بضم القاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المعجمة. قال الزرقاني في «شرح المواهب» : (قال السمعاني: اسم رجل نزل أولاده قلعة حصينة بقرب المدينة، فنسبت إليهم، وقريظة والنّضير أخوان من أولاد هارون.
وذكر عبد الملك بن يوسف: أنّ بني قريظة كانوا يزعمون أنّهم من ذرية شعيب نبيّ الله- قال الحافظ: وهو محتمل- وأنّ شعيبا كان من بني جذام، القبيلة المشهورة، وهو بعيد جدا) اهـ
قلت: وبنو قريظة كانوا يسكنون العوالي من المدينة، ففيها منازلهم.
أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم على لسان جبريل عليه السّلام بقتال بني قريظة:
(ثمّ قريظة) أي: غزوتها بعد الخندق، بل كانت عقبها بلا مهلة؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة في اليوم
الذي انصرف فيه من الخندق- وهو عند ابن سعد يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة «1» - خرج لغزوهم باستدعاء جبريل لهم كما قال: (إليها) أي: استدعى إلى بني قريظة (جبرئيل) بالهمز بعدها ياء على إحدى لغاته، فقوله:
(إليها) يتعلق ب (استدعى) الواقع خبرا عن قوله:
(جبريل) ، والجملة خبر عن قوله: (ثمّ قريظة) ، وقد وقع بينهما الجملة الحالية معترضة وهي قوله: (ولم يضع) أي:
والحال أنّه لم يضع جبريل عليه السّلام (سلاحه استدعى) أي: جبرئيل، ومعموله (رعيل) وقف به على لغة ربيعة، والرعيل: الجماعة القليلة، نحو العشرين أو الخمسة والعشرين من الخيل.
روى الإمام البخاري في (باب الجهاد) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنّه لمّا رجع صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل.. أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال:
«فإلى أين؟» قال: ههنا، وأشار إلى بني قريظة) اهـ، فخرج النّبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
وروى البخاري أيضا من حديث أنس رضي الله عنه قال:
(لكأنّي أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة) .
__________
(1) وفي «الإمتاع» : (لسبع خلون من ذي الحجة) .
وقاده وزلزل الحصونا ... وقذف الرّعب ولا يدرونا
واستذمر النّبيّ خيل الله ... وعن صلاة العصر قام النّاهي
(وقاده) أي: قاد جبريل الرعيل إلى بني قريظة (وزلزل) حرّك (الحصونا) لبني قريظة (وقذف الرّعب) والفزع في قلوبهم (و) هم على حين غفلة (لا يدرونا) ذلك.
(واستذمر) أي: استحثّ وحضّ (النبيّ) صلى الله عليه وسلم.
في «القاموس» و «شرحه» : (الذّمر بالفتح: الملامة والحض [معا] ، والتهدد والغضب والتشجيع، وفي حديث عليّ: «ألا وإنّ الشيطان قد ذمر حزبه» أي: حضّهم وشجّعهم) .
ومعمول (استذمر) قوله: (خيل الله) أي: أصحابها قائلا: «يا خيل الله اركبي» «1» لمن بعثه أن ينادي بها، قال الشاميّ: (المنادي هو بلال) .
وخرج صلى الله عليه وسلم وقد لبس الدرع والمغفر والبيضة، وتقلد القوس، وركب فرسه، ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم.
__________
(1) قال بعضهم: هو على المجاز والتوسّع، وقال في «شرح المواهب» عن شيخه: (الأظهر: أنّه نزل الخيل منزلة المقاتلين، حتى كأنّها هي التي يوجد منها الفعل، فخاطبها بطلب الركوب منها، والمراد أصحابها، فلمّا عبر بالخيل.. راعى لفظها، فأسند الفعل إليها؛ أي: فقال اركبي) اهـ، وقيل غير ذلك.
إلّا بهم ولم يعب من أخّرا ... إلى العشاء إذ يراه ائتمرا
(وعن صلاة العصر) يتعلق بقوله: (قام) ، والواو في الحقيقة داخلة على الفعل، يعني: وقام (الناهي) عن صلاة العصر أن تصلى (إلّا بهم) أي: ببني قريظة، ويشير بهذا إلى قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن ابن عمر:
«لا يصلّينّ أحد العصر إلّا في بني قريظة» .
