبيه عنكم. وأنزل الله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران 179] قال مجاهد: «ميّزهم يوم أحد» وهم المرادون بقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، قالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ [آل عمران 167] .
وذكر عروة وموسى بن عقبة: أن بني سلمة- بكسر اللام- وبني حارثة لمّا رجع عبد الله بن أبيّ سقط في أيديهما، وهمّا أن يقتتلا فثبّتهما الله تعالى، ولهذا قال تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران 122] .
وروى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والشيخان، والبيهقي، عن جابر بن عبد الله، قال: فينا نزلت، في بني حارثة وبني سلمة: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وما يسرّني أنها لم تنزل لقول الله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [ (1) ] .
وروى ابن جرير عن السدي في الآية قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة همّوا بالرّجوع، حين رجع عبد الله بن أبيّ فعصمهم الله.
وروى الشيخان عن زيد بن ثابت، وابن إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد خرج معه بأناس، فرجعوا، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فقالت فرقة: نقتلهم، وقالت فرقة: لا نقتلهم، فانزل الله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا [النساء 88] ردّهم إلى كفرهم بما كسبوا بأعمالهم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها طيبة وإنّها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضّة» .
وذكر الزّهريّ أن الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع ابن أبيّ في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا بهم» .
قال الجمهور:
بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة وفرسه، وفرس لأبي بردة. وقال ابن عقبة: لم يكن مع المسلمين فرس. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشّعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، واستقبل المدينة، وجعل عينين- الجبل- عن يمينه، وصفّ المسلمون بأصل أحد، وحانت الصّلاة يوم السبت والمسلمون يرون المشركين، فأذّن بلال، وأقام، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الصّبح صفوفا.
,
روى أبو داود الطّيالسيّ والشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشدّ القتال، وما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل. ورواه البيهقي. ثم روى مجاهد، قال:
لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر قال البيهقيّ: مراده لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصبروا على ما أمرهم به.
روى محمد بن عمر عن شيوخه في قوله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الآية لم يصبروا وانكشفوا فلم يمدّوا.
وروي أيضا عنهم قالوا: قتل مصعب بن عمير فأخذ اللّواء ملك في صورة مصعب، وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل.
وروى الطبراني وابن منده وابن عساكر من طريق محمود بن لبيد، قال الحارث بن الصّمّة: سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الشعب عن عبد الرحمن بن عوف، فقلت: رأيته إلى جنب الجبل، فقال: «إن الملائكة تقاتل معه» . قال الحارث: فرجعت إلي عبد الرحمن فوجدت بين يديه سبعة صرعى، فقلت: ظفرت يمينك، أكلّ هؤلاء قتلت؟ قال: «أما هذا وهذا فأنا قتلتهما، وأمّا هؤلاء فقتلهم من لم أره» . فقلت: صدق الله ورسوله.
وروى ابن سعد عن عبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن
عبد المطلب، قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مصعب بن عمير اللّواء فقتل مصعب، فأخذه ملك في صورة مصعب
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقدّم يا مصعب» .
فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيّد به.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدّثنا زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة: حدثني محمد بن ثابت إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: أقدم يا مصعب، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ألم يقتل مصعب؟ قال: «بلى، ولكن ملك قام مكانه، وتسمّى باسمه» [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيردّه عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد فظننت أنّه ملك.
وروى ابن إسحاق والبيهقي وابن عساكر عن عبد الله بن عون عن عمير بن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبّل له، كلما ذهب نبله أتاه بها، قال: ارم أبا إسحاق، فلما فرغوا نظروا من الشّابّ فلم يروه، ولم يعرف.
وروى البيهقي عن عروة في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران 152] قال: كان الله تعالى وعدهم على الصّبر والتّقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مصافّهم، وتركت الرّماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألّا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدّنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء.
,
روى الإمام أحمد والنّسائيّ، في كتاب عمل اليوم والليلة، والحاكم، وقال على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبيّ ومحمد بن عمر الأسلمي، عن رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من دفن أصحابه ركب فرسه، وخرج المسلمون حوله، عامتهم جرحى، ولا مثل لبني سلمة وبني عبد الأشهل، ومعه أربع عشرة امرأة. فلما كانوا بأصل أحد قال: «اصطفّوا حتى أثني على ربي عز وجل» ، فاصطف الرجال خلفه صفوفا، خلفهم النساء، فقال: «اللهم لك الحمد كلّه، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضلّ لمن هديت، ولا معطي لما منعت، وما مانع لما أعطيت ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قرّبت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إنا نسألك النّعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إنا نسألك النعيم يوم العيلة، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الخوف [والغنى يوم الفاقة] ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهمّ توفّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهمّ قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك، ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهمّ قاتل الكفرة الّذين أوتوا الكتاب، إله الحقّ. آمين» .
