هذه الترجمة للبخاري
قال الحافظ: يعني أن لها اسمين وهو كما قال: والأحزاب "جمع حزب، أي: طائفة فأما تسميتها بالخندق" بفتح الخاء المعجمة وسكون النون، "فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة" في شاميها من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية "بأمره عليه الصلاة والسلام".
روى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني: أنه صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر الشيخين تثنية شيخ ضد شاب، وهما أطمان تثنية أطم بضمتين، طرف بني حارثة حتى بلغ المداحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا.
قال شيخنا: لعلها حاصلة من ضرب قدر من الطول في العرض، والحاصل في ذلك في العمق وليس المراد لكل عشرة أربعين طولا لزيادة ذلك على مسافة عرض المدينة بكثير لكثرة الصحابة الذين حفروا فيه، قلت: وفي رواية خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، "ولم يكن" كما أفاده السهيلي "اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس" وحروبها جمع مكيدة، أي: حيلها التي يتوصلون بها إلى مرادهم، "و" لذا "كان الذي أشار به سلمان" الفارسي.
قال ابن جرير: أول من اتخذ الخنادق موشهر بن أيرج، وإلى رأس ستين سنة من ملكه
فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين.
وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حزب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم
__________
بعث موسى عليه السلام، وأول من فعل الكمائن في الحروب بختنصر انتهى من الروض، وتبعه العيون وهو بميم مفتوحة فواو فشين معجمة فهاء ساكنة فراء، وإيرج بهمزة في أوله مكسورة فتحتية فراء فجيم، كما في نسخة صحيحة من الروض والعيون قرئت على مصنفيهما.
"فقال" سلمان، كما ذكره أصحاب المغازي منهم، أبو معشر "يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفرة" حول المدينة "وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين"، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه وجاء المشركون فحاصروهم.
وذكر ابن سعد وغيره أنه لما تهيأت قريش للخروج، أتى ركب خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أربع ليال حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويحاربهم عليها؟، وفي طرقها، فأشار سلمان بالخندق، فأعجبهم وأحبوا الثبات بالمدينة وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالجد ووعدهم النصران إن هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة.
"وأما تسميتها بالأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود"، عد اليهود مشركين وإن كانوا أهل كتاب؛ لأنهم لما ظاهروهم وخالفوا ما يعلمونه من كتابهم المقتضي لمبادرتهم للإسلام، أفلا أقل من كف الأذى وترك القتال، كانوا كأنهم منهم أو ضمهم إليهم بالتبعية؛ لأن الجل مشركون، أو لأن المراد مطلق الكفار، كما هو المراد بهم إذا أفردوا، فإن جمعوا فعباد الأوثان، "ومن تبعهم" كبني سليم.
ذكر موسى بن عقبة في المغازي، قال: خرج حيي بن أخطب بعد بني النضير إلى مكة يحرض المشركين على حربه صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان، ويحرضهم على قتاله على أن لهم نصف تمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش، فنزلوا بمر الظهران فجاءهم من أجابهم من بني سليم مددا لهم، فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله الأحزاب.
وذكر الواقدي أنهم جعلوا لهم تمر خيبر سنة، ولعلهما كان قصدهما خروج حيي لمكة وكنانة لغطفان ابتداء ثم طرأ لهما الذهاب جملة لمكة، ثم لغطفان فلا ينافي رواية ابن إسحاق الآتية لذلك.
وقد أنزل الله تعالى في القصة صدرا من سورة الأحزاب.
واختلف في تاريخها: فقال موسى بن عقبة: كانت سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي.
ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه
__________
"وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدرا" أي: جملة، "من سورة الأحزاب" من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11] ، إلى قوله: {قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] سميت صدرا لارتفاعها على غيرها من بقية السورة من حيث دلالتها على فضل المؤمنين، وثباتهم وخبث المنافقين وعنادهم.
وفي المصباح صدر المجلس مرتفعه.
"واختلف في تاريخها فقال موسى بن عقبة" في مغازيه التي شهد مالك والشافعي بأنها أصح المغازي "كانت سنة أربع".
قال الحافظ: وتابع على ذلك الإمام مالك أخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه.
"وقال ابن إسحاق:" كانت "في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي".
قال ابن القيم: وهو الأصح والذهبي هو المقطوع به، والحافظ هو المعتمد، انتهى غايته أن ابن سعد وشيخه قالا: كانت في ذي القعدة "ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة" فنقله عنه مقتصرا عليه، "وقواه بقول ابن عمر" الذي أخرجه أول أحاديث الباب عن نافع عنه بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد".
