«وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ «قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ «إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.»
(القرآن الكريم، السورة 33، الآية 22)
وبينا كان الرسول منهمكا في كبت أذى القبائل العربية، لكي يتلافى نشوب الحرب على نطاق واسع، كانت قريش في شغل شاغل بأعداد حملة جديدة على المدينة. وكانت القبائل اليهودية المنفية من المدينة، والمقيمة الآن في خيبر، حليفة لهم أيضا في القضية المشتركة: قضية إبادة الاسلام. ولقد وفقوا إلى تحريض العشائر البدوية المقيمة على مقربة من مكة، فانضمت بدورها إلى الحلف المعادي للاسلام. وهكذا تضافرت قريش، واليهود، والبدو لضرب الاسلام ضربة قاضية.
حتى إذا كانت السنة الخامسة للهجرة حشدوا جيشا عظيما يتراوح عدد رجاله، وفقا لمختلف التقديرات، ما بين عشرة آلاف جندي وأربعة وعشرين الف جندي. وحتى القبائل اليهودية المقيمة داخل أسوار المدينة خانت المسلمين وتعاونت، في آخر لحظة ممكنة، مع المغيرين. ومن ثم لم يكن للمسلمين، إذا نظرنا للمسألة بمنظار بشري صرف، غير أضأل الحظ في النجاة من هذا السيل الزاخر من المهاجمين.
وبلغ الرسول الكريم نبأ هذا الهجوم الوشيك المعدّ على نطاق لم يسبق إلى مثله من قبل. فسارع إلى دعوة أصحابه يشاورهم في الأمر ويتدارس معهم خير الطرق لمواجهة الموقف. فأشار سلمان الفارسي بتحصين المدينة من طريق حفر خندق عميق عريض يحيط بها من أقطارها جميعا. وكان للمدينة- من ناحية- حاجز طبيعي من الصخور الوعرة، وكان يصونها- من ناحية أخرى- جدران البيوت الحجرية المبنية على نحو مكتظّ، في استمرار غير منقطع، والتي كانت تؤلف في ذات نفسها خطا دفاعيا منيعا. وفي الحال بدئ بحفر الخندق في الناحية المعرّضة للهجوم. وقسم الرسول العمل بين جماعات من المسلمين، كل جماعة مؤلفة من عشرة رجال، وشارك هو نفسه في الحفر مثل عامل عاديّ.
إن التاريخ لم يدوّن لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني أيضا على امة من الامم، ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عاديّ، جنبا إلى جنب مع أتباعها، في ساعة الحرج الوطني العظيم.
إنه لمن سمات شخصية الرسول المميّزة أنه كان يضفي رواء على ايما شيء يشارك في صنعه. فحيثما وضعته أدى واجبه في كياسة عجيبة.
ولئن كان، من ناحية، أكثر الملوك رجولة، لقد كان- في الوقت نفسه- أكثر الرجال جلالا ملكيّا. وفيما هم يحفرون انتهوا إلى حجر
صلد. وبذلوا كلهم قصارى جهدهم لتحطيمه. وهكذا اقترح على الرسول، الذي كان قد رسم حدود الخندق بيديه الاثنين، أن يجيز لهم الانحراف بعض الشيء عن الخطة الأصلية. فلم يكن منه إلا أن تناول معولا وانهمك في أداء المهمة التي أعجزت رجاله. لقد هبط إلى جوف الخندق وراح يقرع الصخرة بعنف، فانزاحت مطلقة في الوقت نفسه شرارة نار لم يكد الرسول يلمحها حتى صاح، يتبعه أصحابه، «الله اكبر!» وقال إنه رأى في الشرارة أن مفاتيح قصر الملك في الشام، قد آلت اليه. وضرب الصخرة كرة أخرى فانشقت، مطلقة شرارة النار نفسها. وكرة ثانية ارتفع التكبير: «الله اكبر!» ولاحظ الرسول انه وهب مفاتيح المملكة الفارسية. وعند الضربة الثالثة تناثرت الصخرة قطعا وأعلن الرسول انه رأى مفاتيح اليمن تصبح ملك يديه.