(ولم يعب من أخّرا) أي: لم ينسب من أخّر العصر (إلى العشاء) إلى العيب، ولم يعنّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم إنّما أخروها لفهمهم النّهي عن فعلها قبل بني قريظة وإن خرج الوقت، كما هو ظاهر اللفظ؛ (إذ يراه) أي: يرى أنّ من أخرها عن وقتها قد (ائتمرا) أي: فعل ما أمر به، قال ابن عمر في الحديث السابق: (فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلّي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يعنّف واحدا منهم) .
قال في «شرح المواهب» : (في رواية ابن إسحاق:
فصلوا العصر بها- أي: ببني قريظة- بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله في كتابه، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال السهيلي وغيره: «في هذا الحديث من الفقه: أنّه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية» ، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه؛ أي: ممّن كان له أهلية، وفيه كل مجتهد في الفروع مصيب) اهـ
وخيّر ابن أسد قريظته ... بين ثلاث وازدروا روّيته
قلت: وهو المشار إليه في قول حسان زمانه رضي الله عنه «1» :
كلهم في أحكامه ذو اجتهاد ... وصواب وكلهم أكفاء
نعم؛ المصيب في القطعيات والمعتقدات واحد لا غير، وقد تكفل علم الأصول بتفصيل ذلك، وذكر أدلة كل، فليراجع في كتبه.
تخيير كعب بن أسد لقومه بين خلال ثلاث، ورفضهم لها:
وقد حاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة كما قاله ابن إسحاق (و) لما اشتد عليهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرّعب.. (خيّر) كعب (بن أسد) رئيس بني قريظة (قريظته) بالنصب معمول لخيّر، مضاف لضمير كعب؛ لأنّه رئيسهم، وأشار إلى المخيّر فيه بقوله: (بين ثلاث) من الخلال.
(وازدروا) أي: احتقر بنو قريظة (رويّته) بكسر الواو وشد الياء المفتوحة؛ أي: رأيه؛ فإنّه لما قال لهم:
(يا معشر يهود؛ قد نزل بكم ما ترون، وإنّي أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم.. قالوا: وما هي؟ قال:
نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله؛ لقد تبيّن أنّه نبيّ مرسل،
__________
(1) المراد به: شرف الدين البوصيري رحمه الله في «همزيته» .
أن يؤمنوا فيأمنوا فقد دروا ... في كتبهم ما عنه إذ جاء أبوا
وأنّه للّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا، قال: فإذا أبيتم عليّ هذه.. فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين «1» السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا «2» ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد، فإن نهلك.. نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر.. فلعمري؛ لنجدنّ النساء والأبناء.
فقالوا: أيّ عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟! فقال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإنّ الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد وأصحابه غرّة. قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلّا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما) ذكر ذلك ابن إسحاق.
وأشار الناظم إلى الخلّة الأولى بقوله: (أن يؤمنوا) برسول الله صلى الله عليه وسلم (فيأمنوا) على دمائهم من القتل، وعلى أموالهم وأبنائهم ونسائهم من الأسر والسّلب (فقد دروا) وعلموا (في كتبهم) كالتوراة (ما) أي: الأمر الذي (عنه) يتعلق بقوله: (أبوا) ، وقوله: (إذ جاء) ظرف لقوله: (أبوا) قدّم عليه؛ أي: فقد علم بنو قريظة
__________
(1) جمع مصلت- بكسر اللام وبالصاد المهملة الساكنة- أي: مجردين السيوف من أغمادها.
(2) بفتح المثلّثة والقاف، ويجوز كسر الثاء.
أو يحصدوا النّساء والصّبيانا ... فلم يخلّوا خلفهم إنسانا
أو يفتكوا في السّبت إذ يأمنهم ... جيش العرمرم ولا يأبنهم
نعته صلى الله عليه وسلم الذي أبوا عنه لما جاءهم، وقد ذكر الله عزّ وجلّ أنّ اليهود كانت تستنصر الله على الكافرين من مشركي العرب، وتقول إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدوّ:
اللهم؛ انصرنا عليهم بالنّبيّ المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة، فكانوا ينصرون، فقال تعالى في كتابه العزيز المبين: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
وقال البغويّ في «تفسيره» : (كانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم) اهـ
فكان ما أخبر الله، ونعاه عليهم؛ من كفرهم حسدا، ونزول اللعنة عليهم بذلك.