قال الحافظ: عرض الجيش اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال للنظر في هيآتهم، وترتيب منازلهم وغير ذلك، "وهو ابن أربع عشرة" سنة.
وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم يأذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه".
وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم أذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه".
قال الحافظ: أي: أمضاه وأذن له في القتال.
وقال الكرماني: أجازه من الإجازة وهي للأنفال، أي: أسهم له، قلت: والأول أولى، ويرد
فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق في سنة أربع.
ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي.
وقال الشيخ ولي الدين بن العراقي: والمشهور أنها في السنة الرابعة.
وكان من حديث هذه الغزوة:
__________
الثاني هنا أنه لم يكن في غزوة الخندق غنيمة يحصل منها نقل.
وفي حديث أبي واقد الليثي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد إلى الذراري، فهذا يوضح أن المراد بالإجازة الإمضاء للقتال؛ لأن ذلك كان في مبدأ الأمر قبل حصول الغنيمة، أن لو حصلت غنيمة ا. هـ.
وعلى هذا "فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث" باتفاق "فيكون الخندق في سنة أربع" كما قال ابن عقبة، "ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس"، كما جزم به أهل المغازي "لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي".
زاد الحافظ ويؤيد قول ابن إسحاق: أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر، فخرج صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إليها، فلم يأت أبو سفيان للجدب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان، أو دونها، ذكره ابن إسحاق وغيره، وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأحد في الثانية، والخندق في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، والخندق في الخامسة، وهو المعتمد، ا. هـ.
"و" لكن "قال الشيخ" الحافظ ابن الحافظ "ولي الدين بن العراقي المشهور: أنها" أي: الخندق، "في السنة الرابعة" حقيقة لمزيد إتقان القائلين بذلك كيف وهم موسى بن عقبة ومالك والبخاري، ولذا صححه النووي في الروضة.
"وكان من حديث" أي: سبب هذه الغزوة، "هذه الغزوة" كما رواه ابن إسحاق بأسانيد
أن نفرا من يهود خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن
__________
كلها مرسلة، "أن نفرا من يهود" منهم سلام بن مشكم وابن أبي الحقيق وحيي وكنانة النضيريون وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان، "خرجوا" من خيبر "حتى قدموا على قريش مكة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله".
قال في رواية ابن إسحاق: فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه، قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} فسر ذلك قريشا ونشطوا لما دعوهم إليه، "فاجتمعوا لذلك واتعدوا له" أي: تواعدوا على وقت يخرجون فيه، وفي نسخة: واستعدوا له، والأول هو الرواية في ابن إسحاق والمناسب لقوله، "ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان" بعين مهملة.
قال الجوهري: وليس في العرب عيلان غيره، وهو في الأصل اسم فرسه، ويقال هو لقب مضر؛ لأنه يقال قيس بن عيلان، "فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه".
قال الواقدي: وجعلوا لهم خيبر سنة إن هم نصروهم، "وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فخرجت قريش" في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة "وقائدها أبو سفيان بن حرب" المسلم في الفتح، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفا وخمسمائة بعير ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران في سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، قاله ابن سعد، وأسلم طليحة بعد ذلك.
"وخرجت غطفان وقائدها يينة بن حصن" بن حذيفة بن بدر الفزاري، "في فزارة" قبيلته،
في فزارة، والحارث بن عوف المري في مرة.
وكان عدتهم -فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة الآف, والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.
__________
وكانو ألفا.
قال في الروض: سمي عيينه لشتر كان بعينيه واسمه حذيفة، وهو الذي قال في صلى الله عليه وسلم: "الأحمق المطاع" لأنه كان يتبعه عشرة الآف قناة.
وقال فيه أيضا: إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره.
وفي رواية: إني أداريه لأني أخشى أن يفسد علي خلقا كثيرا، وفيه بيان معنى الشر الذي أتقي منه، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فقال له: "أين الإذن"، قال: "ما استأذنت على مضري قبلك"، وقال: "ما هذه الحميراء معك"؟ قال: "عائشة بنت أبي بكر"، فقال: "طلقها"، وأنزل لك عن أم البنين في أمور كثيرة من جفائه أسلم، ثم ارتد وآمن بطليحة حتى تنبأ، وأخذ أسيرا، فأتي به للصديق، فمن عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات.
قال الشاعر:
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
ا. هـ.