ثم أوضح قائلا إنه، في المرة الأولى، أطلع على قصر قيصر، وفي المرة الثانية على قصر اكاسرة فارس، وفي المرة الثالثة على قصر صنعاء، وأنه أنبئ أن أتباعه سوف يمتلكون تلك البلاد كلها. ظاهرة رائعة! كانت قوة جبارة، تتألف من اربعة وعشرين الف رجل، تقف عند أبواب المدينة نفسها على أتم استعداد لسحق الاسلام. وكانت بلاد العرب كلها متعطشة لدماء المسلمين. وفي غمرة من سحب هذا الخطب الرهيب تلمح عين الرسول شعاعا قصيا يؤذن بالقوة التي ستتم للاسلام في المستقبل! أليس ذلك شيئا يتخطى أبعد طاقات الخيال البشري؟ ومن غير الرب الكلّي الحكمة والكليّ العلم يستطيع أن يكشف أسرار المستقبل هذه في لحظة كان الاسلام مهدّدا فيها بالفناء المطلق؟
ودب الذعر في نفوس المسلمين عندما انقضّت الاحزاب المتحالفة، بكامل قوّتها، على المدينة؛ لقد زلزلت آساس البلد نفسها. ولقد وصف ما ألمّ بالقوم، في تلك اللحظة، من كرب وارتباك، بهذه الكلمات:
«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً.» *
ولكن من خلال مشهد الرعب والذعر الظاهريّ استطاعت افئدة المؤمنين ان تقرأ مصداق ما وعدهم ورسوله. ولقد صوّر الله ما دار في خلدهم بالآية التالية:
«وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.» **
وعلى الرغم من أن الاحتمالات كلها كانت تشير، على نحو ساحق، إلى ان المسلمين سوف يبادون، وعلى الرغم من المخاوف التي عصفت بهم في تلك الحال الكالحة فقد أدركوا ان هذه المحاولة كانت المحاولة الأخيرة اليائسة يقوم بها عدوّ مختضر. إنها سوف تقصم ظهر العدو مرة وإلى الأبد، وتؤذن باستهلال عهد سعيد، عهد انتصار الاسلام.
وعلى سبيل الوقاية من هجوم محتمل من الخارج، أو خيانة يهودية من الداخل نقل النساء والأطفال إلى مواطن حصينة. واستمر الحصار نحوا من شهر، قاسى المسلمون خلاله- وفيهم الرسول نفسه- من ويلات المجاعة شيئا كثيرا. لقد سلخوا أياما عديدة من غير أن يذوقوا ايما طعام، فتعيّن عليهم ان يشدوا إلى بطونهم قطعا من الحجارة.
ولكن روحهم لم تقهر بسبب من ذلك البتة. وذات يوم، اقترح النبي رشوة قبيلة غطفان من طريق وعدها ثلث ثمار المدينة [إن هي
__________
(*) السورة 33، الآية 10- 11.
(**) السورة 33، الآية 22.
ارتحلت] . وكان خليقا بهذا الاقتراح ان يسهم إسهاما كبيرا في خضد شوكة العدوّ. وعلى الرغم من المجاعة التي قاساها المسلمون، والضيق الذي ألمّ بهم من جراء الحصار المتطاول والسهر والحراسة الموصولين فقد رأوا ان في القبول بمثل هذا الذل جرحا لكرامتهم. وقال الأنصار، الذين عنتهم المساومة المقترحة مباشرة، إنهم لم يدفعوا ايما جزية اليهم حتى في الجاهلية، فكيف يطيقون الاذعان لهم، خاصة وأن في الأمر مساسا بشرف الاسلام نفسه؟ إنهم سوف يقاتلون حتى آخر رجل من رجالهم، وليكن ما يكون!
وكان اليهود والمنافقون يتحينون الفرصة للانقضاض من داخل، على نحو متواقت مع الهجوم من خارج. وجرت بادئ الامر مبارزات كتبت الغلبة فيها للمسلمين. كان عمرو بن ودّ، وهو بطل عربي شهير، يعتقد أنه كفؤ لألف رجل، [فتقدّم ينادي: «من يبارز؟» ولما دعاه عليّ بن أبي طالب إلى النزال قال في صلف:
«لم يا ابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتلك!» فقال عليّ: «لكني أحب والله أن أقتلك!» فتنازلا فقتله عليّ] . وأخيرا شنّت قريش، بكامل قوّتها، هجوما عاما، ولكنها لم تستطع أن تقتحم الخندق.