,
قال ابن إسحاق: وكان مما أنزل الله تعالى في يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران، فيها صفة ما كان في يومهم ذلك.
وروى أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن المسور بن مخرمة قال: قلت:
لعبد الرحمن بن عوف: يا خال، أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال: اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصّتنا، أي من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران 121] .
,
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه يجيب هبيرة بن أبي وهب عن كلمة قالها:
سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم ... إلى الرّسول فجند الله مخزيها
أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنّار موعدها والقتل لاقيها
جمعتموهم أحابيشا بلا حسب ... أئمّة الكفر غرّتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت ... أهل القليب ومن ألقينه فيها؟!
كم من أسير فككناه بلا ثمن ... وجزّ ناصية كنّا مواليها
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه يجيبه أيضا:
ألا هل أتى غسّان عنّا ودونهم ... من الأرض خرق سيره متنعنع
صحار وأعلام كأنّ قتامها ... من البعد نقع هامد متقطّع
تظلّ به البزل العراميس رزّحا ... ويخلو به غيث السّنين فيمرع
به جيف الحسرى يلوح صليبها ... كما لاح كتّان التّجار الموضّع
به العين والأرآم يمشين خلفة ... وبيض نعام قيضه يتقلّع
مجالدنا عن ديننا كلّ فخمة ... مدرّبة فيها القوانس تلمع
وكلّ صموت في الصّوان كأنّها ... إذا لبست نهي من الماء مترع
ولكن ببدر سائلوا من لقيتمو ... من النّاس والأنباء بالغيب تنفع
وإنّا بأرض الخوف لو كان أهلها ... سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا
إذا جاء منّا راكب كان قوله ... أعدّوا لما يزجي ابن حرب ويجمع
فمهما يهمّ النّاس ممّا يكيدنا ... فنحن له من سائر النّاس أوسع
فلو غيرنا كانت جميعا تكيده ال ... بريّة قد أعطوا يدا وتورّعوا
نجالد لا تبقى علينا قبيلة ... من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا
ولمّا ابتنوا بالعرض قال سراتنا: ... علام إذا لم تمنع العرض نزرع؟!
وفينا رسول الله نتبع أمره ... إذا قال فينا القول لا نتطلّع
تدلّى عليه الرّوح من عند ربّه ... ينزل من جو السّماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا ... إذا ما اشتهى أنّا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لمّا بدوا لنا: ... ذروا عنكم هول المنيّات واطمعوا
وكونوا كمن يشري الحياة تقرّبا ... إلى ملك يحيا لديه ويرجع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكّلوا ... على الله أن الأمر لله أجمع
فسرنا إليهم جهرة في رحالهم ... ضحيّا علينا البيض لا نتخشّع
بملمومة فيها السّنوّر والقنا ... إذا ضربوا أقدامها لا تورّع
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصيّة ... ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
نعاورهم تجري المنيّات بيننا ... نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تهادى قسيّ النّبع فينا وفيهم ... وما هو إلّا اليثربيّ المقطّع
ومنجوفة حرميّة صاعديّة ... يذرّ عليها السّمّ ساعة تصنع
تصوب بأبدان الرّجال وتارة ... تمرّ بأعراض البصار تقعقع
وخيل تراها بالفضاء كأنّها ... جراد صبا في قرّة يتريّع
فلمّا تلاقينا ودارت بنا الرّحى ... وليس لأمر حمّه الله مدفع
ضربناهم حتّى تركنا سراتهم ... كأنّهم بالقاع خشب مصرّع
لدن غدوة حتّى استفقنا عشيّة ... كأنّ ذكانا حرّ نار تلفّع
وراحوا سراعا موجفين كأنّهم ... جهام هراقت ماءه الرّيح مقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأنّنا ... أسود على لحم ببيشة ظلّع
فنلنا ونال القوم منّا وربّما ... فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع
ودارت رحانا واستدارت رحاهم ... وقد جعلوا كلّ من الشّرّ يشبع
ونحن أناس لا نرى القتل سبّة ... على كل من يحمي الذّمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا نرى ... على هالك عينا لنا الدّهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشيء نقوله ... ولا نحن ممّا جرّت الحرب نجزع
بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحّش ... ولا نحن من أظفارها نتوجّع
وكنّا شهابا يتّقي النّاس شرّه ... ويفرج عنه من يليه ويسفع
فخرت عليّ ابن الزّبعرى وقد سرى ... لكم طلب من آخر اللّيل متبع
فسل عنك في عليا معدّ وغيرها ... من الناس من أخزى مقاما وأشنع
ومن هو لم تترك له الحرب مفخرا ... ومن خدّه يوم الكريهة أضرع
شددنا بحول الله، والنّصر شدّة ... عليكم وأطراف الأسنّة شرّع
نكرّ القنا فيكم كأنّ فروغها ... عزالى مزاد ماؤها يتهزّع
عمدنا إلى أهل اللّواء ومن يطر ... بذكر اللّواء فهو في الجذم أسرع
فخانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا ... أبى الله إلا أمره وهو أصنع
قال ابن هشام: وقد كان كعب بن مالك قد قال: «مجالدنا عن جذمنا كلّ فخمة» ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيصلح أن نقول: مجالدنا عن ديننا؟» فقال كعب بن مالك: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهو أحسن» ، فهو أحسن،
فقال كعب: «مجالدنا عن ديننا» .