"والحارث بن عوف المري" بضم الميم وشد الراء، أسلم بعد تبوك في وفد قومه بني مرة، وكانوا ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث أحد الفرسان المشهورين "في" بني "مرة" وكانوا أربعمائة.
زاد ابن سعد: وخرجت أشجع، وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء، وأسلم بعد وخرج معهم غيرهم.
قال: وقد روى الزهري: أن الحارث بن عوف رجع ببني مرة، فلم يشهد الخندق منهم أحد، وكذلك روت بنو مرة والأول أثبت ا. هـ.
"وكان عدتهم فيما ذكره ابن إسحاق" بأسانيده, وابن سعد "عشرة الآف".
قال ابن سعد: وكانوا ثلاثة عساكر، وعاج الأمر إلى أبي سفيان، قالا أيضا: "والمسلمون ثلاثة آلاف".
قال الشامي: وهو الصحيح المشهور "وقيل غير ذلك".
قال في الفتح: وقيل: كان المشركون أربعة آلاف، والمسلمون نحو الألف.
ونقل ابن القيم في الهدى عن ابن إسحاق أن المسلمين كانوا سبعمائة. قال: وهذا غلط
وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب، ما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه عليه الصلاة والسلام ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا.
وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل
__________
من خروجه يوم أحد.
قال الشامي: ولا دليل في قول جابر في قصة الطعام، وكانوا ألفا؛ لأنه أراد الآكلين فقط لا عدة من حضر الخندق ا. هـ. وقيل: كان المشركون خمسة عشر ألفا، كذا حكاه في النهر.
قال ابنا سعد وهشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
"وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين سنة وثلاثون فرسا، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب وما أجمعوا عليه من الأمر" الذي زعموه، وهو استئصال المسلمين "ضرب على المسلمين الخندق"، أي: جعل على كل عشرة أربعين ذراعا كما مر، وكان الخندق بسطة أو نحوها، "فعمل فيه عليه الصلاة والسلام" بنفسه "ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فدأب ودأبوا" جدوا وتعبوا، حتى كان سلمان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه قيس بن صعصعة، أي: أصابه بالعين فلبط، بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة، أي: صرع فجأة من عين، أو علة وهو ملتو، فقال صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتوضأ وليغتسل به سلمان وليكفئ الإناء خلفه" ففعل، فكأنما حل من عقال.
وعند الطبراني: وت نافس المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا. فقال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" بنصب أهل على الاختصاص، أو على إضمار، أعني وأما الخفض على البدل فلم يجزه سيبويه من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب؛ لأنه في غاية البيان، وأجازه الأخفش، قاله السهيلي.
"وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك" أي: تأخر عن العمل معهم، "ناس من المنافقين" وهذا كالاستثناء من دأب ودأبوا، كأنه قال: إلا المنافقين وإنما أخرجوا؛ لأنهم مسلمون ظاهرا، "وجعلوا يورون بالضعف عن العمل" أي: يخفون مقصودهم من خذلان المسلمين بإظهار الضعف.
ففي القاموس وراه تورية أخفاه كواراه أو يتعللون به سماه تورية، لإظهارهم خلاف
وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار".
والأكتاد: بالمثناة الفوقية- جمع كتد -بفتح أله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بالموحدة، وهي موجه على أن المراد به مما يلي الكبد من الجنب.
__________
قصدهم من عدم إعانة المسلمين وخذلانهم، وأبرزوه في صورة الضعف، لكن حيث صح المعنى اللغوي بالحقيقة، فلا معدل عنه للمجاز.
"وفي البخاري" ثاني حديث في هذا الباب. "عن سهل بن سعد" الساعدي "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون" بكسر الفاء "ونحن ننقل التراب على أكتادنا" بالتاء والباء.
وفي حديث أنس: على متونهم كما عند البخاري.
ق ال الحافظ: ووهم ابن التين فعزا هذه اللفظة لحديث سهل.
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله لا عيش" دائم "إلا عيش الآخرة".
قال الداودي: إنما قال ابن رواحة: لا هم إن العيش بلا ألف ولام، فأورده بعض الرواة على المعنى.
قال الحافظ: وحمله على ذلك ظنه أنه يصير بالألف واللام غير موزون، وليس كذلك بل يكون دخله الجزم، ومن صوره زيادة شيء من حروف المعاني في أول الجزء "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وفي حديث أنس بعده، " فاغفر للأنصار والمهاجرة".