بيد أن سهامها ونبالها انهمرت انهمار وابل رهيب، ولولا ثبات المسلمين الراشح بروح الانضباط لكسب العدو المعركة. لقد عجز الجيش العظيم، البالغ عدده اربعة وعشرين الف مقاتل، عن اختراق خط دفاعهم، فألمّ به الاعياء. كان الحصار قد أمسى مرهقا له.
وإلى هذا، كانت مؤن العدو قد نفدت. ثم هبّت ريح عاتية فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، فدبّ الاضطراب في صفوفهم. وإلى هذه الحادثة يشير القرآن الكريم بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.» * لقد حققت الريح للمسلمين ما كان متعذرا عليهم أن يحققوه بقوة سلاحهم. وإذ رأت قريش وأحلافها أن الطبيعة نفسها كانت تعمل ضدهم دبّ الذعر في نفوسهم. لقد اعتبروا ذلك نذيرا بشؤم. وهكذا انسحبوا، يائسين، في تلك الليلة نفسها، وكم كان ابتهاج المسلمين عظيما، وشكرهم لله غامرا، حين لم يروا ايا من أعدائهم هناك، صباح اليوم التالي. هل كانت اليد العاملة من وراء الستار، والتي احبطت محاولات القوى المتفوقة الهادفة إلى سحق حفنة من المسلمين والتي أفسدت خطط اليهود والمنافقين الغادرة، غير يد الله نفسه؟ وعلى هذا النحو انتهت بالخيبة والذعر الشاملين أقوى حملة منظمة شنّت على الاسلام.
__________
(*) السورة 33، الآية 9.
الفصل التّاسع عشر العلاقات مع اليهود
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا «بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ «خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ «بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، «وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ «بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ «تَعْقِلُونَ.»
(القرآن الكريم، السورة 3، الآية 118)
كان اليهود، كما لا حظنا من قبل، يؤلفون عنصرا قويا من عناصر السكان في المدينة. ولقد تعاونت التجارة والربا على جعلهم أصحاب ثراء ضخم. وكان من دأب الأوس والخزرج، عامة، ان يقترضوا المال منهم. وفي حقل الثقافة أيضا، تفوق اليهود عليهم.
بل لقد تقدّموا جيرانهم في كل ميدان من ميادين الحياة تقريبا.
ولدن وصول النبي إلى المدينة عقد اليهود اتفاقا مع المسلمين.
ولكن ازدهار الاسلام المتعاظم اضرم في قلوب اليهود شرارة الحسد.
ولقد وفّقوا، ببقائهم على اتصال بالمنافقين سرّيّ، إلى انزال أعظم الاذى بالمسلمين. ولم يتورّعوا حتى عن ايذاء الرسول نفسه، الذي كانوا يوجهون اليه كلمات بذيئة نابية. كانوا، مثلا، إذا ما تحدّثو اليه حرفوا كلمة «راعنا» التي تعني «أصغ الينا» إلى «رعينا» وتعني «إنه مجنون» بسبب من حذف حرف العلة. وكذلك كانوا يحرفون كلمة «السلام عليكم» فيلفظونها «السّام عليكم» أي الموت لكم. واصطنع اليهود خططا بارعة عديدة للاضرار بقضية الإسلام.
فكان بعضهم يعتنقون الدين الجديد وكل قصدهم ان يخرجوا من حظيرته عددا من المسلمين كبيرا. وما كان في بادئ الأمر حسدا انتهى مع الايام إلى أن يغدو عداوة حقيقية. لقد عرّضوا بالسيدات المسلمات في أبيات من الشعر الفاحش، أيضا. بل لقد انحطوا إلى درك مضايقتهن في الشوارع. وقد أفضت إحدى هذه الحوادث إلى مقتل رجل يهودي وآخر مسلم في شارع بالمدينة، وإلى نشوب قتال حقيقي بين الطائفتين.