وأشار للخلة الثانية بقوله: (أو يحصدوا) بضم عين الفعل وبكسرها، من الحصد بمعنى القطع؛ أي: أو يقتلوا (النّساء والصبيانا) ثمّ يخرجوا إلى محمّد وأصحابه مشاة مقاتلين (فلم يخلّوا) أي: يتركوا (خلفهم إنسانا) من أولئك يخشون عليه، وتقدم جواب هذه الخلة كسابقتها ولاحقتها.
وأشار إلى الثالثة بقوله: (أو يفتكوا) بالضم والكسر للعين، من الفتك، وهو: القتل على غرة؛ أي: أو ينتهزوا
وضاقت الأرض بهم لرعبهم ... وجهلوا كيف النّكاية بهم
واستنبؤوا أبا لبابة الخبر ... فرقّ للعهد الّذي بهم غبر
الفرصة (في) القتال يوم (السبت إذ يأمنهم) بفتح الميم، من الأمن، وهو: الاطمئنان وسكون القلب، وفاعل (يأمن) قوله: (جيش العرمرم) أي: يسكن إليهم في يوم السبت الجيش الكثير من المسلمين، ويعتقدون أنّه لا يحدث فيه شيء؛ لما علموا من تعظيمنا له (ولا يأبنهم) يتهمهم بالخروج في السبت، وهو بتقديم الباء المفتوحة على النون.
وذكر هذه الأبيات في هذا الوضع هو الموافق لما ذكره ابن إسحاق، وفي بعض النسخ تقديم قوله: (أو يفتكوا ... )
البيت، على قوله: (أو يحصدوا ... ) البيت.
(و) لما خيّرهم كعب بين الخلال الثلاث، ولم يأخذوا بواحدة منها.. (ضاقت الأرض بهم لرعبهم) وفزعهم، وقد أيقنوا بالهلاك (وجهلوا كيف النكاية) من المسلمين (بهم) أي: ببني قريظة،
والنكاية- بكسر النون-: ما يفعل بالعدوّ من قتل وجرح ونحوهما.
,
(واستنبؤوا أبا لبابة) مبشر بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف من الأوس «1» رضي الله عنه، وتقدمت
__________
(1) وقيل: اسمه رفاعه، وقيل: بشير.
أن جأرت في وجهه الصّبيان ... واستعطفت رحمته النّسوان
ففتنوه وانتحى عن بلد ... عصى به وشاط نحو المسجد
فقام فيه برهة مرتبطا ... معذّبا لنفسه مورّطا
ترجمته (الخبر) وكانت قريظة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم، فلمّا رأوه.. قام إليه الرجال، وأسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه (فرقّ) لهم ورحمهم (للعهد الذي بهم غبر) أي: مضى، وكانوا حلفاء الأوس.
(أن جأرت) صاحت (في وجهه الصبيان) بكسر الصاد، وتضم (واستعطفت رحمته) طلبت العطف منه والرحمة (النّسوان) ولما سألوه وقالوا: يا أبا لبابة؛ أترى أن ننزل على حكم محمّد»
؟ قال: نعم- وأشار بيده إلى حلقه: أنّه الذّبح- قال أبو لبابة: فو الله؛ ما زالت قدماي من مكانهما..
حتى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(ففتنوه) أي: فبسبب ما ذكر أوقعوا أبا لبابة في الفتنة، فندم واسترجع (وانتحى) أي: ذهب إلى ناحية بعيدة (عن بلد عصى به) ربه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وشاط) جرى (نحو المسجد) النبويّ.
(فقام فيه برهة) زمنا طويلا (مرتبطا) «2» إلى عمود من
__________
(1) أي: كما قال صلى الله عليه وسلم لشاس بن قيس الذي بعثوه إليه بأن ينزلوا على ما نزل بنو النضير، فأبى صلى الله عليه وسلم إلّا أن ينزلوا على حكمه.