قال الحافظ: وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك، ولعل أصله فاغفر للأنصار وللمهاجرة بتسهيل همزة الأنصار، وباللام في المهاجرة، وفي الرواية الأخرى فبارك بدل فاغفر، "والأكتاد بالمثناة الفوقية، جمع كتد، بفتح أوله وكسر المثناة".
زاد المصباح وفتحها "ما بين الكاهل" كصاحب الحارك، أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الأعلى، وفيه ست فقرات، أو ما بين الكتفين، أو موصل العنق في الصلب، كما في القاموس "إلى الظهر".
وقال ابن السكيت: الكتد مجتمع الكتفين، وحاصل المعنى أنهم كانوا يحملون على أكتافهم أعالي ظهورهم، "وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بموحدة، وهو موجه على أن المرد به ما يلي الكبد من الجنب" لاستحالة الحقيقة.
وفي البخاري أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
"اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
قال ابن بطال: وقوله: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، هو من قول ابن رواحة تمثل به عليه الصلاة والسلام
__________
"وفي البخاري أيضا" ثالث حديث في الباب عن حميد، "عن أنس": خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، "فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم".
قال الحافظ: أي: إنهم عملوا فيه بأنفسهم لاحتياجهم إلى ذلك لا مجرد الرغبة في الأجر، "فلما رأى ما بهم من النصب" بفتح النون والصاد التعب "والجوع".
"قال:" وفي رواية أبي الوقت فقال: والأولى أولى؛ لأن جواب لما لا يقترن بالفاء "صلى الله عليه وسلم" وفي هذا كما قال الفتح بيان سبب قوله: "اللهم إن العيش" المعتبر الدائم "عيش الآخرة " لا عيش الدنيا لكدورته، وكونه مع المنغصات التي لا تتناهى، ثم بعد هو فإن وإن طال قل متاع الدنيا قليل، هكذا رواية أنس في الصحيح كما سقته. ومت رواية سهل لا عيش إلا عيش الآخرة، وما يقع في نسخ من جعله كذلك في خبر أنس مخالف للبخاري. "فاغفر للأنصار والمهاجرة" بكسر الجيم وسكون الهاء، "فقالوا": أي الطائفتان حال كونهم، "مجيبين له نحن الذين بايعوا" صفة الذين لا صفة نحن، قاله الفتح "محمدا على الجهاد".
وفي رواية عبد العزيز، عن أنس عند البخاري على الإسلام بدل الجهاد، والأول أثبت، قاله الحافظ. "ما بقينا أبدا. قال ابن بطال وقوله: اللهم لا عيش إلى عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة" عبد الله الصحابي الشهير "تمثل به عليه الصلاة والسلام" قال: ولو لم يكن من لفظه لم يكن بذلك شاعرا، قال: وإنما يسمى شاعرا من قصده، وعلم السبب والوتد، وجميع معايبه من الزحاف ونحو ذلك، قال الحافظ كذا، قال: وعلم الوتد إلخ، إنما تلقوه من العروض التي اخترع ترتيبها الخليل بن أحمد وقد كان من شعراء الجاهلية والمخضرمين والطبقة الأولى والثانية من شعراء الإسلام قبل أن يضعه الخليل، كما قال أبو العتاهية، أن أقدم من العروض، يعني أنه نظم
وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زيادة في آخر الرجز:
والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا ننقل الحجارة
وفي البخاري من حديث البراء قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه،
__________
الشعر قبل وضعه:
وقال أبو عبد الله بن الحجاج الكاتب:
قد كان شعر الورى قديما ... من قبل أن يخلق الخليل
ا. هـ.
"وعند الحارث" بن محمد "بن أبي أسامة" داهر الحافظ المشهور، "من مرسل طاوس" بن كيسان اليماني الفارسي تابعي ثقة، فقيه، كثير الحديث. يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب. مات سنة ست ومائة، وقيل بعدها "زيادة في آخر" هذا "الرجز" هي:
والعن عضلا والقاره ... هم كلفونا ننقل الحجاره
قال الحافظ: والأول غير موزون أيضا، ولعله والعن الهي عضلا والقارة.
وفي رواية عبد العزيز عن أنس عند البخاري: وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا
يقول صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجره".
قال الحافظ: ولا أثر للتقديم والتأخير فيه؛ لأنه يحمل على أنه كان يقول إذا قالوا ويقولون إذا قال، يعني يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى، قال: وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب، وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز.
"وفي البخاري" من طريقين ذكر المصنف الثانية "من حديث البراء" بن عازب، "قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى" أخفى، "عني الغبار" لتراكمه، "جلدة بطنه".