وعمد بنو قينقاع، القبيلة اليهودية التي وقع الشر بينها وبين المسلمين، إلى تحذير هؤلاء زاعمين انهم ليسوا مثل قريش، وانهم سوف يلقون على أصحاب محمد درسا قاسيا. وهكذا نقضوا عهدهم، واعتصموا في حصونهم عاقدين العزم على مقاتلة المسلمين. وتعيّن على المسلمين أيضا أن يتأهبوا للحرب، فألقوا الحصار على تلك الحصون. وبعد خمسة عشر يوما انقضت على الحصار استسلم بنو قينقاع وأبدوا استعدادهم لقبول أيما عقوبة يرى الرسول إنزالها بهم، جزاء نقضهم عهده. لقد طلب اليهم أن يجلوا عن المدينة، ففعلوا، واستقروا في [أذرعات] من بلاد الشام. وإنما تم ذلك بعد شهر واحد، تقريبا،
من معركة بدر.
وقامت قبيلة يهودية أخرى، هم بنو النّضير، على الرغم من تعاهدها مع المسلمين، بمفاوضات سرية مع قريش منذ البدء. لقد كتب القرشيون اليها، قبل موقعة بدر، يسألونها قتل الرسول.
والواقع ان بني النّضير هؤلاء دعوا الرسول ذات يوم وحاولوا الغدر به، ولكن محاولتهم أخفقت. وإذ تجلّت خيانتهم من طريق أعمال كهذه لم يعد في طوق الرسول ان يجيز لمثل هذا العنصر الخطر أن يبقى في قلب المدينة من غير ان يعرّض سلامته وسلامة المسلمين للخطر.
وهكذا خيّروا بين تجديد اتفاقهم مع المسلمين كتوكيد لنيّاتهم السلمية، أو الجلاء والاقامة في مكان آخر. وجدّد بنو قريظة، الذين لم يتهموا حتى الآن بأيما عمل جدّي غادر ضد المسلمين، عهدهم عن طيب نفس. ولكن بني النّضير، وكانوا نزاعين إلى الشر والأذى، رفضوا الاقدام على ذلك. ومن ثم أمسوا أعداء للاسلام على نحو صريح.
ووعدهم عبد الله بن أبيّ، أيضا، العون والمساعدة، فزادهم ذلك ثباتا في مقاومتهم للمسلمين. ويتعيّن علينا ان لا ننسى هنا أن الاسلام كان يمرّ آنذاك بمرحلة حرجة جدا من مراحل حياته. كانت هي فترة معركة أحد، عندما تألّب الأعداء من كل صوب وشهروا السلاح لتسديد ضربة قاضية إلى الاسلام. كان الهجوم، يشنّ من الخارج، خطرا من غير ريب، ولكن الانفجار الداخلي المرتقب في كل لحظة كان أشدّ من ذلك خطرا. يقول المثل: الإنذار المسبّق يساوي التسلح المسبّق. وكان هذا ممكنا في حال هجوم خارجي، لما يتيحه للمسلمين من وقت يستعدون خلاله لمواجهة الوضع. أما الانفجار غير المرتقب في المدينة نفسها فخليق به أن يكون طعنة قاتلة توجّه إلى فؤاد الاسلام نفسه. وكان بنو النّضير على صلات ودية مع أعداء الاسلام. وهكذا كان رفضهم تجديد الاتفاق بمثابة اعلان للحرب.
وإلى هذا، فقد كانوا متهمين بمحاولة اغتيال الرسول. ونظرا لهذه الاعتبارات كلها لم يكن أمام المسلمين غير سبيل واحد: أن يعاملوهم معاملة أعداء جاهروا بعداوتهم. وهكذا ألقوا الحصار على حصونهم، ثم رفعوه شريطة أن يجلو بنو النّضير عن المدينة. فشخص بعضهم إلى خيبر واستقروا فيها. وإنما حدث ذلك في السنة الرابعة للهجرة.