وقال رضي الله عنه أيضا:
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه ... والصّدق عند ذوي الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللّواء ففيما يكثر القيل؟!
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النّصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحقّ فطرتنا ... والقتل في الحقّ عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفها ... فرأي من خالف الإسلام تضليل
فلا تمنّوا لقاح الحرب واقتعدوا ... إنّ أخا الحرب أصدى اللّون مشغول
إنّ لكم عندنا ضربا يراح بكم ... عرج الضّباع له خذم رعابيل
إنّا بنو الحرب نمريها وننتجها ... وعندنا لذوي الأضغان تنكيل
إن ينج ابن حرب بعد ما بلغت ... منه التّراقي وأمر الله مفعول
فقد أفادت له حلما وموعظة ... لمن يكون له لبّ ومعقول
ولو هبطتم ببطن السّيل كافحكم ... ضرب بشاكلة البطحاء ترعيل
تلقاكم عصب حول النّبيّ لهم ... ممّا يعدّون للهيجا سرابيل
من جذم غسّان مسترخ حمائلهم ... لا جبناء ولا ميل معازيل
يمشون نحو عمايات القتال كما ... تمشي المصاعبة الأذم المراسيل
أو مثل مشي أسود الطّلّ ألثقها ... يوم رذاذ من الجوزاء مشمول
في كلّ سابغة كالنّهي محكمة ... قيامها فلج كالسّيف بهلول
تردّ حدّ قران النّبل خاسئة ... ويرجع السّيف منها وهو مفلول
ولو قذفتم بسلع عن ظهوركم ... وللحياة ودفع الموت تأجيل
ما زال في القوم وتر منكم أبدا ... تعفو السّلام عليه وهو مطلول
عبد وحرّ كريم موبق قنصا ... شطر المدينة مأسور ومقتول
كنّا نؤمّل أخراكم فأعجلكم ... منّا فوارس لا عزل ولا ميل
إذا جنى فيهم الجاني فقد علموا ... حقّا بأنّ الّذي قد جرّ محمول
ما يجن لا يجن من إثم مجاهرة ... ولا ملوم ولا في الغرم مخذول
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يجيب ابن الزّبعرى:
ذهبت بابن الزّبعرى وقعة ... كان منّا الفضل فيها لو عدل
ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحيانا دول
نضع الأسياف في أكتافكم ... حيث نهوى عللا بعد نهل
نخرج الأصبح من أستاهكم ... كسلاح النّيب يأكلن العصل
إذ تولّون على أعقابكم ... هرّبا في الشّعب أشباه الرّسل
إذ شددنا شدّة صادقة ... فأجأناكم إلى سفح الجبل
بخناطيل كأمذاق الملا ... من يلاقوه من النّاس يهل
ضاق عنّا الشّعب إذ نفرعه ... وملأنا الفرط منه والرّجل
برجال لستم أمثالهم ... أيّدوا جبريل نصرا فنزل
وعلونا يوم بدر بالتّقى ... طاعة الله وتصديق الرّسل
وقتلنا كلّ رأس منهم ... وقتلنا كلّ جحجاح رفل
وتركنا في قريش عورة ... يوم بدر وأحاديث المثل
ورسول الله حقّا شاهد ... يوم بدر والتّنابيل الهبل
في قريش من جموع جمّعوا ... مثل ما يجمع في الخصب الهمل
نحن لا أمثالكم ولد استها ... نحضر النّاس إذا البأس نزل
وقال حسان بن ثابت يبكي حمزة بن عبد المطلب ومن أصيب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، رضي الله عنهم:
يا ميّ قومي فاندبي بسحيرة شجو النّوائح ... كالحاملات الوقر بالثّقل الملحّات الدّوالح
المعولات الخامشات وجوه حرّات صحائح ... وكأنّ سيل دموعها الأنصاب تخضب بالذّبائح
ينقضن أشعارا لهنّ هناك بادية المسايح ... وكأنّها أذناب خيل بالضّحى شمس روامح
من بين مشذور ومجزور يذعذع بالبوارح ... يبكين شجو مسلّبات كدّحتهنّ الكوادح
ولقد أصاب قلوبها مجل له جلب قوارح ... إذ أقصد الحدثان من كنّا نرجّى إذ نشايح
أصحاب أحد غالهم دهر ألمّ له بوارح ... من كان فارسنا وحامينا إذا بعث المسالح