وفي الطريق الأولى حتى أغمر أو اغبر بطنه بالشك، وغين معجمة فيهما، فإما بالموحدة فواضح، وإما بالميم.
فقال الخطابي: إن كانت محفوظة فمعناها وارى التراب جلدة بطنه، أي: فبطنه بالنصب، ومنه غمار الناس وهو جمعهم إذا تكاثف، ودخل بعضهم في بعض.
قال: وروي اعفر بمهملة وفاء، والعفر بالتحريك التراب.
وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد رغبوا علينا
__________
قال عياض: وقع للأكثر بمهملة وفاء وبمعجمة وموحدة، فمنهم من ضبطه بنصب بطنه، ومنهم من ضبطه برفعها.
وعند النسفي حتى غبر بطنه، أو أغبر بمعجمة فيهما وموحدة.
ولأبي ذر وأبي زيد: حتى أغمر. قال: ولا وجه لها إلا أن تكون بمعنى ستر، كما في الرواية الأخرى حتى وارى عني التراب جلدة بطنه.
قال: وأوجه هذه الروايات اغبر بمعجمة وموحدة، ورفع بطنه.
"وكان كثير الشعر" بفتحتين، أي: شعر بطنه، وفي حديث أم سلمة عند أحمد بسند صحيح كان صلى الله عليه وسلم يعاطيهم اللبن يوم الخندق، وقد أغبر شعر صدره، وظاهره أنه كان كثير شعر الصدر، وليس كذلك فإن في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق المسربة، أي: الشعر، الذي في الصدر إلى البط، فيمكن أن يجمع بأنه كان مع دقته كثيرا، أي: لم يكن منتشرا بل كان مستطيلا، والله أعلم انتهى كله من الفتح. "فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب ويقول: اللهم" وفي الطريق الأولى والله، "لولا أنت ما اهتدينا" وعلى الطريق الأولى وهو موزون، وأما الثانية فقال الزركشي: صوابه في الوزن لا هم، أو تالله لولا أنت، قال الدماميني: هذا عجيب، فإنه صلى الله عليه وسلم هو المتمثل بهذا الكلام والوزن لا يجري على لسانه الشريف غالبا. قلت: إنما قال صوابه في الوزن، ولا عجب في ذلك أصلا. "ولا تصدقنا" ولفظ أبي يعلى: اللهم لولا أنت، وقال بدل تصدقنا صمنا كذا في الشامية، ومراده أنه ذكره بإحدى روايتي الصحيح في أوله، وأبدل تصدقنا بصمنا كما هو ظاهر جدا، إلا أنه انفرد عن البخاري بلفظ: اللهم لولا أنت، كما توهم فإنه فاسد لثبوتها في البخاري "ولا صلينا فأنزلن" بنون التوكيد الخفيفة "سكينة" بالتنكير، أي: وقارا، "علينا" هكذا رواية البخاري في المغازي من الطريقين، وله في الجهاد: فأنزل السكينة علينا، وللحموي والمستملي: فأنزل سكينة، وللكشميهني كما هنا، "وثبت" قوّ "الأقدام إن لاقينا" العدو "إن الأولى" هو من الألفاظ الموصولات، لا من أسماء الإشارة جمعا للمذكر، "قد رغبوا" بغين معجمة، العدو "علينا" أي: على قتالنا.
قال الحافظ: كذا للسرخسي، والكشميهني، وأبي الوقت، والأصيلي، وابن عساكر وللباقين قد بغوا كالأولى، لكن الأصيلي ضبطها بالعين المهملة الثقيلة والموحدة، وضبطها في
إذا أرادوا فتنة أبينا
قال: ويمد بها صوته ... وفي روية له أيضا:
إن الأولى بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أنه صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق قال:
بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا و..............
__________
المطالع بالغين المعجمة، وكذا ضبطت في رواية أبي الوقت لكن بزاي أوله، والمشهور ما في المطالع ا. هـ، وعلى خلاف المشهور، وهو الإهمال فتشديد رعبوا للمبالغة، أي: رعبوا المسلمين بتحزبهم علينا، فلا حاجة إلى أنه ضمنه معنى جمعوا، فعداه بعلي مع أنه يتعدى بنفسه وبالهمزة، "إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة، الفرار، كما رجحه عياض وبالفوقية، أي: جئنا وأقدمنا على عدونا، وتتمة حديث البراء من هذا الطريق لفظها "قال:" ثم يمد صوته بآخرها.