ومثّل بنو النّضير دورا هاما في معركة الأحزاب. فبالاضافة إلى تحريضهم بيوتات قريش، راحوا يطوّفون في الصحراء ملمّين بمضارب البدو، يثيرونهم على الاسلام. وتأثر بنو قريظة أيضا، وكان موقفهم من الاسلام حتى ذلك الحين ودّيا، بهذه الحملة الدعاوية. لقد رفض بنو قريظة هؤلاء، أول الأمر، أن يشاركوا في الحرب ضد الاسلام. ولكنهم تلقّوا تأكيدات تفيد أن المسلمين كانوا في وضع يائس لن يتمكنوا معه من البقاء. إنهم لن يستطيعوا، بأية حال، الصمود في وجه الأعداد الضخمة التي نجمت، مثل نبات الفطر، في كل ناحية، للقضاء على الاسلام. ولقد قيل لبني قريظة إنه قد آن لهم ان يختاروا بين الانحياز إلى المسلمين وبين التعاون مع الأحزاب. وهكذا أقنع بنو قريظة بالانضمام إلى صفّ سائر القبائل المعادية للاسلام. فنقضوا عهدهم الذي أعطوه للمسلمين، وتحالفوا مع الاحزاب، واعدين اياهم بأن يسدوا اليهم العون في النزاع المقبل: معركة الاحزاب. والحق أن الميثاق الجديد، برغم أنه عقد سرّا، لم يبق حرفا ميتا. فقد شارك بنو قريظة عمليا في القتال. وإلى هذا يشير القرآن الكريم بقوله: «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً.» *.
__________
(*) السورة 33، الآية 26.
والتاريخ، أيضا، يشهد على اشتراكهم في المعركة. بل لقد بيّتوا خطة للهجوم على نساء المسلمين أيضا. وكان في خيانة بني قريظة- وقد برز في الجانب الآخر من الخندق اربعة وعشرون الف مقاتل متحرقين لسحق الاسلام، وانهمك المنافقون في انزال الاذى بالمسلمين في الداخل- ما زاد في متاعب الرسول وأصحابه إلى حد بعيد. وهكذا رثي، عند انقضاء معركة الاحزاب، ان من المناسب أن تنزل ببني قريظة العقوبة التي يستحقّون، والتي قد تحول دون تكرّر مثل هذه الخيانة الغادرة في المستقبل. ومن ثم ألقى المسلمون الحصار على معاقلهم.
فاستسلموا بعد مقاومة قصيرة. وإنما حدث هذا في السنة الخامسة للهجرة. وقد اختار بنو قريظة بأنفسهم سعد بن معاذ، وكان في ما مضى حليفهم، حكما يعيّن العقوبة التي يستحقون. ولو انهم فوّضوا أمرهم إلى الرسول اذن لعاملهم في أغلب الظن كما عامل أبناء عمومتهم بني قينقاع وبني النّضير. لقد كان خليقا به ان يحكم عليهم، في أسوأ الأحوال، بالنفي من المدينة. ولكن سعدا، الحكم الذي اصطفوه هم، كان ينظر إلى غدرهم الخطر، في لحظة الحرج، باشمئزاز بالغ. لقد ارتأى أن عظم الاذى الذي أنزلوه بالمسلمين يقتضي عقوبة نموذجية بدونها لن تحظى المواثيق، في المستقبل، إلا باحترام ضئيل، وقد يعتبرها أيّ من الفريقين المعنيّين عندئذ قصاصات ورق لا قيمة لها. ومن هنا انتهى إلى هذا القرار: ان جزاءهم العادل يجب ان لا يكون، بأية حال، أخفّ من تلك التي قضى بها كتابهم المقدس، العهد القديم، في حقّ العدو المهزوم. وهذا ما يقضي به «العهد القديم» في هذا الصدد:
«وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف. وأما النساء والاطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة اعدائك التي أعطاك الرب الهك.» (سفر
التثنية، 20: 13- 14)
وهكذا حكم سعد، وفقا للشريعة الموسوية، بقتل ذكور بني قريظة، وعددهم ثلاثمئة، وبسببي نسائهم وأطفالهم، وبمصادرة ممتلكاتهم. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية فقد كانت على وجه الضبط العقوبة التي كان اليهود ينزلونها، تبعا لتشريع كتابهم المقدس، بالمغلوبين من أعدائهم. وإلى هذا فأن جريمة الغدر الشائنة التي اتّهم بها بنو قريظة خليق بها، في مثل تلك الظروف، أن لا تجازى بأيما عقوبة أخفّ، حتى في عصر المدينة هذا. كان القاضي من اختيارهم، وكان الحكم منطبقا أشدّ انطباق مع شريعتهم المقدسة نفسها. وفوق ذلك، فقد أدينوا بخيانة من نوع خطير. فهل من المنطق في شيء أن ينتقد الرسول لهذا السبب؟ ان كل اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو اعتراض على الشريعة الموسوية. إنه في الواقع انتقاد لا شعوريّ لتلك الشريعة، وتسليم بأن شريعة أكثر انسانية يجب أن تحلّ محلّها. وأيما مقارنة بالشريعة الاسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف، في وضوح بالغ، أيّ قانون رفيق، عطوف، رحيم قدّمه الاسلام إلى الناس.