يا حمز لا والله لا أنساك ما صرّ اللّقائح
لمناخ أيتام وأضياف وأرملة تلامح ... ولما ينوب الدّهر في حرب لحرب وهي لاقح
يا فارسا يا مدرها يا حمز قد كنت المصامح ... عنّا شديدات الأمور إذا ينوب لهنّ فادح
ذكّرتنى أسد الرّسول وذاك مدرهنا المنافح ... عنّا وكان يعدّ إذ عدّ الشّريفون الجحاجح
يعلو القماقم جهرة سبط اليدين أغرّ واضح ... لا طائش رعش ولا ذو علّة بالحمل آنح
بحر فليس يغبّ جارا منه سيب أو منادح ... أودى الشّباب أولوا الحفائظ والثّقيلون المراجح
المطعمون إذا المشاتي ما يصفّقهنّ ناضح ... لحم الجلاد وفوقه من شحمه شرائح
ليدافعوا عن جارهم ما رام ذو الضّغن المكاشح ... لهفي لشّبّان رزئناهم كأنّهم المصابح
شمّ بطارقة خضارمة مسامح ... المشترون الحمد بالأموال إنّ الحمد رابح
والجامزون بلجمهم يوما إذا ما صاح صائح ... من كان يرمى بالنّواقر من زمان غير صالح
ما إن تزال ركابه يرسمن في غبر صحاصح ... راحت تبارى وهو في ركب صدورهم رواشح
حتّى تؤوب له المعالي ليس من فوز السّفائح ... يا حمز قد أوحدتني شذّبه الكوافح
أشكو إليك وفوقك التّرب المكوّر والصّفائح ... من جندل نلقيه فوقك إذ أجاد الضّرح ضارح
في واسع يحشونه بالتّرب سوّته المماسح
فغزاؤنا أنّا نقول وقولنا برح بوارح ... من كان أمسى وهو عمّا أوقع الحدثان جانح
فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النّوافح ... القائلين الفاعلين ذوي السّماحة والممادح
من لا يزال ندى يديه له طوالع الدّهر مائح
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:
سائل قريشا غداة السّفح من أحد ... ماذا لقينا وما لاقوا من الهرب
كنّا الأسود وكانوا النّمر إذ زحفوا ... ما إن نراقب من إلّ ولا نسب
فكم تركنا بها من سيّد بطل ... حامي الذّمار كريم الجدّ والحسب
فينا الرسول شهابٌ ثم يتبعه ... نورٌ مضيءٌ له فضلٌ على الشّهب
الحقّ منطقه والعدل سيرته ... فمن يجبه إليه ينج من تبب
نجد المقدّم ماضي الهمّ معتزم ... حين القلوب على رجف من الرّعب
نمضي ويذمرنا عن غير معصية ... كأنّه البدر لم يطبع على الكذب
بدا لنا فاتّبعناه نصدّقه ... وكذّبوه فكنّا أسعد العرب
جالوا وجلنا فما فاءوا وما رجعوا ... ونحن نثفنهم لم نأل في الطّلب
لسنا سواء وشتّى بين أمرهما ... حزب الإله وأهل الشّرك والنّصب
وقال عبد الله بن رواحة يبكي حمزة رضي الله عنه:
بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا ... أحمزة ذاكم الرّجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرّسول
أبا يعلى لك الأركان هدّت ... وأنت الماجد البرّ الوصول
عليك سلام ربّك في جنان ... مخلطها نعيم لا يزول
ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكلّ فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول
ألا من مبلغ عنّي لؤيّا ... فبعد اليوم دائلة تدول
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا ... وقائعنا بها يشفى الغليل
نسيتم ضربنا بقليب بدر ... غداة أتاكم الموت العجيل
غداة ثوى أبو جهل صريعا ... عليه الطّير حائمة تجول
وعتبة وابنه خرّا جميعا ... وشيبة عضّه السّيف الصّقيل
ومتركنا أميّة مجلعبّا ... وفي حيزومه لدن نبيل
وهام بني ربيعة سائلوها ... ففي أسيافنا منها فلول
ألا يا هند لا تبدي شماتا ... بحمزة إنّ عزّكم ذليل
ألا يا هند فابكي لات تملّى ... فأنت الواله العبرى الهبول
وقال حسان بن ثابت يبكيه:
أتعرف الدّار عفا رسمها ... بعدك صوب المسبل الهاطل