قال المصنف كالحافظ، أي: بقوله: أبينا، ولفظه في الطريق الأولى ورفع صوته أبينا أبينا، وكان المصنف ذكر حاصل معنى الروايتين بقوله: "ويمد بها صوته" أي: باللفظة الأخيرة لا بالجميع.
"وفي رواية له" للبخاري "أيضا" في الطريق الأولى: "إن الأولى بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
قال الحافظ: ليس بموزون وتحريره إن الذين قد بغوا علينا، فذكر الراوي الأولى بعنى الذين وحذف قد وزعم ابن التين أن المحذوف هم وقد والأصل أن الأولى هم قد بغوا علينا وهو يتزن بما قال لكن لم يتعين، وذكر بعض الرواة في مسلم أبوا بدل بغوا، ومعناه صحيح، أي: أبوا أن يدخلوا في ديننا.
"وفي حديث" الحارث بن أبي أسامة من طريق "سليمان" بن طرخان "التيمي" أبي المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم الثقة العابد، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو ابن سبع وتسعين سنة. روى له الجميع "عن أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل، بميم مثلثة ولام ثقيلة "النهدي" بفتح النون وسكون الهاء، ثقة عابد مخضرم، مات سنة خمس وتسعين، وقيل بعدها وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر.
روى له الستة وهو مرسل، وقد أخرجه البيهقي موصولا عن سلمان "أنه صلى الله عليه وسلم حين ضرب في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا" لا بحولنا وقوتنا، "ولو عبدنا غيره شقينا، حبذا ربا" هو
.............حبذا دينا
قال في النهاية: يقال بديت بالشيء -بكسر الدال- أي: بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء. ا. هـ.
وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام. منها ما في الصحاح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة -وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة-.........
__________
"وحبذا دينا" ديننا، وهذا غير موزون، ويتزن بإسكان باء حبذا، الثانية لكن الذي في الفتح عن رواية النهدي هذه حبذا ربا حبذ دينا بإسقاط ذا الثانية وهذا موزون.
"قال في النهاية يقال: بديت بالشيء بكسر الدال، أي: بدأت به، فلما خفف الهمز كسر الدال فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء" أي: ليس فيه أصلية، "انتهى".
قال شيخنا: يرد عليه أن الدال مكسورة قبل التخفيف، إذ الظاهر من قوله بديت أن كسره أصلي غايته أن مكسور الدال بمعنى مفتوحها، اللهم إلا أن يقال المراد إن مكسور الدال أصله الفتح فقلبت الهمزة ياء، ثم كسرت الدال لمناسبة الياء، "وقد وقع في حفر الخندق آيات" علامات "من أعلام" جمع علم، وهو العلامة وجمعها علامات فكأنه قال وقع علامات هي بعض علامات "نبوته عليه الصلاة والسلام" وتفنن فعبر أولا بالآيات، وثانيا بإعلام "منها ما في الصحاح" البخاري وغيره.
"عن جابر قال: إنا" بتشديد النون "يوم الخندق" ظرف لقوله: "نحفر" أي: كنا في وقت حفرنا مشغولين به.
وفي رواية الإسماعيلي: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر "فعرضت" أي: ظهرت، "كدية شديدة، وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة" من الأرض لا يعمل فيها المعول، وبهذه الرواية صدر المصنف في شرح البخاري، وعزاها الحافظ لرواية الإسماعيلي وأحمد وصدر بقوله كيدة كذا لأبي ذر بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض.
وقال عياض: كأن المراد أنها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللأصيلي عن الجرجاني كندة بالنون. وعند ابن السكن: كتدة بفوقية.
قال عياض: لا أعرف لهما معنى ا. هـ.
وحكى الأنصاري كبدة بفتح الكاف، وسكون الموحدة انتهى فهي خمسة.
فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم.
كذا بالشك من الراوي، وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك،
__________
وفي شرح المصنف عن الفتح: أن رواية الجرجاني بفتح الكاف والموحدة، أي: قطعة صلبة من الأرض لكن الذي في الفتح كما رأيت بالنون، "فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق".
وفي رواية الإسماعيلي فقال: رشوها بالماء، فرشوها "فقام وبطنه معصوب بحجر" زاد في رواية من الجوع، ولأحمد أصابهم جهد شديد حتى ربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع.
قال الحافظ: وفائدة ربطه على البطن أنها تضمر من الجوع، فيخشى على انحناء الصلب بواسطة ذلك، فإذا وضع فوقها الحجر وشد عليها العصابة استقام الظهر.
