وكانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
وقد كانت الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:
قسم وادعهم صلى الله عليه وسلم على أن لا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبنو قينقاع.
وقسم حاربوه ونصبوا له العدواة كقريش.
__________
"ثم غزوة بني قينقاع":
بفتح القافين وسكون التحتية و"بتثليث النون" كما حكاه ابن قرقول وغيره، "والضم أشهر" كما أفاده الحافظ وغيره "بطن من يهود المدينة" قال في الوفاء: منازلهم عند جسر بطحان مما يلي العالية، وفي الصحيح عن ابن عمر: وهم رهط عبد الله بن سلام، "لهم شجاعة وصبر" هو لازم للشجاعة، قيل: كانوا أشجع اليهود وأكثرهم مالا وأشدهم بغيا، "وكانت" كما قال ابن سعد: "يوم السبت نصف شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة" النبوية "وقد كانت الكفار،" كما أفاده الحافظ في غزوة بني النضير "بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام، قسم وادعهم" صالحهم "عليه الصلاة والسلام على أن لا يحاربوه ولا يؤلبوا" يحرضوا "عليه" على قتاله "عدوه"، وقيل: على أن لا يكونوا معه ولا عليه، وقيل: على أن ينصروه ممن دهمه من عدوه، "وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة" بالظاء المعجمة المشالة، "والنضير، وبنو قينقاع،" فنقض الثلاثة العهد، فمكن الله رسوله منهم فقتل قريظة وأجلى الأخيرين.
"وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، كقريش" فنصره الله عليهم، فقتل سبعين وأسر سبعين ببدر، وقتل في أُحد اثنين وعشرين منهم أهل اللواء بنو عبد الدار وأبي بن خلف، وفي الخندق
وقسم تركوه، وانتظروا ما يؤول إليه أمره، كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة. وبالعكس كبني بكر. ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون.
وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم عليه الصلاة والسلام في شوال بعد وقعة بدر. قال الواقدي بشهر.
وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني
__________
عمرو بن عبدود، وغيره، حتى فتح مكة فصار أعظمهم عليه أحوجهم إليه، ثم في حجة الوداع لم يبق قرشي إلا أسلم وصاروا كلهم أتباعه، ولله الحمد.
"وقسم تركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره" فإن آل إلى النصر والظفر بقريش تبعوه وإلا تبعوهم، "كطوائف من العرب" إلا أن هذا القسم ليسوا سواء بل "منهم من كان يحب ظهوره في الباطن، كخزاعة" ولذا دخلوا في عقده وعهده عام الهدنة ولما استنصروه صلى الله عليه وسلم حين غارت عليهم بنو بكر، قال: "لا نصر إن لم أنصركم"، "وبالعكس، كبني بكر" ولذا دخلوا في عهد قريش وعقدهم سنة الحديبية، "ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون" فكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، "وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع" ثم النضير، ثم قريظة، "فحاربهم عليه الصلاة والسلام في شوال" أي: نصفه على ما مر "بعد وقعة بدر" وهذا كله لفظ الحافظ في الفتح في أول غزوة بني النضير، ثم قال فيه بعد قليل: "قال الواقدي: "أجلاهم في شوال سنة اثنتين، يعني بعد بدر "بشهر" ويؤيده ما روى ابن إسحاق بسند حسن عن ابن عباس، قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق قينقاع، فقال: "يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا"، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قتلناك لعرفت إنا الرجال، فأنزل الله عالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] إلى قوله {لِأُولِي الْأَبْصَار} [آل عمران: 13] الآية، انتهى لفظ الفتح.
فأفاد أن المحاربة بعد بدر بنصف شهر، والإجلاء بعد بدر بشهر، وهو ظاهر؛ لأنه حاصرهم نصف شهر. وأما عبارة المصنف ففيها قلاقة، لجزمه بأنها نصف شوال وأن الفراغ من بدر أوله فينا في نقله هنا عن الواقدي أن الحرب بعد بدر بشهر، وأيضا فالواقدي لم يقل ذلك، إنما قال: أجلاهم في شوال سنة اثنتين. فقال الحافظ: يعني بدر بعد شهر، فاختلط على المصنف رحمه الله الحرب بالإجلاء.
"وأغرب الحاكم" جاء بقول غريب لا يعرف، زعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني
النضير كانا في زمن واحد، ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق.
وكان من أمر بني قينقاع، أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودي، فراودها على كشف وجهها، فأبت فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع.
فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف أبا لبابة
__________
النضير كانا في زمن واحد" حيث قال: هذه وغزوة بني النضير واحدة، وربما اشتبها على من لا يتأمل، "ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة" بن الزبير وعمل عليه البخاري، "أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق" أنها بعد أحد، ونصره ابن كثير بأن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير. وفي الصحيح: أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أنها كانت حلال حينئذ، وإنما حرمت بعد ذلك، ويأتي مزيد لذلك في غزوتها، إن شاء الله.
"وكان" كما رواه ابن هشام "من أمر بني قينقاع أن امرأة" قال البرهان: لا أعرف اسمها، "من العرب" وفي الإمتاع أنها كانت زوجة لبعض الأنصار، أي: من العرب فلا ينافي أن الأنصار بالمدينة. وفي الرواية: أنها قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، "وجلست إلى صائغ يهودي" لا أعرف اسمه، والظاهر أنه من قينقاع، قاله البرهان.
