«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ «أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ «تَشْكُرُونَ.»
(القرآن الكريم، السورة 3، الآية 122)
لم يلق المسلمون، منذ أن استقروا في المدينة، أيما مضايقة تحول بينهم وبين إقامة شعائرهم الدينية. فأنشئت المساجد، وأذّن للصلاة في حرية، ولكن على القارئ أن لا يفهم من هذا ان العداوة للاسلام قد امّحت. ففيما تمتّع المسلمون بكامل الحرية الدينية ضمن أسوار المدينة كانت نار الحقد ما تزال تتقد، بالعنف نفسه، في قلوب المكيين. كانت العداوة لا تفتأ تزداد حدّة وانتشارا. وليس ذلك بعجيب، فيوم هاجرت عصبة صغيرة من المسلمين إلى الحبشة استبدّ الحقد بقريش إلى حد جعلها لا تدعهم وشأنهم هناك، فتعقّبتهم حتى بلاط النجاشي نفسه لكي تقضي عليهم قضاء مبرما. أما وقد استقر
الرسول والمسلمون الآن آمنين في المدينة، وأخذوا يكتسبون سلطانا ونفوذا متعاظمين على نحو مطّرد، فطبيعيّ أن تعجز قريش عن الوقوف مكتوفة اليدين.
وكان عبد الله بن أبيّ- أحد وجوه المدينة البارزين- يتمتّع بنفوذ ضخم هناك. وقبل هجرة الرسول كان أهل المدينة يعتبرونه سيّدهم الأعلى. فغير مستغرب ان يستشعر هذا الرجل، حين وفد الرسول على المدينة ليكسف شخصيته، حسدا للمسلمين وحقدا عليهم. وحرّضته قريش أيضا على طرد المسلمين من هناك. ولكن عددا كبيرا من أفراد قبيلته كانوا قد انضووا تحت راية الاسلام.
ومن هنا كان خليقا بكل محاولة لمقاومة الرسول على نحو علنيّ أن تفضي إلى نشوب حرب أهلية بين أبناء شعبه. حتى إذا خابت آمال قريش في عبد الله بن أبيّ شرعت تحرّض سكان الرقعة الممتدة ما بين مكة والمدينة على الرسول والمسلمين. وكان القرشيون، بوصفهم سدنة الكعبة المقدسة، يتمتعون بالاحترام في بلاد العرب كلها. وهكذا كانوا في وضع يمكّنهم من ان يفرضوا على القبائل إرادتهم وسلطانهم إلى حدّ غير يسير. والحق ان نجاح الدعاية القرشية بين هذه القبائل حمل المسلمين على أن يأخذوا حذرهم من جديد. فقد كانوا محاطين بالاعداء من أقطارهم جميعا، وحتى ضمن جدران المدينة الاربعة تكوّن ضدهم تيار معارضة خفيّ عميق كان عبد الله بن أبيّ هو مطلقه. وعلى الرغم من الميثاق فلم يكن في مستطاع المسلمين ان يثقوا باليهود. لا، ولم يكن في امكانهم الركون إلى عبد الله بن أبيّ. وهكذا استشعر المسلمون قلقا بالغا على سلامتهم. لقد خافوا، أن يأتيهم الهجوم، كل لحظة، من خارج، وأن تفجأهم الخيانة من داخل.
وكان من دأب بعض المفارز القرشية الصغيرة أن تنطلق في حملات سلب ونهب وأن تطوّف في البلاد حتى أرباض المدينة نفسها. وذات
مرة، اختطفت مفرزة قرشية بعض الإبل من مراعي البلدة بالذات.
والواقع ان قريشا كانت- منذ الهجرة- تتطلع في لهفة إلى فرصة سانحة تمكّنها من ايقاع الأذى بالمسلمين والقضاء على الاسلام بحدّ السيف. وكانوا قد اتخذوا الاستعدادات كلها لغزو المدينة. وكان الموقف يقتضي المسلمين حذرا ويقظة بالغين. وكان الوحي الالهي قد نزل على النبي، مجيزا استلال السيوف من أغمادها دفاعا عن النفس. وكلمات القرآن الكريم في هذا الصدد ذات مغزى، وهي تستحق انتباها واعيا من النقّاد، الذين وصموا الاسلام، في مناسبة وغير مناسبة، بأنه دين السيف. يقول القرآن الكريم: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.» * ويقول في موضع آخر: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.» **
وهكذا فأن الحرب مقيّدة بشرطين اثنين: يجب، أولا، ان لا تشنّ إلا ابتغاء الدفاع عن النفس. ويجب، ثانيا، أن تضع أوزارها لحظة تزول الضرورة التي دعت اليها. واذن فليس في استطاعه المسلم، وفقا لوصايا القرآن الكريم، ان يمثّل دور معتد في معركة. إن عليه أن ينتظر حتى يضرب العدوّ الضربة الاولى. هذا في ما يتصل بالبدء في القتال، وفي ما بعد يتعين عليه- في كل مرحلة من مراحل الحرب- أن يعتصم بضبط النفس الكامل، بحيث لا يكاد العدو يجنح للسّلم حتى يجنح هو لها، معلقا أعمال العنف في الحال. إن عليه ان لا يعدو الحدود.
ومن هنا كان على الرسول، كأجراء من اجراآت الدفاع عن النفس، ان يصطنع بعض الطرائق والوسائل على سبيل الوقاية. كانت
__________
(*) السورة 22، الآية 39.
(**) السورة 2، الآية 190.
الضرورة تقضي، في تلك الظروف، أن يفوز بمعلومات دقيقة عن خطط قريش وتحرّكاتها. وكانت الحاجة ماسّة إلى اقامة علاقات ودّية مع مختلف القبائل البدوية النازلة في جوار المدينة. وتحقيقا لهذين الغرضين وجّه الرسول زمرا استطلاعية صغيرة لمراقبة حركات العدوّ،
وللاتصال ببعض القبائل ضمانا لحيادها. ومن يدري، فقد يكون خليقا بمثل هذا التدبير الوقائي أن يفضي إلى كبح نيّات العدوّ العدوانية. كان على هذا العدو ان يدرك ان المسلمين غير غافلين، وعندئذ يفكّر مرتين قبل أن يخطو أية خطوة مشؤومة. وخليق بهذا أيضا أن يثير مخاوف القرشيين على تجارتهم الشامية التي كانت قوام ازدهارهم الاقتصادي كله. فقد كان في موقع المدينة، على طريق التجارة من مكة إلى الشام، ما يعرّض قوافلهم لخطر عظيم في حال توتّر العلاقات بينهم وبين المسلمين. وكان المسلمون يرجون أن يكون ذلك فعالا في تعطيل نيات عدوّهم العدوانية ولو مؤقتا. ولقد كان هذا بالذات هو جوهر التحذير الذي وجّهه سعد بن معاذ [الأشهليّ] ، وهو من الانصار، إلى القرشيين في موسم من مواسم الحج. فقد توعّده ابو جهل بأنه لو لم يكن في حمى رجل بعينه لما نجا من الموت، فردّ عليه سعد بقوله إن طريق التجارة المكية إلى الشام سوف تعترض إذا ما حيل بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج. وهكذا أوعز إلى الزّمر الاستطلاعية أن تجتنب الاستفزاز وكل ما يثير النزاع.