(2) وقيل: إن ارتباطه هذا كان بسبب تخلفه عن غزوة تبوك. راجع «العيون» وكتب التفسير في (سورة التوبة) .
عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أموت، أو يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وأعاهد الله ألّا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
وكان ارتباطه ست ليال على ما قاله ابن هشام، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع (معذّبا لنفسه مورّطا) أي: موقعا لها في الورطة والهلكة.
وقال ابن عبد البر: (روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله ابن أبي بكر: أنّ أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه وكاد يذهب بصره، فكانت ابنته تحلّه إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجته، فإذا فرغ.. أعادته) .
قلت: ولا مانع أن تأتيه امرأته مرة فتحله مدة ست ليال، وابنته مرة أخرى كذلك في باقي البضعة عشرة ليلة.
قال ابن هشام: (وأنزل الله في أبي لبابة- فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره- وكان قد استبطأه- قال: «أمّا إنّه لو جاءني.. لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل ما فعل.. فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» .
فتاب من هفوته الله عليه ... وحلّه خير الأنام بيديه
قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم، في حرّ شديد عدّة ليال، لا آكل فيهنّ شيئا ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا؛ أو يتوب الله عليّ.
(فتاب من هفوته) أي: زلته (الله) عزّ وجلّ (عليه) أي:
على أبي لبابة، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو في بيت أم سلمة قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السّحر وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله؛ ممّ تضحك! أضحك الله سنّك، قال: «تيب على أبي لبابة» قلت: أفلا أبشّره يا رسول الله؟ قال:
«بلى، إن شئت» فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة؛ أبشر، فقد تاب الله عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله؛ حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلمّا مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصبح.. أطلقه كما قال: (وحلّه خير الأنام بيديه) .
قال الزّرقاني عن السّهيلي: (فإن قيل: إنّ الآية ليست نصّا في توبة الله عليه أكثر من قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ؟
فالجواب: أن «عسى» منه سبحانه واجبة، وخبر صدق.
وحكّم النّبيّ فيهم سعد الاوس ... إذ غاظهم إطلاقه عن كلّ بؤس
فإن قيل: القرآن نزل بلسان العرب، و «عسى» ليست في كلامهم بخبر، ولا تقتضي وجوبا.
قلنا: «عسى» تعطي الترجّي مع المقاربة، ولذا قال:
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ومعناه الترجّي مع الخبر بالقرب، كأنّه قال: قرب أن يبعثك، فالترجي مصروف إلى العبد، والخبر عن القرب مصروف إلى الله، وخبره حق، ووعده حتم، فما تضمنه من الخبر فهو الواجب دون الترجّي، الذي هو محال على الله تعالى) اهـ باختصار.
قال العبد الفقير كان الله له: وفي قصة سيدنا أبي لبابة هذه ما يرشد إلى قويّ إيمانه، وعظيم إخلاصه، ممّا لا يبالي أن يضحي بنفسه في سبيل الله تعالى ورضاء رسوله، فيعذبها ذلك العذاب، وينظر إليها بتلك النظرة. وتأمل قوله: (لا أبرح من مكاني هذا حتى أموت أو يتوب الله عليّ) تعلم أنّ نفسه عليه رخيصة في جانب الله عزّ وجلّ، وأنّه من الذين أضافوا إلى جهاد الكافرين جهاد أنفسهم. فرضي الله عن الصحابة وأرضاهم، وبلغنا بهم لحوقهم، آمين.
,
(و) لما يئس بنو قريظة بعد اشتداد حصارهم.. أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ف (حكّم النّبيّ فيهم سعد الاوس) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام للوزن، وهو: أبو عمرو سعد بن معاذ سيد الأوس.
لابن أبيّ حلفاء الخزرج ... وكان في التّحكيم حسم الهرج
وفي «صحيح البخاري» : فردّ الحكم إلى سعد.
قال في «الفتح» : (كأنّهم أذعنوا النزول على حكم المصطفى، فلمّا سأله الأنصار فيهم.. ردّ الحكم إلى سعد) وهذا هو مراد الناظم بقوله: (إذ غاظهم) أي: الأوس، وفاعل غاظ (إطلاقه) أي: إطلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم، يعني: وإنّما ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى سعد؛ لأنّ قومه الأوس كان غاظهم أن يطلق النّبيّ صلى الله عليه وسلم (عن كل بؤس) هو ضد النعيم (لابن أبيّ) عبد الله وهو يتعلق بالإطلاق العامل النصب في قوله: (حلفاء الخزرج) وهم بنو قينقاع.