بين السّراديح فأدمانة ... فمدفع الرّوحاء في حائل
ساءلتها عن ذاك فاستعجمت ... لم تدر ما مرجوعة السّائل
دع عنك دارا قد عفا رسمها ... وابك على حمزة ذي النّائل
المالئ الشّيزى إذا أعصفت ... غبراء في ذي الشّبم الماحل
والتّارك القرن لدى لبدة ... يعثر في ذي الخرص الذّابل
واللّابس الخيل إذا أحجمت ... كاللّيث في غابته الباسل
أبيض في الذّروة من هاشم ... لم يمر دون الحقّ بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم ... شلّت يدا وحشيّ من قاتل
أيّ امرئ غادر في ألّة ... مطرورة مارنة العامل
أظلمت الأرض لفقدانه ... واسودّ نور القمر النّاصل
صلى عليه الله في جنّة ... عالية مكرمة الدّاخل
كنّا نرى حمزة حرزا لنا ... من كل أمر نابنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرإ ... يكفيك فقد القاعد الخاذل
لا تفرحي يا هند واستحلبي ... دمعا وأذري عبرة الثّاكل
وابكي على عتبة إذ قطّه ... بالسّيف تحت الرّهج الجائل
إذ خرّ في مشيخة منكم ... من كلّ عات قلبه جاهل
أرداهم حمزة في أسرة ... يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له ... نعم وزير الفارس الحامل
وقال كعب بن مالك يبكيه:
طرقت همومك فالرّقاد مسهّد ... وجزعت أن سلب الشّباب الأغيد
ودعت فؤادك للهوى ضمريّة ... فهواك غوريّ وصحبك منجد
فدع التّمادي في الغواية سادرا ... قد كنت في طلب الغواية تفند
ولقد أنى لك أن تناهى طائعا ... أو تستفيق إذا نهاك المرشد
ولقد هددتّ لفقد حمزة هدّة ... ظلّت بنات الجوف منها ترعد
ولو أنّه فجعت حراء بمثله ... لرأيت راسي صخرها يتبدّد
قرم تمكّن في ذؤابة هاشم ... حيث النّبوّة والنّدى والسّؤدد
والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت ... ريح يكاد الماء منها يجمد
والتّارك القرن الكميّ مجدّلا ... يوم الكريهة والقنا يتقصّد
وتراه يرفل في الحديد كأنّه ... ذو لبدة شثن البراثن أربد
عمّ النّبيّ محمّد وصفيّه ... ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى المنيّة معلما في أسرة ... نصروا النّبيّ ومنهم المستشهد
ولقد إخال بذاك هندا بشّرت ... لتميت داخل غصّة لا تبرد
ممّا صبحنا بالعقنقل قومها ... يوما تغيّب فيه عنها الأسعد
حتّى رأيت لدى النّبيّ سراتهم ... قسمين نقتل من نشاء ونطرد
وببئر بدر إذ يردّ وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمّد
فأقام بالعطن المعطّن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود
وابن المغيرة قد ضربنا ضربة ... فوق الوريد لها رشاش مزبد
وأميّة الجمحيّ قوّم ميله ... عضب بأيدي المؤمنين مهنّد
فأتاك فلّ المشركين كأنّهم ... والخيل تثفنهم نعام شرّد
شتّان من هو في جهنّم ثاويا ... أبدا ومن هو في الجنان مخلّد
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة:
أسائلة أصحاب أحد مخافة ... بنات أبي من أعجم وخبير
فقال خبير: إنّ حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير
دعاه إله الخلق ذو العرش دعوة ... إلى جنّة يحيا بها وسرور
فذلك ما كنّا نرجّي ونرتجي ... لحمزة يوم الحشر خير مصير
فو الله لا أنساك ما هبّت الصّبا ... بكاء وحزنا محضري ومسيري
على أسد الله الّذي كان مدرها ... يذود عن الإسلام كلّ كفور
فيا ليت شلوي عند ذاك وأعظمي ... لدى أضبع تعتادني ونسور
أقول وقد أعلى النّعيّ عشيرتي: ... جزى الله خيراً من أخ ونصير
,
القناة- بفتح القاف-: الرّمح، والجمع قنى، مثل حصاة وحصى.