وأدّت المفاوضات المشار اليها آنفا إلى تفاهم عدد من القبائل المجاورة مع المسلمين، على الرغم من انها كانت تعبد الأوثان كالمكيين سواء بسواء. وهذه العهود كانت، كما ينبغي أن نلاحظ، ذات صفة دفاعية خالصة. فقد نصّ العهد الذي عقدة الرسول مع بني حمزة على ان أرواحهم وممتلكاتهم سوف تكون آمنة، وانه إذا ما هاجمهم عدوّ ما سارع المسلمون إلى نصرتهم، إلّا أن تكون حربا دينية. وانهم سوف
يهرعون لنصرة الرسول حين يدعون إلى ذلك.
واتفق في أواخر جمادى الثانية، من السنة الثانية للهجرة، ان بعث الرسول إحدى تلك الزّمر [أو السرايا] بقيادة عبد الله بن جحش.
ودفع إلى عبد الله هذا كتابا وأمره أن لا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره [فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا.] حتى إذا فتح عبد الله الكتاب كما أمر، بعد يومين اثنين وجده يقول: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة* فترصّد بها قريشا وتعلّم لنا من أخبارهم.» لقد كان ذلك مجرد اجراء وقائي، خشية أن يأخذ العدوّ المسلمين على حين غرّة. فلم يكن في الامكان ان يكون ثمة أيما حافز آخر، أيما نية في الهجوم على مكة. فقد كان المسلمون أضعف من أن يفكروا بأيما خطة مماثلة. وكان النبي مسؤولا عن سلامة الجماعة الاسلامية الصغيرة. ومثل أي قائد عسكري بارع، أدرك الرسول أهمية مراقبة حركات العدوّ.
حتى إذا وصل عبد الله بن جحش إلى نخلة، وفقا لتعليمات الكتاب المختوم، مرّت به عير لقريش في طريق عودتها من الشام. وخلافا لأوامر الرسول انصريحة انقضّ عبد الله على اولئك التجار القرشيين، فقتل [عمرو] بن الحضرميّ، وأسر اثنين من رفاقه. حتى إذا تسامع الرسول بالنبأ عنّف عبد الله لمخالفته أوامره تعنيفا شديدا. وهكذا أتيحت لقريش، التي تلهّفت على ذريعة تتذرّع بها، تلك الفرصة التي طالما انتظرتها لاطلاق العنان لغيظها. وما كان لحادثة عرضية، مثل مقتل ابن الحضرميّ، أن تثير- في الاحوال التي سادت المجتمع العربي آنذاك- اهتماما بالغا. فقد كانت، في الواقع، حادثة مبتذلة يقع نظيرها كل يوم. وكان العرف المتّبع في جميع الحالات المماثلة هو طلب الدية. ولكن قريشا كانت تبحث عن ذريعة تثير بها حفيظة
__________
(*) موضع بين مكة والطائف. (المعرب)
الجمهور على المسلمين، فاذا بمصرع ابن الحضرمي يقدّم اليها هذه الذريعة. لقد سلخت نحوا من شهرين في اتخاذ الاستعدادات الضرورية، ثم هاجمت المدينة في شهر رمضان من السنة الثانية. وهكذا حدث ما يعرف في تاريخ الاسلام بمعركة بدر.
ولقد شاءت المصادفة ان تكون إحدى قوافل قريش التجارية، بقيادة ابي سفيان، عائدة في ذلك الحين من الشام. وكان ابو سفيان قد بعث إلى مكة، قبل مسيره، رسولا [هو ضمضم بن عمرو الغفاري] يستنفر قريشا لحماية القافلة. وقاد هذا إلى اعتقاد لا مبرّر له بأن المسلمين راغبون في اعتراض القافلة، ومن ثم نشبت معركة بدر. وهذه الفكرة لا أساس لها من الصحة البتة. فقد مرّت هذه القافلة نفسها بالمدينة، في طريقها إلى الشام، من غير ان يتعرض لها احد منهم بسوء. ليس هذا فحسب، بل ان الزعماء القرشيين- في جميع محاولاتهم لتحريض الناس على الهجوم، وخلال استعداداتهم كلها من أجل ذلك- لم ينبسوا بكلمة تشير إلى الخوف المزعوم على سلامة القافلة. فقد كان مصرع ابن الحضرمي هو الحادثة الوحيدة التي استغلوها لاثارة اهتياج عارم يغري القوم بالانتقام. وإلى هذا، فقد كانت القافلة، بعد أن انحرفت عن طريقها المألوف، وساحلت البحر، قد بلغت مكة في سلام، قبل أن يلتقي الجمعان في بدر. واذن، فمن الافتراء المحض ان ينسب إلى المسلمين أيّ من مثل هذه الدوافع. لقد كان تشوّف قريش الموصول إلى سحق قوة الاسلام النامية هو السبب الأوحد الذي قاد إلى نشوب المعركة. والواقع ان المسلمين جرّوا اليها جرا. ومجرد الحقيقة القائلة بأن القوة الاسلامية لم تزد على ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتلا، في جملتهم الغلمان، وكلهم مسلّحون تسليحا رديئا، يظهر أنهم كانوا أبعد ما يكونون عن التفكير في التصدّي لقوة مؤلفة من ألف رجل مزودين بالسلاح الكامل. وقد صوّر القرآن الكريم ما كان يجول في خلد
المسلمين عندما دعوا إلى الصمود دفاعا عن أنفسهم فقال: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.» * كان كثير منهم- كما يقول القرآن الكريم- يجدون في ذلك عنتا بالغا، معتقدين أنهم يدفعون إلى أشداق الموت دفعا.