قال ابن إسحاق: (لمّا أصبح بنو قريظة.. نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم؛ إنّهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت- وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فوهبهم له- فلمّا كلّمته الأوس.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكّم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك إلى سعد بن معاذ» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها: رفيدة- بالتصغير- الأسلمية في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة؛ حتى أعوده من قريب، فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة.. أتاه قومه، فحملوه على حمار قد وطّؤوه له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو؛ أحسن في مواليك؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم.
فلمّا أكثروا عليه.. قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد؛ عن كلمته التي سمع منه.
فلمّا انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فأمّا المهاجرون من قريش.. فيقولون: إنّما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأمّا الأنصار..
فيقولون: قد عمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أي: أنصارا ومهاجرين- فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو؛
وحملوا سعدا على حمار ... من المدينة إلى المختار
وعند ما انتهى إلى النّديّ ... سوّده خير بني لؤيّ
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ - في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذّراريّ والنساء.
(وكان في التحكيم) أي: تحكيم سعد فيهم (حسم) أي: قطع (الهرج) : الخصام والفتنة.
قال ابن إسحاق عقب ما ذكر: (فحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرّحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ) جمع رقيع، وهو السماء؛ لأنّها رقعت بالنجوم.
وقد أشار الناظم إلى ما ذكره ابن إسحاق من القصة بقوله: (وحملوا سعدا على حمار) لأعرابي عليه قطيفة (من) المسجد النبويّ ب (المدينة إلى المختار) عليه الصّلاة والسّلام.
(وعند ما انتهى) أي: بلغ (إلى النديّ) بتشديد الياء، بوزن النّبيّ، وهو: مجلس القوم (سوّده) أي: جعل سعدا
على الجميع أو على الأنصار ... لا غيرهم عند بني نزار
وراودته قومه أن يحكما ... بغير ما حكم فيهم فاحتمى
سيدا (خير بني لؤيّ) صلى الله عليه وسلم بقوله: «قوموا إلى سيدكم» قال في «شرح المواهب» : (وفي حديث عائشة عند أحمد: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر: السيد هو الله. قال رجال من بني عبد الأشهل: قمنا له على أرجلنا صفّين، يحييه كل رجل منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ويتعلق ب (سوّده) قوله: (على الجميع) من المهاجرين والأنصار، (أو على الأنصار لا غيرهم) من المهاجرين.
وهذا القول (عند بني نزار) أي: المهاجرين: لأنّهم من ولد نزار بن معدّ بن عدنان.
قال في «روض النهاة» : (سمي نزارا من النّزر؛ أي:
القليل؛ لأنّ أباه معدّا حين ولد ونظر إليه.. رأى النور بين عينيه، وهو نور النبوة الذي كان ينتقل في الأصلاب الطاهرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرح فرحا شديدا، ونحر وأطعم، وقال: إنّ هذا كله نزر في حق هذا المولود) .
(وراودته قومه) الأوس (أن يحكما) بألف الإطلاق؛ أي: أن يحكم سعد في بني قريظة (بغير ما حكم فيهم) أي:
ما أراد أن يحكم فيهم من القتل والقسم والسبي (فاحتمى) وامتنع، وتقدم قولهم له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم.
لدمهم خندق أفضل لؤي ... ومعهم في كلّ كربة حيي
,
ثمّ بيّن كيف كان قتل بني قريظة فقال: (لدمهم خندق) وشق في الأرض شقّا في سوق المدينة «1» (أفضل لؤيّ) صلى الله عليه وسلم، وجلس مع أصحابه، وأخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا «2» ، فضرب أعناقهم عليّ والزّبير.
