ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا، وباقي العام، ثم غزا بني المصطلق، من خزاعة في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري «2» ، وقيل بل نميلة بن عبد الله الليثي، وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبى النساء والذرية، ومن ذلك السبي كانت جورية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها.
__________
(1) - طبقات ابن سعد (2/ 63، 64، 65) وزاد المعاد (3/ 256) وابن هشام (3/ 214- 228) وابن حزم ص 161 وتسمى أيضا غزوة بني المصطلق.
(2) - راجع ترجمة أبي ذر القفاري
وأصيب في هذه الغزوة هشام بن صبابة الليثي من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت خطأ وهو يظنه من العدو.
وفي رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة قال عبيد الله بن أبي بن سلول: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» وذلك لشر وقع بين جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب، وبين سنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى الغفاري: يا للمهاجرين، ونادى الجهني: يا للأنصار، وبلغ زيد بن الأرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة عبد الله بن أبي بن سلول فنزل في ذلك من عند الله تعالى سورة «المنافقون» .
وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول من أبيه، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل، والله- إن شئت- لتخرجنه يا رسول الله، ووقف لأبيه قرب المدينة، فقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول، فتدخل حينئذ.
وقال أيضا عبد الله بن عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، وإني أخشى إن أمرت بذلك غيري لا تدعني نفسي أرى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله به، فأدخل النار إذا قتلت مسلما بكافر، وقد علمت الأنصار أني من أبرها بأبيه، ولكن يا رسول الله، إذا أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله، أحمل إليك رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، وأخبره أنه لا يسيء إلى أبيه.
وفد من مكة قيس بن صبابة مظهرا إسلامه، وطلب دية أخيه هشام بن صبابة، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فأخذها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، وفرّ إلى مكة كافرا وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله في فتح مكة، في جملة من أمر بقتلهم.
كان شعار المسلمين يوم بني المصطلق أمت أمت، ولما علم المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية، أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق، كرامة لمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق بسببها أهل بيت من قومها قرابة المائة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأزيد من عامين الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا «1» ، فخرجوا ليتلقوه، ففزع فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم همّوا بقتله، فتكلم الناس في غزوهم، ثم أتى وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم قبل أن يلقاهم، معرفين أنهم إنما خرجوا متلقين له مكرمين لوروده فنزلت في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ «2» .
وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوه في حق أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها.
قال ابن سعد: وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة، فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم.
أنزل الله تعالى براءة عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- ما أنزل، وقد روي من طرق صحاح ما أنزل عنها في ذلك في قوله تعالى:
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ
«3» .
وروي أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة، وهذا وهم، لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح قريظة من غير نكير في ذلك وبلا معارض، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة، أي بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقاومة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة.
__________
(1) - المصدق: العامل الذي يعين ويناط به جمع الزكاة من أصحابها.
(2) - الحجرات (49/ 6) .
(3) - النور (24/ 15، 16) .
وذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله، وغيره أن المقاول لسعد بن عبادة إنما كان أسيد بن حضير، وهذا هو الصحيح «1» .
والوهم لم يعر منه أحد من بني آدم إلا من عصم الله تعالى.