ومع ذلك فقد كان عليهم ان يضربوا ضربة ما، دفاعا عن النفس.
ودعاهم الرسول، وشرح لهم الموقف، فلم يكن لهم مندوحة عن خوض غمار القتال ضد عدوّ مصمّم على أن يوجه إلى وجودهم نفسه ضربة قاضية. وكان الانصار قد عاهدوا الرسول على ان يمنعوه ضمن أسوار المدينة ليس غير، ولكن الموقف كان يفرض على المسلمين، الآن، ان يلقوا عدوّهم قبل أن يهاجم المدينة. ومع ذلك، فما ان استشارهم الرسول ليعرف وجهة نظرهم، حتى وجدهم على اتمّ الاستعداد للسير من ورائه، وللوقوف في صفّه بالغا ما بلغت المحنة من القسوة. وهكذا خرجت هذه العصبة الصغيرة من المسلمين- المعبّأة على عجل، المسلّحة تسليحا سيئا- وسارت نحو الطريق المفضية إلى مكة، لكي تصدّ غارة قريش. فقد كان من الخطل ان يتركوا لهب القتال يدنو من بيوتهم في المدينة. حتى إذا بلغوا بدرا، وهو موضع سمّي على اسم ماء فيه، ألفوا قريشا معسكرة هناك قبلهم. فعسكروا بدورهم.
ومن حيث العدد كانت القوة الاسلامية لا تكاد تبلغ ثلث القوة
__________
(*) السورة 8، الآية 5- 7.
القرشية. وإلى هذا، فقد كانت الأخيرة مؤلفة من محاربين مدربين بارعين، على حين كان المسلمون قد حشدوا حتى الشبان الذين لا خبرة لهم بالحرب ولا مراس. واذن، فلم يكن المسلمون- لا من حيث العدد ولا من حيث القوة والبراعة- أندادا لعدوّهم. وهذا ما أورث الرسول أعظم القلق. فانقلب إلى عريش كانوا قد بنوه له وابتهل إلى الله بعينين دامعتين قائلا: « [اللهمّ هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذّب رسولك، اللهمّ فنصرك الذي وعدتني] . اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!» وبعد أن [هتف بربّه مادّا يديه مستقبلا القبلة] خرج إلى الناس متهلل الوجه وجهر بتلاوة الآية القرآنية التي تقول، وكانت قد أنزلت اليه قبل ذلك بفترة غير يسيرة: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.» *
أما قريش فكانت قد خرجت بالسلاح الكامل. وعملا بالوصية القرآنية أحجم المسلمون عن الهجوم، ريثما يضرب العدو الضربة الأولى.
وأخيرا خرج من صفوف المكيين ثلاثة من أبطال قريش [هم عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس، وابنه الوليد، وأخوه شيبة] فطلبوا من يخرج للقائهم من صفوف المسلمين. وكانت العادة المتّبعة في الحروب العربية، في تلك الأيام، تقضي بأن يفتتح القتال بمبارزات فردية. وهكذا قبل التحدي ثلاثة من المسلمين [هم حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة ابن الحارث بن المطلب، وعليّ بن ابي طالب] ، فخرجوا لمبارزتهم [فكان عبيدة بأزاء عتبة، وعليّ بأزاء الوليد، وحمزة بأزاء شيبة] .
واتفق ان صرع الابطال القرشيون الثلاثة في المبارزة. وعقب ذلك بضع مبارزات أخرى، وسرعان ما أمسى القتال عاما. لقد حمل القرشيون على المسلمين، ولكن هؤلاء ثبتوا لهم، وردّوهم على أعقابهم.
__________
(*) السورة 54، الآية 45.
وهنا حدثت ظاهرة رائعة من ظواهر العون الالهي. فقتل في المعركة أقطاب قريش كلهم تقريبا، زعماء الحملة المهلكة ضد الاسلام. ولقي أبو جهل حتفه بأيدي شابّين من الأنصار. وكانت جملة قتلى قريش في المعركة سبعين. حتى إذا رأى القوم إلى رؤسائهم وزعمائهم يسقطون صرعى، دبت الفوضى في صفوفهم وولّوا الأدبار. فطاردهم المسلمون وأسروا منهم نحوا من سبعين. أما شهداء المسلمين فلم يزيدوا على اربعة عشر.
إن وقعة بدر لتمثل مشهدا فاتنا للعون الالهي لعله كان فريدا، من ناحية واحدة، في تاريخ الحرب كله. فكثيرا ما يحدث أن يوفّق جيش قليل العدد نسبيا ولكنه حسن التجهيز مؤلف من جنود بواسل يمتازون بانضباطيّتهم وببراعتهم في اصطناع السلاح ... أقول كثيرا ما يحدث أن يوفق مثل هذا الجيش إلى ايقاع الهزيمة بمجموع تفوقه عددا ولكن تعوزها مزايا متكافئة. بيد ان الذي يجعل وقعة بدر فريدة على نحو رائع هو أن وجوه الضعف كلها اجتمعت في ناحية، ووجوه القوة كلها اجتمعت في الناحية المقابلة. كان عدد أفراد الجيش القرشي ثلاثة أضعاف المسلمين الذين شهدوا تلك المعركة. وكان الموقع الذي احتله ذلك الجيش خيرا من موقع المسلمين. وكانت صفوفهم تضمّ جنودا أولي شهرة وصيت ... جنودا كان القتال حرفتهم التي احترفوها عمرهم كله. والسلاح أيضا كان موفورا في أيديهم بل أكثر من موفور. وكان كل منهم يلتئم بدرع سابغة. وكان فيهم مئة فرس عليها مئة فارس، وسبعمئة بعير. فما كانت قوة المسلمين؟ كان عددهم ثلث عدد عدوّهم. وكانت صفوفهم تضمّ نفرا من الفتيان الذين لم يبلغوا الحلم بعد، ومن المهاجرين الطاعنين في السن، وبعض الأنصار المدينيين، وكلهم ليسوا بأكفاء للمكيين المولعين بالحرب. فما كان عدد فرسانهم وجمالهم؟ فارسين وسبعين بعيرا ليس غير. وفي ما يتصل
بالعدد لم يكن ثمة مجال للمقارنة البتة. وهكذا قذف بالضعف المطلق في وجه القوة الغامرة. ولكن اليد الالهية امتدت لنصرة الضعفاء، نافخة في قلوبهم قوة- قوة غير قوة العدد أو العدّة أو السلاح- فاذا بالقوة الدنيوية تمنى بالهزيمة. وإلى هذه الظاهرة يلفت القرآن الكريم الانتباه في الآية التالية: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ.» *
وأحسن المسلمون معاملة أسراهم، فأعجب كثير منهم بنبل الروح الاسلامية. وتذكّر أحدهم، حينما اعتنق الاسلام بعد، حسن المعاملة التي لقيها في الأسر، وحدّث بها معترفا بالجميل. لقد روى قائلا إن الذين عهد اليهم بالعناية بأمره قدّموا اليه خير ما في المنزل من طعام، على حين اجتزأ افراد الاسرة بالرّطب وما اليه يأكلونه. وعلى الرغم من أن حالة الحرب لم تكن قد زالت فقد أعيد الاسرى إلى أهلهم لقاء فدية افتدوهم بها. اما الفقراء الذين لم يجدوا ما يفتدون أنفسهم به فقد أطلق سراحهم من غير فدية. لقد سئل كل من القادرين على القراءة والكتابة ان يعلّم عشرة من أطفال المسلمين، واعتبر هذا الصنيع من جانبهم بمثابة فدية تكفل لهم حريتهم. والحق ان التنازل عن اربعة آلاف درهم كفدية مالية لكل أسير والاستعاضة عنها بتعليم القراءة والكتابة اطفال المسلمين، لينهض دليلا قويا على ما كان للعلم من قيمة في عيني الرسول. إنه لم يعامل العدوّ المهزوم معاملة خشنة البتة. ولقد كانت هي أول فرصة أتيحت للمسلمين، بعد الآلام الطويلة المريرة التي قاسوها على أيدي القرشيين، للانتقام من عدوّهم، لو
__________
(*) السورة 3، الآية 13.