"فراودها على كشف وجهها" أراد منها ذلك، ولفظ الرواية عند ابن هشام: فجعلوا يريدونها على كشف وجهها "فأبت فعمد" بفتح الميم وتكسر: الصائغ "إلى طرف" بفتح الراء "ثوبها" من ورائها "فعقده" ضمه "إلى ظهرها" وخله بشوكة "فلما قامت انكشفت سوأتها" هو لفظ رواية ابن هشام، أي: عورتها "فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه" فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون "ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع" وذكر ابن سعد أنهم لما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ونبذوا العهد والمدة، فأنزل الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أخاف من بني قينقاع"!! "فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف" على المدينة "أبا لبابة"
ابن عبد المنذر.
فحاصرهم أشد الحصار، خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرية.
فأمر عليه الصلاة والسلام المنذر بن قدامة بتكتيفهم.
وكلم عبد الله بن أبي سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وألح عليه من أجلهم.
__________
بشير بفتح الموحدة وكسر المعجمة، أو رفاعة، ووهم من سماه مروان "ابن عبد المنذر" الأنصاري الأوسي المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، فحاربوا وتحصنوا في حصنهم "فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة،" بفتح القاف وكسرها "وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب وكان أبيض،" قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ، "فقذف الله في قلوبهم الرعب" الخوف "فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له أموالهم وأن لهم النساء والذرية، فأمر عليه الصلاة والسلام المنذر بن قدامة" السلمي الأوسي البدري "بتكتيفهم" مصدر كتفه بالتشديد للمبالغة، والأصل التخفيف، أي: بشد أيديهم خلف أكتافهم موثقا بحبل ونحوه، قال ابن هشام: فكتفوا وهو يريد قتلهم فمر بهم ابن أُبي فأراد أن يطلقهم، فقال له المنذر: أتطلق أقواما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطهم، والله لا يفعله أحد إلا ضربت عنقه.
"وكلم عبد الله بن أبي بن سلول" رأس المنافقين "رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم" لما أراد قتلهم وهذا مشكل؛ إذ مقتضى نزولهم على أن لهم النساء والذرية أنهم نزلوا بأمان، ولا يتصور من المصطفى غدر إلا أن يقال نزولهم على حكمه لا يقتضي موافقته لهم، كما نزل بنو قريظة على حكم سعد، فحكم فيهم بحكم الله. "وألح عليه من أجلهم" فقال، كما ذكر ان هشام وابن سعد وغيرهما: يا محمد! أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم،، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه وكان يقال لها ذات الفضول، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويحك أرسلني" وغضب عليه السلام حتى رأوا وجهه ظلالا جمع ظلة وهي السحابة استعيرت لتغير وجهه الكريم لما اشتد غضبه، ويروى ظلالا جمع ظلة أيضا كبرمة وبرام ومهما بمعنى، كما في الروض، ثم قال: "ويحك أرسلني"، قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر بمهملتين، أي: لا درع معه وثلاثمائة دراع وقد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر،
فأمر عليه الصلاة والسلام أن يحلوا من المدينة، وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من المدينة، فلحقوا بأذرعات. فما كان أقل بقاءهم فيها. وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة.
وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي، وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم، فقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله أنزل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الَْالِبُون} [المائدة: 56] .
__________
فقال صلى الله عليه وسلم: "وهم لك"، "فأمر عليه الصلاة والسلام أن يحلوا" من كتافهم، فقال: "حلوهم لعنهم الله ولعنه معهم"، "وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا" بالجيم مبني للمفعول، أي: يخرجوا "من المدينة" قال ابن سعد: وولى إخراجهم عبادة بن الصامت، وقيل: محمد بن مسلمة ولا مانع أنهما اشتركا في إخراجهم، "فلحقوا بأذرعات" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وكسر الراء فمهملة وبالصرف: بلدة الشام "فما كان" زائدة "أقل بقاءهم فيها" قيل: لم يدر عليهم الحول "وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة" وكان الذي ولي قبض أموالهم محمد بن مسلمة، قاله ابن سعد، فأخذ صلى الله عليه وسلم خمسة وفض أربعة أخماسه على أصحابه، فكان أول ما خمس بعد بدر، ووقع عند ابن سعد: أخذ صفية الخمس، وتوقف فيه اليعمري بأن المعروف الصفي غير الخمس، فعند أبي داود عن الشعبي: كان له صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي قبل الخمس. وعن عائشة: كانت صفية من الصفي، قال: فلا أدري أسقطت الواو أو كان هذا قبل حكم الصفي، انتهى.
"و" أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت، قال: "كانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي وعبادة بن الصامت فتبرأ عبادة رضي الله عنه من حلفهم" بكسر المهملة وإسكان اللام، حين قال صلى الله عليه وسلم لما رأى من فعلهم القبيح: "ما على هذا أقررناهم"، "فقال: يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف" جميع "الكفار وولايتهم" أو هو تأكيد لما قبله من إقامة الظاهر مقام المضمر، وفائدته التشنيع عليهم بالكفر، "ففيه وفي عبد الله" بن أبي "أنزل" الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] الآية، فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ، إيماء إلى علة النهي، أي: فإنهم متفقون على خلافكم يولي بعضهم بعض لاتحادهم في الدين واجتماعهم على مضادتكم من يتولهم منكم فإنه منهم، تشديد في وجوب مجانبتهم "إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون} " [المائدة: 56] الآية، أي: فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه، وكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهو حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم، وتعريضا بمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان، وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم، قاله البيضاوي.
غزوة السويق:
ثم