أما موقعة خيبر فقد حدثت بعد صلح الحديبية، في السنة السابعة للهجرة، ولكنا لا نحسب، بقدر ما يتعلق الأمر بأثرها في العلاقات الاسلامية اليهودية، أن من الخروج على الموضوع أن نتحدث عنها في هذا الفصل. فحين نفي بنو النّضير من المدينة، نزلت كثرتهم الكبرى، وبخاصة زعماؤهم وأعيانهم، في خيبر، معقل اليهود في بلاد العرب، على مبعدة مئّي ميل، تقريبا، من المدينة. وكان اليهود ينعمون ثمة بسلطان مستقلّ، وكانوا قد حصّنوا الموقع تحصينا قويا. حتى إذا وفد عليهم بنو النّضير غرست بذرة العداوة للاسلام في قلوبهم. وما إن نشبت معركة الأحزاب حتى راحوا يحرّصون
المكيين، وقبيلة غطفان، والقبائل البدوية، على المسلمين؛ بل لقد وفّقوا إلى اكتساب تعاون بني قريظة أيضا. ورسخت جذور القوة الاسلامية في المدينة بعد اخفاق حملة الأحزاب. ولكن الحقد اليهودي لم يزدد إلا ضراوة. لقد أجروا مفاوضات سرية مع عبد الله ابن أبيّ، زعيم المنافقين، الذي أكّد لهم توكيدا جازما انه لا يزال في امكانهم سحق القوة الاسلامية. وفي العام السادس للهجرة منع المكيون الرسول من أداء فريضة الحج، وتعيّن عليه ان يعقد معهم صالحا بشروط مذلّة بعض الشيء. وكان في هذا ما مكّن في نفوسهم الاعتقاد باضمحلال قوة الاسلام، فراودتهم آمال جديدة في القضاء على المسلمين نهائيا. عندئذ شرعوا يتآمرون كرة أخرى مع قبيلة غطفان، رجاة تسيير حملة جديدة على المدينة. وبلغت الرسول أنباء ما بيّتوه، حتى إذا تبيّن الأمر واستوثق من صحته، سيّر إلى خيبر قوة مؤلفة من الف وستمئة مقاتل. وعلى منتصف الطريق بين خيبر ومنازل غطفان يقع موطن يعرف بالرّجيع. ولاعتبارات استراتيجية اختير الرّجيع قاعدة للهجوم، إذ كان يقطع كل اتصال بين الموطنين.
وهكذا لم يعد في امكان اليهود ان يرتقبوا أيما عون من غطفان. ليس هذا فحسب، بل ان غطفان- التي وعت خطورة ما أقدمت عليه- خشيت أن يشن المسلمون عليها هجوما، فهي من نفسها في شغل شاغل. لقد ظنّ أن اليهود سوف يتخلون عن فكرة المقاومة، ويجنحون إلى الاستسلام. حتى إذا تقدم المسلمون إلى خيبر تبدّى ان اليهود كانوا قد اتخذوا استعدادات كاملة لخوض معركة ضارية مع المسلمين.
وبدأ القتال. ووفّق المسلمون إلى احتلال عدد من حصون اليهود، أما حصن «القموص» ، وكان منيعا جدا يحميه عدد من الرجال وافر، فامتنع عليهم. والواقع انه صمد لهجماتهم نحوا من عشرين يوما، ولم يسقط إلا بعد أن حمل عليه عليّ بن أبي طالب حملة ضارية.