شاؤا. وكان بين الاسرى واحد [هو سهيل بن عمرو، وكان خطيبا] يتمتع بفصاحة بالغة اصطنعها في غير ما إبقاء، يوم كان في مكة، لاثارة الناس على الاسلام. [وكأنما عزّ على عمر بن الخطاب ان يفتدى وينجو من غير أن يصيبه مكروه] فقال: يا رسول الله دعني أنزع ثنيّتيه [فيدلع لسانه*] فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.
فأجابه الرسول: «لا أمثّل به فيمثّل الله بي [وإن كنت نبيا] » .
وإنما كانت معركة بدر، من ناحية، ضربة قاضية وجّهت إلى قوة قريش، على حين أنها رسّخت، من ناحية ثانية، جذور الاسلام. وإلى هذا، فقد خلفت أثرا رائعا في نفوس اليهود، وفي نفوس القبائل البدوية المجاورة أيضا. لقد قالوا في ذات أنفسهم: كيف تأتّى للمسلمين ان يهزموا مثل هذا الجمع العظيم؟ لا ريب في ان الله قد أيدهم بروح منه. ثم إنهم دهشوا إذ رأوا كيف صرع ألدّ أعداء الاسلام في غير ما استثناء. أليس في ذلك ما يؤذن بأن يد الله قد عملت عملها؟ وثمة حقيقة أخرى ماتعة في معركة بدر، وهي ان الرسول كان في قلب الميدان يبتهل إلى الله بعينين دامعتين، على حين كان ابو جهل، من ناحية أخرى، يبتهل إلى الله أيضا أن يهزم أيا من الفريقين المتناحرين كان مسؤولا عن قطع صلة الرحم وعن البلاء المتطاول. وحتى قبل ان يفصل القرشيون من مكة، كانوا قد ضرعوا إلى الله في الكعبة أن ينصر من كانوا عن الحق. وهكذا كانت نتيجة معركة بدر، إذا جاز التعبير، حكما إلهيا على الباطل. لقد حظيّ الحقّ بالتأييد الالهي فانتصر. لقد أحبطت خطط العدو، بينا وجد المسلمون في إحباطها مصداقا للوعود الالهية التي أكدت لهم، طوال
__________
(*) دلع لسانه: خرج من فمه.
هذه السنوات الاثنتي عشرة، أن الحق لا بدّ أن يسود آخر الأمر.
فخلال فترة المحن والبلايا المتطاولة كانوا قد تلقّوا عزاء الهيا مفاده ان كل مقاومة [قريش] سوف تنهار، وان الاسلام سوف يخرج من الصراع منتصرا. وها هم الآن يرون إلى ما كانوا قد آمنوا به ايمانا راسخا يصبح حقيقة واقعة، فاذا بعدالة قضية الاسلام تتجلى لأعينهم كالشمس في رائعة النهار.
الفصل السّادس عشر معركة أحد
«وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ «الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.»
(القرآن الكريم، السورة 3، الآية 139)
كانت هزيمة بدر عارا ما كان لكرامة قريش أن تسكت عليه.
فقد أنزلت بهم عصبة المبتدعين الصغيرة، المحتقرة، السيئة السلاح ضربة ما حقة. واذن، فقد كان الانتقام هو كلمة السر في ارجاء مكة كلها. وإذ كان زعماء قريش كلهم قد سقطوا صرعى في بدر، فقد انتخب ابو سفيان زعيما، وأخذ على نفسه عهدا غليظا ليغسلنّ عار بدر. وانعقد رأي قريش على ان يخصص ربح القافلة التي عادت من قريش برئاسة ابي سفيان، يوم بدر، لحملة الثأر المبيّتة. وحشد جيش مؤلف من ثلاثة آلاف مقاتل، بعد اثني عشر شهرا انقضت على هزيمة بدر، فيهم مئتا فارس مسلح، وسبعمئة بطل مسلح. وأجيز للنسوة أيضا ان يرافقن هذا الجيش، لكي يثرن حماسة الجند بأناشيدهن
الحربية. وهكذا زحف القرشيون، في السنة الثالثة للهجرة، نحو المدينة، وفي يوم الخميس، التاسع من شوال، عسكروا عند سفح أحد، وهو جبل يقع على مبعدة ثلاثة أميال من المدينة. ثم انهم استولوا على مراعي المدينة. لقد حصدوا محاصيل خصبة وقدّموها علفا لخيلهم، وأطلقوا إبلهم ترعى الحقول وتعيث فيها فسادا.
وفي اليوم التالي، الجمعة، العاشر من شوال جمع الرسول صحابته ليتدارسوا أفضل السبل لمواجهة الموقف. وكان من عادته أن يشاور أصدقاءه قبل الاقدام على أيما عمل خطير. وقصّ عليهم بعض رؤاه.