وقال الكرماني: لعله لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء، لئلا يتحلل شيء مما في البطن، فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل، "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا" بفتح الذال المعجمة، أي: شيئا.
قال الحافظ وهي جملة معترضة أوردها لبيان السبب في ربطه صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه..
وزاد الإسماعيلي: ولا نطعم شيئا، ولا نقدر عليه ا. هـ.
قال شيخنا: أو لبيان اجتهاد الصحابة ومبالغتهم في امتثال أمره، وإن كانوا على غاية من الجهد وتوطئة لصنع جابر للطعام.
"فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو بعدها لام، أي: المسحاة.
وفي رواية أحمد: فأخذ المعول، أو المسحاة بالشك أي: في اللفظ الذي قاله وإن اتحدا معنى "فضرب" في رواية الإسماعيلي، ثم سمي ثلاثا، ثم ضرب "فعاد" المضروب "كثيبا" بمثلثة، أي: رملا "أهيل" بفتح الهمزة والتحتية بينهما هاء ساكنة آخره لام.
وعند ابن إسحاق بلاغا عن جابر أنه دعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق لاهالت حتى عادت مثل الكثيب، لا ترد فاسا ولا مسحاة "أو أهيم" بالميم بدل اللام، "كذا بالشك من الراوي" ولم يعينه الحافظ ولا غيره.
"وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك" كما في الفتح. قال: وكذا عند يونس.
والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك.
وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] المراد: الرمال التي لا يرويها الماء.
وقد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول
__________
وفي رواية أحمد كثيبا يهال، "والمعنى أنه صار رملا يسيل، ولا يتماسك" قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} الآية، أي: رملا سائلا، "و" أما "أهيم" بالميم، فقال عياض: ضبطها بعضهم بالمثلثة، وبعضهم بالمثناة، وهي "بمعنى أهيل" باللام، ووقع للمصنف في شرح البخاري أن رواية الإسماعيلي بالميم، فكأنه سبق قلم، فما بعد هذا البيان من الحافظ بيان، "وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} المراد الرمال التي لا يرويها الماء" أي: لا يظهر أثره فيها لكثرتها شبه ظهور الماء، بزوال العطش الذي هو الري، واستعير له اسمه، ثم اشتق منه الفعل على أنه جمع هيام بالفتح كسحاب، فخفف بنقل حركة الياء إلى الهاء بعد سلب حركتها، أو حذفت ضمتها بلا نقل، ثم قلبت كسرة لتسلم الياء، فصار هيم كما أشار إليه البيضاوي، وصدر بأن المراد الإبل التي بها الهيام، أي: بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء جمع أهيم وهيماء.
قال ذو الرمة:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضي عليها هيامها
ا. هـ.
وما أفاده من اختلاف مفرده بالمعنيين قد ينافي ما يشعر المصنف من ن أهيم يجمع على هيم، فلا يختص بالإبل اللهم إلا أن يكون إذا وصف به الكثيب جمع على هيم، ولا يطلق إلا هيم على الرمل بل الهيام، وإذا جمع قيل هيم، و"قد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء" بن عازب "قال: لما كان" تامة وفاعلها "حين" بالبناء على الفتح لإضافته إلى الجملة الماضوية في قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو الأكثر لإضافته إلى مبني، ويجوز فيه الإعراب أو كان ناقصة، أي: عملنا في الخندق حاصلا حين أمرنا "بحفر الخندق"، وجواب لما هو قوله: "عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول" جمع معول، وهو الفأس العظيمة التي ينقر بها قوي الصخر، كما في الجوهري. وقول شيخنا
فاشتكينا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة وقال بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.
__________
جوابها محذوف، أي: لما كان زمن أمره بالحفر حفرنا؛ لأن نسخته فعرضت بالفاء لكن الثابت في النسخ الصحيحة، وهو الذي رأيته في الفتح في نسختين صحيحتين عرضت بدون فاء فهي الجواب على أنه قد يقترن بالفاء جواب لما، فلا حاجة للتقدير، "فاشتكينا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء وأخذ المعول" من سلمان "فقال: بسم الله، ثم ضربه فنشر" بشين معجمة قطع، والذي في الفتح فكسر "ثلثها" بالمعول. وفي رواية: فخرج نور أضاء ما بين لابتي المدينة، "وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة" من مكاني" "ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر".
زاد في رواية: فبرقت برقة من جهة فارس أضاء ما بين لابتيها، "فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن" مدائن كسرى "الأبيض" لعل المراد به قصر كسرى المعد له "الآن".