ثم ان اليهود استسلموا، وطلبوا أن يبقيهم الرسول على أراضيهم شرط أن يقدّموا إلى المسلمين نصف ثمرها. فأجابهم الرسول إلى ما طلبوا، وأجاز لهم الاحتفاظ بأراضيهم، برغم ثقته من انهم لن يحجموا عن انزال الاذى بالمسلمين [حين تتاح لهم الفرصة] . وبعيد عقد هذه التسوية مباشرة، ائتمر زعماء اليهود بالرسول*، وحرّضوا زينب [بنت] الحارث [بن ابي زينب] ، وكانت زوجة [سلّام بن مشكم] الذي قتل في المعركة، على ان تدعو الرسول إلى طعام مسموم. ولكن العناية الالهية اشعرت الرسول بما بيّت له من غدر، فلم يكد [يلوك مضغة من الشاة المسمومة] حتى لفظها [وهو يقول:
«إن هذا العظم ليخبرني انه مسموم» ] ، في حين أساغ أحد أصحابه، بشر بن البراء، ما طعم من الشاة وازدرده فمات من اثر السمّ.
والحق أن المسلمين عاملوا بني النّضير بعد ذلك معاملة سمحة، ولكن ما فطروا عليه من غدر ونزوع إلى الاذى جعلهم في نجوة من التأثر بتلك المعاملة السمحة، فلم تنطفئ في قلوبهم نار العداوة للاسلام.
لقد ظلوا مصدر ازعاج للمسلمين سرمديّ، فلم يكفّوا يوما عن التآمر عليهم وعن ايذائهم على نحو خسيس. ولقد واصلوا مؤامرانهم تلك حتى خلافة عمر بن الخطاب. وذات يوم قذفوا بابن عمر نفسه، عبد الله، من سطح بيت من البيوت. وإذ اثبتت الأيام اخفاق كل محاولة من المحاولات التي قام بها المسلمون لتألّفهم، نفوهم آخر الأمر إلى بلاد الشام.
بيد ان الرسول حاسن يهود خيبر وعاملهم معاملة رحيمة. لقد بذل قصارى جهده لتألّفهم. وكان خليقا بالمحاولة التي قاموا بها لتسميمه أن تبرّر اتخاذ أقسى الاجراآت ضد الشعب اليهودي كله.
ولكنه كان شديد الحرص على ان يراهم متحدين مع المسلمين برباط
__________
(*) ائتمروا به: هموا به وأمر بعضهم بعضا بقتله
من المودة والصداقة. ومن هنا لم ينزل بهم أيما عقوبة. لقد اجتزأ بانزال عقوبة الموت بزينب وحدها، التي كانت الاداة المباشرة لتنفيذ تلك الجريمة الحقيرة، وهذه أيضا إنما قتلت في بشر الذي مات مسموما. وعفا الرسول عن المتآمرين- والشعب اليهودي كله تورّط في المحاولة الشنيعة- وتركهم ينعمون بالأمن والسلام. لقد استحقوا كلهم عقوبة الموت، ولكن الرسول رجا أن يفضي العفو إلى تغيير موقفهم المعادي. وبالاضافة إلى هذا كله، قام بخطوة أخرى في سبيل الصداقة معهم. فقد كان بين السبايا التي أخذها المسلمون [من حصون خيبر] صفيّة ابنة زعيم بني النّضير [حييّ بن أخطب] .
فأعتقها الرسول وتزوّجها. ولقد زعم الزاعمون أن المسلمين غنموا عند فتحهم خيبر كنوزا أسطورية. ولكن هذه المزاعم كلها لا تعدو أن تكون حكايات خيالية في إمكان الباحث أن يدرك مقدار صحتها أحسن ما يكون الادراك إذا علم ان الرسول، يوم بنائه بصفية، لم يجد ما يمكّنه من دعوة أصدقائه، جريا على مألوف العادة، إلى وليمة عرس. ومن أجل ذلك سئل كل من الصحابة أن يحمل معه طعامه.
فتشكّلت من مجموع هذا كله وليمة العرس. وكان ما وضع أمام الجماعة لا يعدو التمر ومسحوق الشعير. على هذا النحو احتفل بزواج ملك منتصر من أميرة!