كان قد رأى، في ما يراه النائم، ان طرف سيفه قد ثلم. وأوّل ذلك بأنه نذير بأذى سوف يصيب شخص الرسول. ورأى أيضا انه لبس درعا. وأوّل ذلك بأن من الخير للمسلمين ان يلزموا حصون المدينة لا يغادرونها. وكانت ثمة رؤيا ثالثة ذبحت فيها بعض الثيران، فأوّلت بأن الأذى سوف يصيب أتباعه. واستنادا إلى هذه الرؤى، ذهب الرسول إلى ان عليهم ان لا يغامروا بالخروج للقاء العدو [حيث نزل] ، مؤثرين البقاء ضمن أسوار المدينة وردّ هجمات القرشيين عليها. وأقرّه على رأيه هذا أصحاب السن العالية والعقل الراجح من صحابته. حتى عبد الله بن أبيّ، الذي كان قد اعتنق الاسلام رياء ونفاقا بعد معركة بدر، قال بالرأي نفسه. ولكن الكثرة، المؤلفة في المقام الأول من شبان متقدين حماسة، مالوا إلى الخروج لمقارعة العدو في معركة ناضحة بالرجولة والشجاعة. وكانت حجتهم ان التحصن بالمدينة قد يحمل على محمل العجز والضعف وقد يجرّىء العدوّ عليهم. وإلى هذا، فقد كان مما يجرح احترامهم الذاتي أن يروا إلى حقولهم يعاث فيها فسادا دون أن يحركوا ساكنا. ومراعاة من الرسول لرأي الاكثرية أخذ بوجهة نظرهم، ولبس لأمته*، وفصل من المدينة قبيل المغيب
__________
(*) درعه.
على رأس الف مقاتل لم يكن بينهم غير فارسين اثنين ومئة رجل مسلح.
وقضى المسلمون الليل على مبعدة من المدينة يسيرة، ثم استأنفوا تقدمهم في اليوم التالي مع الفجر. ولم يكد عبد الله بن أبيّ يلمح العدوّ حتى انخذل مع رجاله الثلاثمئة، منقصا بذلك مجموع المقاتلين المسلمين إلى سبعمئة كان عليهم ان يواجهوا عدوا عدد رجاله أربعة أضعاف عددهم. وحتى هؤلاء لم يكونوا، بأية حال، بارعين في فنون القتال.
كانت قوتهم الوحيدة كامنة في تفانيهم في الدفاع عن الحق. وكانت الحماسة قد أشربت قلوب الطاعنين في السنّ عزم الشباب وهمّتهم.
وكذلك أشرب من لم يبلغوا الحلم بعد مثل هذا العزم وتلك الهمة.
ويروى أن احد الغلمان تطوّع للقتال فرفض القوم قبوله لصغر سنه، فما كان منه إلا ان تمطّى ووقف على رؤوس اصابعه لكي يبدو أطول قامة. وأيا ما كان، فقد كفلت له حماسته مكانا بين صفوف المقاتلين.
وتقدّم غلام آخر في مثل سنه مؤكدا حقه في الاشتراك في القتال.
وألحّ قائلا ان في استطاعته، لو صارع زميله ذاك، أن يطرحه أرضا. فأتاحوا له فرصة يثبت فيها صدق دعواه، حتى إذا وفّق إلى جندلته أجابوا سؤله. وبعد ذلك تقدّم رجل طاعن في السن، لم يبق له في هذه الدنيا غير أيام معدودات، وقال: «انا، يا رسول الله، على قاب قوسين من القبر. فما أعظمه من مجد ان أختم حياتي بحمل السلاح دفاعا عن رسول الله!» وهكذا حشد المقاتلون السبعمئة، وقد استعاضوا عن القوة والبراعة بحماستهم العارمة للقضية الأثيرة على قلوبهم. ومثل قائد بارع، تقدّم الرسول للقاء الأعداء، وعدّتهم ثلاثة آلاف مقاتل أشداء مسلحين تسليحا حسنا، واتخذ مركزا متفوقا في ميدان القتال، جاعلا من صخور أحد وقاء يحمي به ظهور رجاله وراح يصفّ أصحابه بنفسه. بيد أنه كان في ناحية من نواحي الجبل شعب يمكّن العدوّ من الانقضاض على صفوف المسلمين من خلاف.
وهكذا وضع الرسول خمسين من الرماة على الرابية عند فم الشّعب، وأصدر اليهم أمرا جازما بأن لا يبرحوا مواقعهم أيا ما كان السبب، وأيا ما كانت نتيجة المعركة. كان عليهم ان لا يتزحزحوا عن مكانهم بوصة واحدة سواء أكتب للمسلمين النصر أم كتبت عليهم الهزيمة.
وإلى جانب النسوة اللواتي صحبن الجيش القرشي لتحريضه على القتال رافق ذلك الجيش أيضا راهب نصراني، يدعى أبا عامر [عبد عمرو بن صيفيّ الأوسيّ] ليمثل دورا مماثلا. وكان ابو عامر هذا قد أقام، قبل ذلك في المدينة، حيث اكتسب احترام الشعب العميق، لتقواه وزهده. حتى إذا وفد الرسول على المدينة ورأى إلى الانصار يستقبلونه ذلك الاستقبال القلبيّ، لم يطق على ذلك صبرا.
لقد غلب عليه الاستياء فانتقل إلى مكة. وكان قد زعم، في كثير من الاعتزاز، ان مجرد وجوده في صفوف القرشيين خليق به أن يوقع الرعب في أفئدة المدينيين، وعندئذ يخذلون المهاجرين لا محالة. وحين التقى الجمعان، وتواجها، تقدمت النسوة الجيش المكّي، واصطنعن كل ما أوتين من براعة لاثارة حماسة الجند [فكنّ يضربن بالدفوف والطبول، وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وهنّ يقلن:
ويها بني عبد الدّار ... ويها حماة الأدبار
ضربا بكلّ بتّار!
ويقلن:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
ثم برز ابو عامر، وراح يذكّر الانصار بنفسه [قائلا: يا معشر الانصار أنا ابو عامر] بيد انهم ردّوه في ازدراء قائلين [لا أنعم الله بك عينا يا فاسق] ، فاضطر إلى الانسحاب.