وذكر ابن إسحاق: (أنّهم كانوا ست مئة، أو سبع مئة، والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين الثمان مئة والتسع مئة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب؛ ما تراه يصنع بنا؟ قال أفي كل موطن لا تعقلون؟! ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنّه من ذهب به منكم لا يرجع؟! هو والله القتل. فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
(ومعهم في كل كربة) هي: غم يأخذ بالنفس والقتل، وأصله: تضييق القيد على المقيد، واجتمعت كلها فيهم، ثمّ الخلود في النار- والعياذ بالله تعالى- أي: وكان معهم في كل ذلك (حييّ) بن أخطب عدوّ الله وعدوّ رسوله، ووالد أمنا صفية رضي الله تعالى عنها.
__________
(1) هو معروف اليوم بسوق البرسيم بالمناخة.
(2) أفواجا وفرقا منقطعا بعضها عن بعض.
قال في «روض النهاة» : (كانت صفية تحدث تقول:
كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.. غدوا عليه، ثمّ جاؤوا من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟
قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك؟ قال: عداوته ما بقيت، قالت: ورأيت ليلة في نومي أنّ القمر سقط في حجري، فقصصتها على أبي، فلطمني لطمة هذا أثرها في وجهي- وكان بها ندب في وجهها- وقال: تزعمين أنّك تتزوجين ملك العرب، وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، خلفه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قال ابن إسحاق: (وأتي بحييّ بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة له فقّاحية- قال ابن هشام: فقاحية: ضرب من الوشي- قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة؛ لئلّا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثمّ أقبل على الناس فقال: أيّها الناس؛ إنّه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثمّ جلس فضربت عنقه) .
قال ابن إسحاق: (وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزّبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنّها قالت: لم يقتل من نسائهم إلّا امرأة واحدة، قالت: والله إنّها
لعندي تحدّث معي، وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق.. إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قالت قلت لها:
ويلك، ما لك؟! قالت: أقتل، قلت: ولم؟ قالت:
لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها، فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: فو الله؛ ما أنسى عجبا منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها وقد عرفت أنّها تقتل) قال ابن هشام:
(وهي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته) .
مقتل الزّبير بن باطيا القرظي:
قال ابن إسحاق: (وقد كان ثابت بن قيس بن الشماس فيما ذكر لي ابن شهاب الزّهريّ- أتى الزّبير ابن باطيا القرظي «1» ، وكان يكنى أبا عبد الرّحمن، وكان الزّبير قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية، ذكر لي بعض ولد الزّبير: أنّه كان منّ عليه يوم بعاث، أخذه فجزّ ناصيته، ثم خلّى سبيله، فجاءه ثابت وهو شيخ كبير، فقال:
يا أبا عبد الرّحمن؛ هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إنّي أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إنّ الكريم يجزي الكريم.
__________
(1) بفتح الزاي وكسر الباء، جد الزّبير بن عبد الرّحمن المذكور في «الموطأ» في (كتاب النكاح) . واختلف في الزّبير بن عبد الرّحمن، فقيل في الضبط: كاسم جده، وقيل: بالتصغير. اهـ من «الروض الأنف» بتصرف.
ثمّ أتى ثابت بن قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنّه قد كانت للزّبير عليّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك» فأتاه فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك، فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ قال: فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هب لي امرأته وولده، قال: «هم لك» قال: فأتاه فقال: قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك، فهم لك، قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه، وسلّم، فقال: يا رسول الله ماله، قال: «هو لك» فأتاه ثابت فقال: قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك، فهو لك، قال: أي ثابت؛ ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال:
فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا فررنا، عزّال «1» بن سموأل؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان «2» ؟ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن
__________
(1) بالعين المهملة وتشديد الزاي.
(2) بكسر اللام محل الجلوس وبفتحها المصدر.
وعند ما انتهى الحصار استشهدا ... واهتزّ عرش الله حين بردا
قريظة- قال: ذهبوا قتلوا، قال: فإنّي أسألك يا ثابت بيدي عندك إلّا ألحقتني بالقوم، فو الله؛ ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله قبلة «1» دلو ناضح حتى ألقى الأحبة، فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلمّا بلغ أبا بكر الصديق قوله:
ألقى الأحبة.. قال: يلقاهم في نار جهنم خالدا مخلدا) .