يعدوان أمامه. يقال: عدا في مشيته عدوا، من باب قال: قارب الهرولة، وهو دون الجري.
الثّنيّة- بثاء مثلثة مفتوحة فنون فتحتية-: كل عقبة مسلوكة.
خشناء- بخاء فشين ساكنة معجمتين فنون فألف تأنيث- أي كثيرة السلاح.
الزّجل- بفتح الزاي والجيم-: الصّوت العالي.
الشّيخين بلفظ تثنية شيخ: أطمان، سمّيا بشيخ وشيخة كانا هناك على الطريق الشرقية إلى أحد مع الحرّة.
الدّرقة- بفتح الدال المهملة والراء-: الحجفة، والجمع درق.
الأدلّاء- بالدال المهملة- جمع دليل، وهو المرشد.
الكثب- بفتح الكاف والثاء المثلثة: القرب.
الحرّة- بفتح الحاء المهملة والراء المشددة-: أرض تركبها حجارة سود.
بنو حارثة (بالحاء المهملة والثاء المثلثة) .
يحثو- بالمثلثة- يرمي بيده.
الحائط: البستان، وجمعه حوائط.
الحفنة- بفتح الحاء المهملة وضمّها وسكون الفاء-: ملء الكفّ، وقيل: ملء الكفّين.
ابتدره: أسرع إليه.
همّ به: أراد قتله.
كفّ- بفتح الكاف والفاء المشددة-: امتنع.
ذبّ فرسي بذنبه- بفتح الذال المعجمة وتشديد الموحّدة-: حرّك ذيله ليطير الذّباب عنه.
كلّاب- بضم الكاف وتشديد اللام- وهو الحلقة أو المسمار الذي يكون في قائم السيف يكون فيه غلافه، وقال في الرّوض: هو الحديدة العقفاء، وهي التي تلي الغمد.
استلّه: أخرجه من غمده.
الفأل- بسكون الهمزة ويجوز تخفيفها- وهو أن تسمع كلاما حسنا فتتيمّن به، وإن كان قبيحا فهو الطّيرة. وجعل أبو زيد الفأل في سماع الآدميين.
لا يعتاف، أي لا يتطيّر، يقال: عفت الطير، إذا تطيرت بها، والعيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأسواقها وممرّها، وهو من عادة العرب كثير. يقال: عاف يعيف عيفاً، إذا زجر وحدس.
شم سيفك: أغمده، وسلّه (ضدّ) ، والأول هو المراد هنا.
إخال- بكسر الهمزة على غير قياس- وهو أكثر استعمالا، وبنو أسد يفتحون على القياس، أي أظن.
شرح غريب انخزال عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر
الشّوط- بشين معجمة فراء ساكنة فطاء مهملة-: اسم حائط بالمدينة.
انخزل- بخاء معجمة فزاي- أي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلّف عنه.
الهيق- بفتح الهاء وسكون التحتية وبالقاف- وهو ذكر النّعام، يريد في سرعة ذهابه.
الولدان جمع وليد، يطلق على المولود والعبد والصّبيّ.
الرّيب: جمع ريبة مثل سدرة وسدر، وهي الشّكّ.
تخذلوا قومكم- بضم الذال المعجمة- أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم.
أبعدكم الله تعالى: أهلككم.
أعداء الله- يجوز بفتح الهمزة على أنه منادى مضاف، ويجوز رفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم.
لا نرى- بضم النون- أي لا نظنّ.
سقط في أيديهما- بضم السين وكسر القاف- أي ندما.
الفشل- بفتح الفاء والشين المعجمة-: الجبن وضعف القلب على الحرب.
عدوة الوادي- بضم العين وكسرها- جانبه وحافّته.