وبعد سلسلة من المبارزات قتل فيها حمزة طلحة [بن ابي طلحة] حامل لواء القرشيين*، أمسى القتال عامّا. وأبلى ابو دجانة [سماك ابن خرشة] ، وكان معروفا بشجاعته، وحمزة [عمّ النبي] ، بلاء حسنا. لقد شدّا على العدوّ، فأوقعا الاضطراب في صفوفه، وقتلا كل من لقياه. وأخيرا سقط حمزة صريعا بحربة «وحشيّ» ، وهو مولى [حبشيّ] زنجيّ كانت هند زوجة ابي سفيان قد استأجرته لهذا الغرض. ومع ذلك، قاتل المسلمون قتال اليائس. فصرع سبعة من حملة الألوية المكيين، واحدا إثر واحد، حتى دبت الفوضى المطلقة في صفوف قريش. وأخيرا ولوا الأدبار، فطاردهم المسلمون مطاردة حثيثة. وهكذا كان المسلمون، كرة أخرى، على وشك احراز نصر مؤزّر على المكيين. ولكن ثمة، كما يقولون، مزالق كثيرة بين الكأس والشفة. ذلك بأن عملا واحدا من أعمال الإخلال بالواجب، ارتكبه الرماة المسلمون الذين أمروا بأن يلزموا مواقعهم عند النقطة التي خشي الرسول أن يباغت صحابته منها، قلب سعودهم نحوسا. إذ ما كاد الرماة يرون إلى المكيين ينخذلون حتى سألوا قائدهم أن يأذن لهم في الاشتراك مع سائر أفراد الجيش الاسلامي بمطاردة العدوّ. وبرغم رفض القائد، غادر الرماة مواقعهم التي كان الرسول قد أمرهم أمرا جازما بأن يلزموها حتى النهاية، على حين لزمها عبد الله بن جبير وقليل آخرون. ولمح خالد بن الوليد، الذي كان على رأس الفرسان المكيين والذي كان يراقب الوضع مراقبة دقيقة، موطن الضعف
__________
(*) في «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل أن الذي قتله علي بن أبي طالب لا حمزة عم الرسول.
الذي ترك الآن من غير دفاع تقريبا. وسرعان ما اهتبل خالد الفرصة، فشدّ بفرسانه المئتين على الرماة المسلمين القلائل الذين ظلوا عند فم الشّعب، فأجلاهم عنه، وانقضّ على الجيش الاسلامي في وقت تراخت فيه صفوفه واضطربت اثر مطاردته للقرشيين مطاردة حثيثة.
حتى إذا رأى المكيون المنهزمون المولّون الأدبار خالد بن الوليد يحمل على المسلمين من خلاف انقلبوا إلى الميدان أيضا، فأذا بالمسلمين يحصرون من أمام ومن وراء. وكان خليقا بكثرة العدو العددية الغامرة أن تسحقهم منذ البدء. سحقا كليا، لولا تدبير حربي وقائي كان الرسول قد اتخذه مقدّما. وتفصيل ذلك أنه كان قد أدخل في حسابه، حين صفّ رجاله للقتال، شأن القائد اليقظ، إمكان تطوّر الموقف لغير صالح المسلمين. والواقع انه إنما كان قد جعل ظهره وظهور أصحابه إلى أحد لمجرد الرغبة في ان يتخذ من الجبل مفزعا يلجأ اليه إذا ما ألّمت بهم كارثة. وكان الرسول، حين شغل المسلمون بمطاردة العدوّ، قد تخلّف هو وطلحة [بن عبيد الله] وسعد [بن ابي وقاص] فلم يبرحوا مواقعهم. فلم يكد يرى إلى خالد ينقضّ على المسلمين ويحتلّ الموقع الذي هجره الرماة حتى أدرك عظم الخطر المحدق بالجيش الاسلامي. ولم يكن أمامه، في تلك اللحظات، غير سبيلين اثنين يستطيع انتهاجهما: - إما أن يكفل سلامته الشخصية بالشخوص إلى مفزع ما، تاركا أصحابه لمصيرهم المقدور، وإما أن يناديهم مخاطرا بنفسه لكي ينقذهم من الخطر. ولقد اختار السبيل الثانية. وإذ وجدهم في ضيق صاح بأعلى صوته: «هلمّوا اليّ، انا رسول الله!» ولم يكد صوت الرسول يبلغ آذانهم حتى التفتوا، كلهم، نحوه وشقّوا طريقهم اليه عبر صفوف العدوّ. ولكن إذا كانت الصيحة قد جمعت المسلمين حول النبي، فأنها قد دلّت القرشيين، أيضا، على مكانه. لقد كان هو [في زعمهم] أصل البلاء كله. وكان غرض
الحرب الأوحد هو التخلص منه. وما هي إلا لحظة حتى أمسى هدف هجمات العدوّ. ولكن صحابته، المتفانين في اخلاصهم له، دافعوا عن حياته الغالية بأرواحهم فصرعوا حوله واحدا إثر واحد. وفي غضون ذلك، قتل مصعب بن عمير، وكانت طلعته شبيهة بطلعة الرسول. فانتشرت انتشار النار في الهشيم شائعة تقول إن الرسول قد قتل. فأوقع ذلك مزيدا من الذعر في صفوف المسلمين التي كان الاضطراب قد دبّ فيها قبل ذلك. واستبدّ الأسى بأحدهم إلى حد جعله عاجزا عن الضرب بسيفه. ودهش مسلم آخر، هو أنس بن النّضر، دهشا عظيما إذ وجده واقفا مكتوف اليدين. حتى إذا سأله عن سبب ذلك أجابه: «وأيّ فائدة ترتجى من القتال بعد أن توفي الرسول؟» فقال أنس: «وما جدوى الحياة إن لم يعد الرسول بيننا؟ فلنقاتل ولنمت على ما مات عليه!» [ثم استقبل القوم فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء منقطع النظير حتى إنه لم يقتل إلا بعد أن ضرب سبعين ضربة] . وهكذا راح الصحابة يشجع بعضهم بعضا، ويشقّون طريقهم وسط صفوف العدوّ، متحلقين حول قائدهم المحبوب. وكان قد أصيب، آنذاك، بجراح بليغة، وسقط على الأرض [فشجّ في وجهه، وكلمت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته] . واستمات أصدقاؤه المخلصون في الدفاع عنه، منشئين حول شخصه سورا بشريا. وانقضّ العدو بكامل قوته على الرسول. ولكن سور الجنود المسلمين كان أمنع من أن يخترق. فما إن تحدث فيه ثغرة بمصرع واحد منهم حتى. يندفع آخر فيحل محله ويسدّ الثغرة. وسرعان ما استردّ المسلمون رشدهم، بعد الصدمة التي أذهلتهم، ورصّوا صفوفهم، وشدّوا على العدو شدة عنيفة، مقابلين هجمات العدو العنيدة بمثلها. وإلى هذا، فقد كانوا الآن قد ارتدوا إلى موقع تحدّى كل المحاولات لتشتيتهم. وبذل
القرشيون قصارى جهدهم، وشنّوا هجمات متكرّرة، ولكنهم ردّوا في كل مرة على اعقابهم. ثم انهم فقدوا كل أمل في سحق المسلمين، الذين كانوا الآن قد تراصّوا كتلة متماسكة. وانهمرت نبال ابي طلحة، الرامي الشهير، عليهم في سرعة هائلة. ولقد كسر خلال ذلك ثلاث قسيّ. وكان سعد [بن أبي وقاص] يشارك في النضال أيضا. لقد أفرغ كنانة الرسول، وكبّد العدوّ خسائر فادحة. وفوق هذا، فقد كانوا الآن أكثر تعرّضا لنبال المسلمين وحجارتهم، بعد ان احتلوا مواقع ذات امتياز. وهكذا، بفضل حذق الصحابة في الرماية ومواقعهم التي كانت خيرا من مواقع عدوهم، من ناحية، وبفضل ما عرفه القرشيون من الجراءة المتهوّرة التي اتصف بها المسلمون، وجد المشركون ان من حسن الرأي ان ينقلبوا على أعقابهم.
وبعد ان حبطت محاولات القرشيين، على هذا النحو، في القضاء على المسلمين، انصرفوا إلى إرواء ظمأهم إلى الثأر في أرض المعركة نفسها. لقد مثّلوا بالقتلى تمثيلا بربريا، وشوّهوا جثثهم جادعين الآذان والانوف. [وبقرت] هند [بطن حمزة] وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها لوكا. ليس هذا فحسب، بل لقد انتزعت أحشاءه واتخذت منها اكليلا لرأسها. وصاح ابو سفيان من بعيد: «هل محمد بينكم؟» فأشار النبي إلى أصحابه ليسكتوا. ثم نادى بصوت عال:
«هل ابو بكر بينكم؟» فلم يردّ عليه أحد بجواب. فصاح للمرة الثالثة: «هل عمر بينكم؟» وأضاف: «لقد قتلوا كلهم. لو كانوا على قيد الحياة اذن لأجابوا.» وهنا لم يعد عمر قادرا على أن يتمالك نفسه. فأجابه: «يا عدوّ الله، انهم كلهم لا يزالون أحياء لكي ينزلوا بكم الويل!» وعندئذ صاح ابو سفيان: «أعل هبل!» فما كان من الرسول إلا ان قال لعمر: «قم فأجبه: الله أعلى وأجلّ!» لقد كان نزع الرسول إلى غضّ الطرف عن هذيان أبي
سفيان ما بقي ذلك الهذيان مسألة شخصية، وكان يؤثر تجاهله وعدم الرد عليه. ولكن ما إن عدا ابو سفيان نطاق الهذر الشخصي إلى التجديف على الله حتى عجز عن الاعتصام بالصمت. لقد حفزه احترامه لاسم الله العظيم إلى ان يرد على ابي سفيان ردا مناسبا. وكرة أخرى صاح ابو سفيان: «العزّى لنا! العزّى ليست لكم.» فسأل الرسول عمر أن يجيبه من جديد: «الله ناصرنا. أما أنتم فليس لكم من ناصر.»
ومع ذلك، فقد كان للرسول فؤاد مفعم بالشفقة حتى على أعدائه.
فبينا كانت النبال تنهمر عليه كان يتضرع إلى الله قائلا: «اللهمّ اغفر لقومي فانهم لا يعلمون!»
ولم يوفق بعض المسلمين- بعد أن عزلوا عن اخوانهم وسط البلبلة العامة التي عصفت بصفوف المسلمين عند هجوم خالد المباعت- إلى شق طريقهم عائدين إلى مواقع الرسول وصحابته، فتركوا الميدان متوهمين ان جيشهم قد هزم. ولكن زوجاتهم حثون التراب في وجوههم عندما علمن انهم خلّفوا الرسول في الميدان. ثم إن عددا منهن هرعن لتوّهن إلى الميدان، وكلهن يسألن عن الرسول ماذا فعل؟ لقد كان قلقهن عليه أعظم من قلقهن على بعولتهن وأنسبائهن. ويروى ان امرأة من الانصار نعي لها أبوها فاجتزأت بترديد الآية القرآنية المألوفة:
«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» * وتساءلت في لهفة: هل الرسول بسلام؟
عندئذ قيل لها إن أخاها استشهد أيضا. فردّدت الآية نفسها، ولكنها عاودت السؤال نفسه عن الرسول أهو بسلام؟ ثم إنهم حملوا اليها نبأ آخر موجعا: لقد قتل أبوها أيضا. فأطلقت زفرة عميقة وردّدت الكلمات نفسها. حتى إذا قيل لها: [ «هو بحمد الله كما تحبين» ] زايلها الكرب كله. [فقالت: «أرونيه حتى أنظر اليه» فأشير لها اليه] حتى إذا رأته تنفّست الصعداء وهتفت: «الآن وقد رأيتك فكل
__________
(*) السورة 2، الآية 156.
مصيبة بعدك جلل.» * وبروح التسليم السامية نفسها صبرت النسوة الأخريات على مصابهن بأنسبائهن الذين صرعوا في المعركة ومثّل بهم.
وكان بعضهن، وفيهنّ عائشة، قد لزمن الجيش في المعركة، فكنّ يسقين الجرحى ويضمدن جراحاتهم في غمرة القتال. وبارتداد المسلمين إلى الجبل يحتمون به أمست المدينة عرضة للهجوم بكل ما في الكلمة من معنى. ولكن أبا سفيان وجموعه لم يؤانسوا في أنفسهم الشجاعة للعودة اليها. إن حالهم لم تكن بأحسن من حال المسلمين، ولقد عزّوا أنفسهم بانسحاب أعدائهم. إنهم لم يجرؤا على متابعة الحرب حتى النهاية خشية ان يفضي ذلك- وكان لهم ملء الحق أن يخشوا- إلى هلاكهم.
وهكذا انقلبوا عائدين، على جناح السرعة، إلى مكة، مجتازين عدة أميال في يوم واحد. وفي طريق عودتهم تساءلوا ما إذا كان يجوز لهم- من غير افتئات على الحقيقة- أن يزعموا أنهم رجعوا ظافرين.
إنهم لم يكونوا يملكون أية غنيمة من غنائم النصر يعرضونها على أنظار شعبهم، ولم يكن في أيديهم أسير حرب واحد ... أفيعدّ هذا نصرا؟ وكان الجيش الاسلامي لا يزال مسيطرا على ميدان القتال ...
أفيعتبر هذا نصرا؟ وكانوا قد عجزوا عن احتلال المدينة برغم انها تركت من غير دفاع ... أفيكون هذا نصرا؟ تلك كانت هي الخواطر التي راودتهم. واقترح بعضهم ان يرجعوا إلى المدينة ليحسموا المسألة، ولكنهم لم يوفقوا إلى استجماع الشجاعة للاقدام على ذلك. وفيما هم يتردّدون على هذا النحو لا يدرون ما يفعلون تسامعوا بأن الرسول يطاردهم بجيشه. والواقع ان القرآن الكريم أطرى البسالة التي أبداها المسلمون في تلك المناسبة إطراء عظيما. ** فهي تقول انهم استجابوا
__________
(*) أي كل مصيبة بعدك هينة يسيرة. لأن «جلل» من الاضداد، وتعني الأمر العظيم والامر الحقير.
(**) «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.» السورة 3، الآية 153 (المعرب)
في بشر لدعوة الرسول حين كلّفهم ان يخرجوا ويطاردوا العدو، على الرغم من غمّهم وبلواهم. ولقد تعقبوا العدو، في اليوم التالي نفسه، حتى موضع يدعى «حمراء الأسد» ، على مسافة ثمانية أميال من المدينة.
ولكن أبا سفيان، الذي اعتبر الحصافة خير عناصر الشجاعة، نكص هو وجيشه على أعقابهم حالما بلغته أنباء المطاردة الاسلامية.
إنه لمما ينمّ عن جهل بالوقائع التاريخية أن يستنتج المرء ان المسلمين هزموا في معركة أحد. صحيح من غير ريب ان المسلمين منوا بخسائر باهظة، ولكن من الثابت- بالقدر نفسه- ان قريشا أكرهت على العودة خائبة، أيضا. وهل نقع في صفحات التاريخ على حادثة انتصار واحدة أثبت فيها العدوّ المغلوب أقدامه في الميدان وانقلب الجيش المنتصر عائدا إلى وطنه من غير أن يأسر أسيرا واحدا ... ووجد فيها العدوّ المهزوم الجرأة على مطاردة المنتصرين في غد، بعد بضع ساعات من المعركة ليس غير، على حين ولى المنتصرون الادبار لدن سماعهم نبأ المطاردة؟ ليس من شك في ان المسلمين اجتازوا في هذه المعركة بمحن قاسية. لقد جرح الرسول نفسه جراحات بليغة، بل لقد سرت شائعة تقول إنه قتل، وبذلك خيّل إلى القوم ان أمر الاسلام قد انتهى قولا واحدا. ولكن هذا كله كان واجب الحدوث في حياة الرسول لكي يكون منارة أمل وشجاعة للأجيال الاسلامية اللاحقة، خشية أن تقنط وتضعف في ساعات الضّنك وخيبة الرجاء. إن العدو قد يهلل ابتهاجا لما يتراءى في ناظريه قضاء على الاسلام، ولكن القلب المسلم يجب أن يظل ناعما بالطمأنينة. فالاسلام خالد لا يموت. وكل مصيبة تلمّ به، مهما تكن عظيمة، لا بدّ أن تحمل اليه انتصاره الحقيقي متنكرا بقناع.
الفصل السّابع عشر القبائل العربيّة والمسلمون
«لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ «يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ «ظالِمُونَ.»
(القرآن الكريم، السورة 3، الآية 127)
كان لموقعة أحد أثر جدّ مقلق في نفوس أبناء القبائل العربية على العموم: لقد حفزتهم إلى الجهر بمعاداة الاسلام ومقاومته. ذلك بأنهم اقتنعوا الآن بأن قريشا عازمة على تحطيم الاسلام وإلا لما تجشّمت عناء القيام بمثل تلك الحملة الضخمة وأنفقت ما أنفقت في سبيلها. واذ استوثقوا من تصميم القرشيين على ذلك، بدأ حقدهم المكبوت حتى ذلك الحين يعلن عن نفسه. لقد حسبوا ان القضية الاسلامية قد أخفقت، وان عليهم ان لا يتخلفوا عن المشاركة في شرف الاطاحة بها. وهكذا راحت القبائل، في كل مكان، تعدّ العدة للانقضاض على المسلمين.
كان تثقيف الشعب الاخلاقي والروحي هو، من غير ريب، هدف الرسول الأوحد. ولم تكن الحرب لتشكّل جزآ من برنامج حياته.
ولم يكن في الامكان تحقيق هذا الهدف العظيم إلا على أيدي تلك العصبة الصغيرة النبيلة التي كان قد أعدّها لهذا الغرض. أما وقد تعرّض للخطر حتى وجود أولئك الذين عقدوا النية على وقف أنفسهم لتطهير الانسانية روحيا، أفلا يكون من واجبه أن يتخذ جميع الاجراآت الممكنة لحمايتهم؟ كانت مصلحة المثل الأعلى الذي رفعه أمامه تدعو إلى القيام بعمل حازم. وإلى هذا، فقد كان الرسول زعيم الجماعة الصغيرة، وكان- بوصفه هذا- مسؤولا عن سرّائهم وضرّائهم. إن مركزه كزعيم لهم كان يفرض عليه السهر على مصلحة شعبه. وفي هذه الناحية أيضا كان مثلا يحتذيه اولئك الذين أسندت اليهم مقاليد الحكم والسيطرة على الآخرين. وكما أظهر ذلك النموذج الكامل للجنس البشري*، يتعين على الزعيم ان لا يقبل منصبه لمجرد التمتع بالامتيازات التي يتيحها له، بل إن عليه أيضا أن يواجه المسؤوليات الشاقة التي يفرضها. إن واجبه الأخلاقي ليقتضيه ان يفكر في الاساليب والطرائق التي تمكّنه من الدفاع عن شعبه ضد العدوان، وان يتخذ التدابير التي تكفل مصلحتهم. ولو لم يكن للرسول غير هذه المأثرة ا