وفي رواية: والله إني لأبصر قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا بالنصر، فسر المسلمون، "ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر".
زاد في رواية فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كان مصباحا في جوف ليل مظلم، "فقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة" " وهذا الحديث الحسن لا يعارضه رواية ابن إسحاق بلفظ عن سلمان فذكره، وفيه أما الأولى فإن الله فتح بها على اليمن، والثانية الشام والمغرب، والثالثة المشرق فارس؛ لأنه منقطع، فلا يعارض المسند المرفوع الحسن، ومن ثم لم يلتفت الحافظ لرواية ابن إسحاق وإن تبعه عليها اليعمري وغيره، بل اقتصر على هذا الحديث وأيده، بأن طرقه تعددت بقوله عقبه، وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر ونحوه، وأخرجه البيهقي مطولا من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده.
وفي رواية: خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، وفيه فمرت بنا صخرة بيضاء
ومن أعلام نبوته ما ثبت في الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام والقليل يوم حفر الخندق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره.
وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة.
وعند الواقدي: أربعا وعشرين.
وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما.
وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا.
__________
كسرت معاويلنا، فأردنا أن نعدل عنها ثم قلنا حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنا إليه سلمان، وفيه فضرب ضربة صدع الصخرة، وبرق منها برقة، فكبر وكبر المسلمون، وفيه رأيناك تكبر فكبرنا بتكبيرك قال: "إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم"، وفي آخره ففرح المسلمون واستبشروا، وأخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاصي بنحوه ا. هـ.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
"ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيح من حديث جابر" المتقدم أوله في حديث الكدية "من تكثير الطعام القليل" وهو صاع من شعير وعنز صغير "يوم حفر الخندق" فجاء بالقوم وهم ألف، فبصق في العجين والبرمة. قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه، وإن برمتنا كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره".
ومنها خبر الحفنة من التمر التي جاءت بها ابنة بشير بن سعد، أخت النعمان لأبيها وخالها ابن رواحة ليتغديا به، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "هاتيه فصبته في كفيه" فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم قال لإنسان: "اصرخ في أهل الخندق، أن هلموا إلى الغداء"، فاجتمعوا عليه فجعلوا يأكلون، وجعل يزيد حتى صدروا عنه، وإنه ليسقط من أطرا الثوب رواه ابن إسحاق، "وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق" أي: مدة حفره، "قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي: أربعا وعشرين" وعند ابن سعد: ستة أيام. قال السمهودي، وهو المعروف.
"وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما، وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا"
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة.
ونزل عيينة بن حصن في غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد.
__________
كذا قاله المصنف تبعا للفتح حرفا بحرف، ورد ذلك الشريف السمهوري، بأن الذي في الروضة، والهدي ومغازي ابن عقبة، إنما هو في مدة الحصار، لا في عمل الخندق، ثم استدرك على الرد بأن ابن سيد الناس بعد نقله عن ابن سعد، أنه كمل في ستة أيام. قال وغيره يقول بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعا وعشرين ا. هـ، وليست بواثق من هذا التعقب، فإن الحافظ نقل أولا عن ابن عقبة، أن مدة الحصار عشرون يوما، ثم بعد قليل ذكر هذا الخلاف في مدة الحفر، وتوهيم مثله بمجرد نسخ قد يكون سقط منها أحد الموضعين، لا ينبغي فإنه لا يجازف في النقل.
قال ابن إسحاق: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من: حفر "الخندق, أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع" بضم الميم الأولى، وسكون الجيم، وفتح الفوقية والميم الثانية، أي: الموضع الذي تجتمع فيه "السيول" جمع سيل, كما في القاموس وغيره، ويجمع أيضا على أسيال.
وفي ابن إسحاق على أسيال من رومة بين الجرف وزغابة.
قال السهيلي: بزاي مفتوحة وغين منقوطة، وقيل: بضم الراء وعين مهملة اسم موضع ذكرهما البكري، مقدما الثاني
وحكي عن الطبري، أنه قال في هذا الحديث: بين الجرف والغابة، واختار هذه الرواية، وقال: لأن زغابة لا تعرف وإلا عرف عندي رواية الغين المنقوطة
لحديث: ألا تعجبون لهذا الأعرابي، أهدى إلي ناقتي أعرفها بعينها ذهبت مني يوم زغابة، وقد كافأته بست فيسخط ا. هـ، وتحققت ووجدت جملة قريش، ومن معهم "في عشرة آلاف" منهم،