استشهاد سعد واهتزاز عرش الرّحمن لموته:
(وعند ما انتهى الحصار) أي: عند انتهاء الحصار على بني قريظة وإتمام أمرهم بما قرّت به عين سعد بن معاذ؛ من إجابة الله تعالى له؛ فإنّه قال لمّا أصيب في أكحله من حبان بن العرقة بغزوة الخندق: (اللهمّ؛ إن كنت أبقيت الحرب بيننا وبينهم.. فاجعلها شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة) وكان جرحه يسيل دما، فلم تقطر منه قطرة حتى تمّ أمر بني قريظة.. فمرّت عنز وهو مضطجع، فأصابت الجرح بظلفها، فانبعث الدم وما رقأ حتى مات و (استشهدا، واهتزّ) له (عرش الله حين بردا) أي: مات رضي الله عنه، وأتى جبريل عليه السّلام متعمّما بعمامة من إستبرق، قال:
يا محمد؛ من هذا العبد الصالح الذي فتحت له أبواب السماء، واهتزّ له العرش؟ فقام صلى الله عليه وسلم سريعا
__________
(1) بالقاف والباء الموحدة؛ أي: مقدار ما يتناول المستسقي للدلو، وفي رواية (فتلة) بالفاء والتاء المثنّاة فوق.
وخفّ نعشه على عظمته ... إذ الملائكة من حملته
يجرّ ثوبه إلى سعد فوجده قد مات. رضي الله عنه وأرضاه.
(و) لمّا حملوه على نعشه- وهو السرير الذي يجعل عليه الميت- (خفّ نعشه على عظمته) أي: من عظمة سعد؛ لأنّه كان مع عظمته المعنوية عظيم الجسم (إذ الملائكة من) جملة (حملته) بفتحات، جمع حامل، وأخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأن له حملة غيركم» .
وقال عليه الصّلاة والسّلام: «لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا، ما وطئوا الأرض إلّا يومهم هذا» .
وبعث صاحب دومة الجندل ببغلة وجبة من سندس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أصحابه يعجبون من حسن الجبّة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه» اهـ
قال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (وحديث اهتزاز العرش ثابت من وجوه كثيرة متواترة، رواه جماعة من الصحابة) .
قال رجل من الأنصار:
وما اهتزّ عرش الله من أجل هالك ... سمعنا به إلّا لموت أبي عمرو
وذكر ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس: (قال سعد:
ثلاث أنا فيهنّ رجل- يعني: كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس-: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه
وسلم حديثا قطّ إلّا علمت أنّه حقّ من الله، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قطّ فحدثت نفسي بغيرها، تقول ويقال لها، حتى أنصرف عنها.
قال سعيد بن المسيّب- يعني الراوي عن ابن عباس-:
(هذه الخصال ما كنت أحسبها إلّا في نبيّ) .
قال العلّامة الحلبيّ في «سيرته» : (عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: كنت فيمن حفر لسعد رضي الله عنه قبره، فكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من ترابه، وجاء: «لو كان أحد ناجيا من ضمّة القبر.. لنجا منها سعد، ضمّ ضمّة، ثمّ فرّج الله عنه» .
وخصّ رسول الله والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام من ضمّة القبر.
ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت:
يا رسول الله؛ ما انتفعت بشيء مذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته، وصوت منكر ونكير، فقال: «يا عائشة؛ إنّ ضغطة القبر على المؤمن كضمّ الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصّداع، وصوت منكر ونكير عليه كالكحل في العين، ولكن يا عائشة؛ ويل للشاكّين الكافرين، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصّخر» ) اهـ
وفي رواية: «ضغط البيض على الصخر» .
وترجمة سيدنا سعد بن معاذ طويلة جدا؛ إذ إنّ حياته
ثمّ غزا لحيان جرّاء الرّجيع ... فاحتضنوا بكلّ باذخ منيع
- على قصرها- كلها حياة خالدة وجهاد صادق، وقد تقدم شيء منها في غزوة بدر، فرضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في مستقر رحمته ورضاه، آمين.
وفي قصة بني قريظة وخبر سيدنا سعد من الفوائد:
جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمنّي الموت كما قاله في «الفتح» .
وفيها: تحكيم الأفضل من هو مفضول.
وفيها: جواز الاجتهاد في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة خلافية عند أهل الأصول، والمختار:
الجواز، سواء كان بحضور النّبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا.