وحاصل ما أشار إليه الناظم من سبب هذه الغزوة:
ما ذكره ابن إسحاق بزيادة توضيح: أنّ قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكّة وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره.. لم يكن شغلها الشاغل إلّا الأخذ بالثأر من المسلمين:
فأبو سفيان ينذر أن لا يمس طيبا، ولا يمس رأسه ماء من
جنابة حتى يغزو محمّدا، وينال من المسلمين ما يشفي غليله، ويجهد أن يرسل البعوث والرسل تسير في بطحاء مكّة ونواحيها؛ للتحريض على مؤازرته ونصرته.
وعبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، في جماعة ممّن قتل آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر يحثّون إخوانهم على ذلك ويقولون: يا معشر قريش؛ إنّ محمّدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ويعنون عير أبي سفيان، أو من كانت له في تلك العير تجارة «1» - لعلّنا ندرك منه ثأرنا، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسون ألف دينار «2» .
وأمضت سنة كاملة تعدّ خيلها ورجلها، وقضّها وقضيضها، وجدّها وحديدها، ومن يتبعها من بني كنانة وتهامة، وفيهم أنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.
فاجتمعت قريش، ومن حالفها لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الثّالثة، وكان سيدنا العباس بمكّة على علم تام من هذه الحركات لقريش، فكتب كتابا يخبر
__________
(1) وكانت موقوفة بدار الندوة.
(2) فسلموا إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم لكل دينار دينارا.
وخرجوا ب (يه) ظعن وهم ... جيم ألوف والخيول لهم
راء وما للمسلمين فرس ... وفي زروع قيلة إحتبسوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبيّ بن كعب، واستكتم أبيّا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الرّبيع، فأخبره بكتاب العباس، فقال: «والله؛ إنّي لأرجو أن يكون خيرا، فاستكتمه» .
,
وسبب هذه الغزوة: أنّه بلغه عليه الصّلاة والسّلام، أنّ رئيس بني المصطلق- وهو الحارث بن أبي ضرار- سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابوه وتهيّئوا للمسير معه إليه، وكانوا ينزلون ناحية الفرع، فبعث عليه الصّلاة والسّلام بريدة بن الحصيب الأسلميّ يعلم حالهم الذي هم عليه، فاستأذنه أن يقول، فأذن له، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلّمه، فوجدهم قد جمعوا الجموع، قالوا: من الرجل؟ قال: منكم، قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فنكون يدا واحدة حتى نستأصله، قال الحارث: فنحن على ذلك، فعجل علينا، فقال بريدة: أركب الآن وآتيكم بجمع كثير من قومي، فسرّوا بذلك منه.
انتصار الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهزيمة العدو:
ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرهم، فندب صلى الله عليه وسلم الناس، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قطّ مثلها، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقادوا الخيل: عشرة للمهاجرين، وعشرين للأنصار، وخرجت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وبلغ
لم ينفلت منهم أنيس وسبا ... غير رجال عشرة قد نهبا
الحارث ومن معه مسيره عليه الصّلاة والسّلام، فسيء بذلك الخبر هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرّق عنهم من كان معهم من العرب الذين جمعهم الحارث من غير قومه، ووصل عليه الصّلاة والسّلام إلى المريسيع، وصفّ أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنّبل ساعة، وكان شعار المسلمين (يا منصور؛ أمت أمت) ثمّ أمر عليه الصّلاة والسّلام أصحابه، فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، كما قال الناظم.
(لم ينفلت منهم) أي: لم يخلص من بني المصطلق (أنيس) بالتكبير؛ أي: أحد، قال في «المختار» :
(الأنيس: المؤانس، وكل ما يؤنس به، وما بالدار أنيس:
أحد) .
(وسبا) أي: ملك عليه الصّلاة والسّلام (غير رجال عشرة) وهم النساء والصبيان.
قال في «شرح المواهب» : (قال البرهان: لم يذكر عدتهم، وقال بعض شيوخي: كانت الأسرى أكثر من سبع مئة، فطلبتهم منه جويرية ليلة دخوله بها فوهبهم لها، ولم يقتل من المسلمين إلّا رجل واحد، هو هشام بن صبابة «1» ،
__________
(1) بصاد مهملة مضمومة فموحدة مخففة، أصابه أنصاري يقال له: أوس، من رهط عبادة بن الصامت، قتله خطأ وهو يرى أنّه من المشركين.
أعمارهم وسبيت جويريه ... ووهب السّبي لها لتدريه
وساق من الإبل ألفي بعير، ومن الشاة خمسة آلاف شاة» ) كما قاله الزرقانيّ عن ابن سعد.
وأمّا العشرة من الرجال.. ف (قد نهبا) ، بألف الإطلاق مبنيا للفاعل (أعمارهم) أي: قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: قتلهم أصحابه الكرام.
(وسبيت) بالبناء للمفعول؛ أي: أخذت في السبي أمّنا (جويرية) بنت رئيس بني المصطلق: الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، وجذيمة هو المصطلق من خزاعة، كما في «الروض الأنف» وكانت قبل أن تسبى عند مسافع بن صفوان الخزاعي المقتول كافرا يوم المريسيع كما جزم به ابن أبي خيثمة والواقدي، ونقله عنهما الزرقاني في «شرحه للمواهب» وكان اسمها برّة، فسمّاها صلى الله عليه وسلم جويرية؛ كره أن يقال: خرج من عند برّة.
وكانت وقعت في سهم ثابت بن قيس، ثمّ جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعين به في كتابتها، قالت عائشة رضي الله عنها: وكانت امرأة حلوة ملّاحة «1» ، فوالله؛ ما هو إلّا أن رأيتها على باب حجرتي.. فكرهتها، وفي قول عائشة ذلك بيان ما كان عليه أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الغيرة عليه، والعلم بمواقع الجمال منه «2» ، فلمّا طلبت
__________
(1) بفتح الميم وتشديد اللام؛ أي: بارعة الجمال، وهذا البناء للمبالغة في الملاحة.
(2) من ذلك: أنّه عليه الصّلاة والسّلام خطب امرأة فأرسل عائشة لتنظر إليها، فلمّا رجعت-
منه أن يعينها على كتابتها.. قال لها عليه الصّلاة والسّلام:
«هل لك في خير من ذلك؟ أن أقضي عنك كتابتك وأعتقك، ثم أتزوجك» فرضيت، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتقها فتزوجها.
,
(ثم النّضير هاجها) أي: أثار الغزوة المفهومة من المقام، وفاعل هاج: المصدر المنسبك من قوله: (أن جاءهم) بفتح الهمزة؛ أي: مجيئه صلى الله عليه وسلم إياهم حال كونه (مستوهبا) أي: طالبا هبة (من دية) وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فيسهل الدفع منهم، وهو بيان لقوله: (ما نابهم) أي: نزل بهم، والمراد: دية العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري، مرجعه من بعث بئر معونة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم عقد لهما جوارا، ولم يعلم به عمرو، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
فأصعدوا أحدهم ليلقيا ... عليه صخرة تريح الأغبيا
«قتلت قتيلين لأدينّهما» وعمرو يرى أنّه أصاب ثأرا بهما، ببعض أصحابه الذين قتلوا ببئر معونة.
فخرج عليه الصّلاة والسّلام يوم السبت، فصلّى في مسجد قباء ومعه رهط من المسلمين، ثمّ جاء بني النضير فجلس يكلمهم في ذلك، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ممّا استعنت بنا عليه، وقد آن لك أن تزورنا، وأن تأتينا، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك، ونقوم فنتشاور، ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، ثمّ كان ما أشار إليه الناظم بقوله:
(فأصعدوا أحدهم) وهو عمرو بن جحاش، فإنّه قال:
أنا لذلك، لما اختاروه لعمل السوء (ليلقيا عليه صخرة تريح) اليهود (الأغبيا) ء: جمع غبيّ، وهو الذي لا يفطن ومنه:
وغبيّ من ساءه المنّ والسّلوى ... وأرضاه الفوم والقثّاء
وذلك بعد أن خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنّكم لن تجدوه على مثل هذا الحال منفردا ليس معه أحد من أصحابه إلّا نحو العشرة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدا إلى جنب جدار، وفي رواية: قالوا- لما رأوا قلّة أصحابه-: نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة، فنبيعهم من قريش، فقال سلّام بن مشكم لليهود: لا تفعلوا، فوالله ليخبرنّ بما هممتم به، وإنّه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، كما أشار لذلك بقوله:
وأخبر ابن مشكم أن يخبرا ... وزجر الرّهط فلم ينزجرا
وجاءه الخبر من ربّ السّما ... وفي حصارها العقار حرّما
(و) لما أجمع اليهود غدرا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم (أخبر) بالبناء للمعلوم؛ أي: أخبرهم سلّام (ابن مشكم) بوزن منبر (أن يخبرا) بالبناء للمفعول؛ أي: بأنّه صلى الله عليه وسلم يخبر من طريق الوحي بما تقدم، وفي رواية: قال لهم: يا قوم؛ أطيعوني في هذه المرة، وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرنّ بأنا قد غدرنا به، وإنّ هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه (وزجر الرّهط) بسكون الهاء، وتفتح كثيرا؛ أي: قومه وقبيلته (فلم ينزجرا) أي: الرهط بالألف المنقلبة عن النون الخفيفة.
(وجاءه الخبر) أي: خبر القوم، وما أسرّوه بينهم (من رب السما) ء.
قال ابن إسحاق: (وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من رب السماء، مع جبريل عليه السّلام، بما أراد القوم، فقام عليه الصّلاة والسّلام مظهرا أنّه يقضي حاجته، خوفا أن يفطنوا له؛ فيؤذوا أصحابه؛ ولذلك ترك أصحابه في مجالسهم، ورجع مسرعا إلى المدينة، ثمّ إنّ أصحابه صلى الله عليه وسلم استبطأوه، فقاموا في طلبه، فقال لهم حيي:
لقد عجل أبو القاسم، كنا نريد أن نقضي حاجته ونقريه، وندمت اليهود على ما صنعوا، قال موسى بن عقبة: ونزل في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ
قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وقيل:
نزلت في غير ذلك) .
وقال ابن إسحاق: فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتهيّؤ لحربهم والسير إليهم. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم- يعني إماما «1» للصلاة- ثمّ سار بالناس، حتى نزل بهم، فحاصرهم ستّ ليال، قال ابن إسحاق: فتحصّنوا منه في الحصون؛ فقطع النخل، وحرّقها، وخرب أماكنهم، فنادوه يا محمّد؛ قد كنت تنهى عن الفساد، وتعبيه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟
قال السهيلي: «قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ، واللّينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرنيّ، ففي هذه الآية: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحرّق من نخلهم إلّا ما ليس بقوت للناس، وكانوا يقتاتون العجوة.
نزول تحريم الخمر تحريما باتّا وسورة الحشر:
(وفي حصارها) أي: بني النّضير (العقار) بضم العين: الخمر، سمّيت بذلك لأنّها عقرت العقل (حرّما) أي: نزل تحريمها بقوله تعالى في (سورة المائدة) : يا أَيُّهَا
__________
(1) قال في «شرح المواهب» : (ولم يستعمل على أمرها أحدا لقربها؛ لأنّ بينها وبين المدينة ميلين) اهـ
والحشر أنزلت بها ونقضا ... نجل أبيّ عهدهم ورفضا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية.
وما ذكره الناظم.. يقتضي أنّها حرّمت سنة أربع. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنّ أنسا كما في الصحيح، كان الساقي يوم حرّمت، وأنّه لما سمع المنادي بتحريمها.. بادر فأراقها، فلو كانت سنة أربع.. لكان أنس يصغر عن ذلك، وقال قبل هذا: وقد بينت في تفسير (المائدة) الزمن الذي نزلت فيه الآية المذكورة، وأنّه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثمّ رأيت الدّمياطيّ في «سيرته» جزم بأنّ تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست.
واعلم: أنّ أول آية نزلت في شأن الخمر قوله تعالى:
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، ثمّ نزل قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، ثمّ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ، ثمّ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: انتهينا، فحرمت إلى يوم القيامة تحريما باتا.
(والحشر) أي: (سورة الحشر) ، (أنزلت) بأسرها كما في «سيرة ابن هشام» (بها) أي: في غزوة بني النضير، وفي المنافقين الذين بعثوا إليهم، وهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول، ووديعة بن مالك، وغيرهما من منافقي بني عمرو بن
عوف من الخزرج، بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا، وتمنّعوا، فإنّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، فقذف الله في قلوبهم الرّعب بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وروى عبد بن حميد: أنّ غزوة بني النّضير كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف.
إخراج بني النّضير من ديارهم:
وروى ابن سعد، كما في المواهب وغيرها: أنّهم حين همّوا بغدره صلى الله عليه وسلم، وأعلمه الله بذلك، ونهض سريعا إلى المدينة، بعث إليهم محمّد بن مسلمة: «أن اخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي منكم بعد ذلك ضربت عنقه» فمكثوا على ذلك أيّاما يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلا، فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ:
لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصونكم؛ فإنّ معي ألفين من قومي من العرب، يدخلون حصونكم، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حييّ فيما قاله ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدالك.
فأظهر صلى الله عليه وسلم التكبير، وكبر المسلمون بتكبيره، وسار عليه الصّلاة والسّلام إليهم في أصحابه، فصلّى
وفيئهم والفيء في الأنفال ... ما لم يكن أخذ عن قتال
العصر بفناء بني النّضير، وعليّ رضي الله عنه يحمل رايته، فلمّا رأوه صلى الله عليه وسلم.. قاموا على حصونهم، ومعهم النّبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبيّ، ولم يعنهم، كما قال الناظم:
(ونقضا) أي: أبطل (نجل أبيّ) عبد الله (عهدهم) أي: عهده إياهم بالمدد والنصرة (ورفضا) وكذلك حلفاؤهم من غطفان، فقال ابن مشكم وكنانة لحييّ: أين الذين زعمت؟ قال: ما أصنع؟ هي ملحمة كتبت علينا، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم، وقال لهم عليه الصّلاة والسّلام: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم، وما حملت الإبل، إلا الحلقة «1» » .
فنزلت يهود على ذلك، فكانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وولي إخراجهم محمّد بن مسلمة، وحملوا النساء، والصبيان، وتحملوا أمتعتهم على ست مئة بعير، فلحقوا بخيبر وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال، والحلقة فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاث مئة وأربعين سيفا وحزن عليهم المنافقون حزنا شديدا.
فيئهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد خصّ به المهاجرين برضا الأنصار:
(وفيئهم) أي: بني النضير، وهو مبتدأ خبره: (لخير
__________
(1) بإسكان اللام: هي السلاح كله، وقيل: الدرع والمراد هنا الأول.
أمّا الغنيمة ففي زحاف ... والأخذ عنوة لدى الزّحاف
لخير مرسل وخصّ فئته ... وفي رضا أنصاره عطيّته
مرسل) وما بينهما معترض؛ لبيان معنى الفيء والغنيمة المشار إليه بقوله: (والفيء في الأنفال) جمع نفل، كسبب وأسباب؛ أي: الغنيمة (ما) أي: الغنم الذي (لم يكن أخذ عن قتال) بل أوجف عليه المسلمون بلا خيل، ولا ركاب، قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
(أمّا الغنيمة) المقابلة للفيء (ف) هي: ما أخذت (في) حال (زحاف) للجيش، وهو بكسر الزاي (والأخذ) أي: مع الأخذ (عنوة) بفتح العين؛ أي: قهرا باستعانة السيف (لدى الزّحاف) أي القتال.
وكذلك كانت أموال بني النّضير فيئا، وهي (لخير مرسل) صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في الآية.
قال الشهاب القسطلاني في «المواهب» : (ولم يسهم منها؛ أي: من أموال بني النّضير لأحد؛ لأنّ المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنّما قذف في قلوبهم الرّعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم) .
(وخصّ) النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالعطاء من الفيء المذكور (فئته) أي: طائفته المهاجرين، فقسمها بينهم؛
كان التّرحّم على الأنصار ... أن آثروا به بني نزار
ليرفع بذلك مؤونتهم عن الأنصار؛ إذ كانوا قاسموهم في الأموال، والديار، غير أنّه أعطى سهل بن حنيف، وأبا دجانة لحاجتهما، وأعطى أيضا سعد بن معاذ سيف كنانة بن أبي الرّبيع بن أبي الحقيق وهو سيف له ذكر عندهم (وفي رضا) أي: بسبب رضا (أنصاره) صلى الله عليه وسلم، وهو فاعل للمصدر، ومفعوله قوله: (عطيّته) للمهاجرين ما أفاء الله عليه من أموال بني النّضير؛ أي: بسبب ذلك (كان الترحم) منه عليه الصّلاة والسّلام (على الأنصار) إذ قال:
«اللهمّ؛ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» (أن آثروا) أي:
قدّم الأنصار على أنفسهم (به) أي: بالفيء المذكور (بني نزار) أي: المهاجرين.
قال اليعمريّ في «عيون الأثر» : (لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النّضير.. دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: «ادع لي قومك» فقال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كلها» فدعا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وإيثارهم على أنفسهم، ثمّ قال: «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله تعالى عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في
وشاطروهم مالهم ونزلوا ... عن الحلائل لهم وأوّل
منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم» .
فتكلّم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، فقالا:
يا رسول الله؛ بل تقسم بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدا من الأنصار شيئا إلّا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف كنانة بن أبي الحقيق.
وقال سيد المهاجرين أبو بكر رضي الله عنه: جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلّا كما قال الغنويّ:
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الذي لا قوه منّا لملّت
ثم ذكر الناظم بعض تفضلات الأنصار في إيثارهم.
,
وسبب ذلك: نقضهم العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى ابن هشام: (أنّ امرأة من العرب قدمت بجلب لها من إبل، وغنم، وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ يهوديّ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلمّا قامت.. انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشرّ بينهم وبين بني قينقاع) .
وهذا هو مراد الناظم بقوله: (هم) أي: يهود بني قينقاع (كشفوا إزارها) أي: المسلمة، فالضمير يعود على المجرور في قوله: (عن) امرأة (مسلمة) المتعلّق مع جاره بقوله:
(كشفوا) .
(فهاج حرب بينهم) أي: اليهود (و) بين (المسلمة) أي: المسلمين، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «ما على هذا أقررناهم» .
,
ويشير الناظم إلى سبب غزوة بني لحيان، وهو: تأثره عليه الصّلاة والسّلام وغضبه على بني لحيان؛ لغدرهم بأصحابه المستشهدين بالرجيع، المشار إليهم بقول العلّامة غالي بن المختار فال بن أحمد تلمود البساتي رحمه الله تعالى
__________
(1) كان بعث الرجيع في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، كما في «العيون» فهو في السنة الرّابعة.
(2) بفتح الهاء، قال الحافظ: وسكون الدال بعدها همزة مفتوحة لأكثر الرواة، وللكشميهني بفتح الدال وتسهيل الهمزة، وعند ابن إسحاق: بالهدّة بتشديد الدال بغير ألف.
في «تبصرة المحتاج إلى بعوث صاحب المعراج» «1» :
فمرثدا بعد إلى الرّجيع ... ففتكت لحيان بالجميع
وأخذوا ابن طارق وزيدا ... وابن عديّ بالأمان كيدا
ومرثد وعاصم وخالد ... لم يقبلوا عهدهم وجالدوا
وعاصم أنشد إذ يقاتل ... ما علّتي وأنا جلد بازل
والقوس فيها وتر عنابل ... تزلّ عن صفحتها المعابل
الموت حقّ والحياة باطل ... وكلّ ما حمّ الإله نازل
بالمرء والمرء إليه آئل ... إن لم أقاتلكم فإنّي جاهل
,
وسببها- كما قاله ابن سعد في «طبقاته» : (أنّه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلب معهم لخم، وجذام، وعاملة، وغسان، وغيرهم من متنصرة العرب، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يقصده؛ ليتأهّبوا له) .
وأشار الناظم إلى من انضمّ من القبائل هناك إلى صفوف الروم بقوله:
(ومعهم) أي: ومع الروم (لحربه) صلى الله عليه وسلم (ألب) بفتح الهمزة وتشديد اللام المفتوحة؛ أي: جمع (له) أي: لحربه وقتاله، فهو بدل من قوله: (لحربه) (غسان) بفتح الغين المعجمة، وتشديد السين، و (لخم) بسكون الخاء المعجمة (وجذام) و (عاملة) والأربعة قبائل من ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وحضّ الاغنيا على الحملان ... ونكصوا دون مدى عثمان
حث الرسول صلّى الله عليه وسلّم الأغنياء على الإنفاق في سبيل الله:
(و) لمّا جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، والسير إلى تبوك، وأمر الناس بالجهاز (حض) أي: حثّ أصحابه (الأغنيا على) النفقة، و (الحملان) بضم الحاء وسكون الميم؛ أي: على حملان الفقراء، بأن يعطوهم الشيء الذي يركبون عليه، ويحملوهم في سبيل الله تعالى، فأجابوا.
قال في «شرح المواهب» عن الواقديّ: (وجاؤوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، أربعة آلاف درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله، فسأله: «هل أبقيت لهم شيئا؟» قال:
نعم، نصف مالي، وحمل العباس، وطلحة، وسعد بن عبادة، وجاء عبد الرّحمن بن عوف بمئتي أوقية إليه صلى الله عليه وسلم، وتصدّق عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر) اهـ
,
حنين: واد قرب ذي المجاز، وهو سوق كان للعرب على فرسخ من عرفة «1» ، سميت الغزوة به.
ويقال لها: غزوة أوطاس، سميت بالموضع الذي كانت فيه الموقعة، ويقال لها أيضا: غزوة هوازن، بفتح الهاء وكسر الزاي: قبيلة كبيرة من العرب، فيها عدة بطون، ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة، سميت بذلك؛ لأنّهم الذين أتوا لقتاله صلى الله عليه وسلم.
,
قال الشهاب في «المواهب» : (وسببها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها.. مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف بن سعد النصري، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة سنة ثمان، يوم السبت، لستّ
__________
(1) قال الواقدي: ذو المجاز خلف عرفة، ومجنة بمر الظهران، وعكاظ بين نخلة والطائف، وهو أعظم هذه الأسواق، يقيمون بها شوالا، ثمّ ينتقلون إلى سوق مجنة عشرين يوما من ذي القعدة، ثمّ ينتقلون إلى سوق ذي المجاز أيام الحج. اهـ ملخصا من «معجم ياقوت» .
ثمّ إلى وادي حنين انحدر ... عن مكّة من الألوف اثنا عشر
فوجدوا هوازنا تأهّبوا ... بكلّ مخرم لهم وألّبوا
خلون من شوال، في اثني عشر ألفا من المسلمين، وأشار الناظم إلى هذا بقوله:
(ثم) بعد أن فرغ من مكة وفتحها، وأخرج الأصنام منها، وطهّر ساحتها.. انحدر عن مكة (إلى وادي حنين) بالتصغير (انحدر) أي: هبط (عن مكة) بالتنوين للضرورة، واستعمل عليها عتاب بن أسيد بالتكبير أميرا، وكان معه (من الألوف اثنا عشر) : عشرة آلاف من أهل المدينة، منهم من الأنصار أربعة آلاف، ومن جهينة ألف، ومن مزينة ألف، ومن أسلم ألف، ومن غفار ألف، ومن أشجع ألف، ومن المهاجرين وغيرهم ألف، وألفان ممّن أسلم من أهل مكة (فوجدوا هوازنا) وعددهم يربو على عشرين ألفا (تأهّبوا) أي: استعدوا (بكل مخرم) يتعلق بقوله: (ألبوا) آخر البيت، وهو بفتح الميم، وبعدها خاء معجمة ساكنة وراء مكسورة؛ أي: طريق (لهم) قال في «اللسان» : (مخارم الطرق: جمع مخرم- بكسر الراء- وهو الطريق في الجبل أو الرمل) .
(وألبوا) بفتح الهمزة وشد اللام المفتوحة؛ أي: جمعوا وهيّؤوا لقتال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما لديهم من قوة وعتاد، ورئيسهم مالك بن عوف النصريّ، وهو الذي جمعهم للقتال، وعمره ثلاثون سنة، وقد أسلم بعد، وحسن إسلامه رضي الله عنه، وضمّ إلى الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
معارضة دريد بن الصمّة لمالك بن عوف النصري:
فلمّا نزل بأوطاس.. اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصّمة شيخ كبير مجرّب، زاد عمره على المئة، وعمي بصره، فلمّا نزل.. قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن «1» ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم، ونساءهم، وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل:
هذا مالك، ودعي له فقال: يا مالك؛ إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟
قال: سقت مع الناس أموالهم، وأبناءهم، ونساءهم، قال:
ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله؛ ليقاتل عنهم، قال: فانقضّ به دريد «2» ، ثمّ قال:
راعي ضأن والله، ما له وللحرب، وصفّق بإحدى يديه على الأخرى تعجّبا، وقال: هل يرد المنهزم شيء؟ إنّها إن كانت لك.. لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك..
فضحت في أهلك ومالك.
__________
(1) الحزن: ما غلظ من الأرض، والضرس: ما صلب من الأرض، والسهل: ضد الحزن، والدهس: اللين كثير التراب.
(2) يريه أنّه نقر بلسانه في فيه، كما يزجر الشاة أو الحمار.
ثمّ قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قال: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ «1» ، ولو كان يوم علاء ورفعة..
لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددتم أنّكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضرّان، يا مالك؛ إنّك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثمّ الق الصّبّاء «2» على متون الخيل، فإن كانت لك..
لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك.. ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا والله؛ لا أفعل ذلك؛ إنّك قد كبرت وكبر عقلك، والله؛ لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئنّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد بن الصمّة فيها ذكر أو رأي، قالوا: أطعناك، فقال دريد بن الصمّة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع
__________
(1) الحد والجد: الأول بفتح الحاء المهملة، والثّاني بالمعجمة المكسورة: ضد الهزل، وبفتحهما: الحظ.
(2) جمع صابئ، يريد: جماعة المسلمين؛ لأنّهم صبئوا عن دينهم الجاهلي إلى الإسلام.
ثمّ قال مالك للناس: إذا رأيتموهم ... فاكسروا جفون سيوفكم، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد.
,
ثمّ إنّ مالك بن عوف بعث عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرّقت أوصالهم رعبا وخوفا، فقال: ويلكم، ما شأنكم؟
فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو الله؛ ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فو الله؛ ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلّا أهل السماء، وإن أطعتنا.. رجعت بقومك؛ فإنّ الناس إن رأوا مثل الذي رأينا.. أصابهم مثل الذي أصابنا، فقال: أفّ لكم، بل أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده خوفا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلّوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج ثمّ رجع إليه قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق ما يطاق النظر إليهم، فو الله؛ ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يرد ذلك مالكا عن وجهه.
تعرّف الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبار القوم:
ووجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ، وأمره أن يدخل معهم، ويقيم حتى يعلم خبرهم ويأتيه به، فانطلق فدخل عسكرهم، فطاف بهم وجاء بخبرهم، وممّا سمعه من مالك أنّه يقول لأصحابه: إنّ محمّدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة، وإنّما كان يلقى قوما أغمارا
لا علم لهم بالحرب، فيظهر عليهم، فإذا كان السّحر..
فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم، ثمّ صفوا، ثمّ تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم، فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون، واحملوا حملة رجل واحد، واعلموا أنّ الغلبة لمن حمل أولا.
فأقبل عبد الله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لعمر: «ألا تسمع ما يقول؟» فقال:
كذب، قال ابن أبي حدرد: لئن كذّبتني يا عمر، فربّما كذبت بالحق.. فقد كذبت من هو خير مني، فقال عمر:
يا رسول الله؛ ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «قد كنت ضالا فهداك الله يا عمر» .
استعارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أدرعا وسلاحا من صفوان بن أميّة:
ولمّا أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن.. ذكر له أنّ عند صفوان بن أميّة أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فقال: «يا أبا أميّة؛ أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا» فقال صفوان: أغصبا يا محمّد؟
فقال: «بل عارية مضمونة حتى نردها إليك» قال: ليس بهذا بأس، فأعطى له مئة درع بما فيها من السلاح، فسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها، فحملها إلى أوطاس.
وبينما الجيش إليهم ينحدر ... بغلس شدّوا إليه وهو غر
ثمّ سار صلى الله عليه وسلم وقد ركب بغلته دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة «1» ، واستقبل الصفوف، فطاف عليهم ينحدرون من الوادي، فحضّهم على القتال، وبشّرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن الوليد في بني سليم وأهل مكة، وجعل ميمنة وميسرة، وقلبا كان صلى الله عليه وسلم فيه.
(وبينما الجيش) أي: جيش المسلمين (إليهم) أي:
إلى هوازن (ينحدر) أي: يهبط من واد من الأودية (بغلس) بفتح المعجمة واللام مفتوحة؛ أي: في وقت الغلس، وهو ظلمة آخر الليل (شدوا) أي: حملت هوازن (إليه) أي:
إلى جيش المسلمين، حملة رجل واحد (وهو) أي: والحال أنّ جيش المسلمين (غر) بكسر الغين المعجمة؛ أي: غافل.
التحام القتال وثبات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه:
وحاصل المعنى: ما رواه ابن إسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لمّا استقبلنا وادي حنين..
انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف ذي خطوط، له مضايق وشعوب، وإنّما نتحدر فيه انحدارا، قال: وكان في عماية
__________
(1) الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم قد تدرع بدرعين، ولبس المغفر والبيضة في هذا اليوم، ولمّا دخل مكة.. كانت البيضة على رأسه وقد لبس المغفر، وفي أحد لبس اللأمة، وقد قال الله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ وقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ.
الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيّؤوا وأعدّوا، فو الله؛ ما راعنا ونحن منحطون إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثمّ قال:
«أيّها الناس؛ هلمّوا إليّ، أنا محمّد بن عبد الله» قال:
«فلأيّ شيء حملت الإبل بعضها على بعض» فانطلق الناس، إلّا أنّه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته: علي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، والفضل بن عباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ) .
واعلم: أنّ هذا يبين سبب انكشاف المسلمين، وأن انكشافهم كان بمجرد التلاقي، وهو ما وقع عند ابن سعد، وهو مخالف لما رواه البخاري من حديث البراء، وهو: (أنّ هوازن كانوا رماة، ولمّا حمل المسلمون عليهم.. كشفوهم، فأكبّوا على المغانم، فاستقبلوهم بالسهام) وهذا صريح في أنّهم لم يفروا بمجرد التلاقي، بل قاتلوا المشركين حتى كشفوهم، واشتغلوا بالغنيمة، قال في «شرح المواهب» إثر هذا: (وذكر الحافظ السببين، ولم يجمع بينهما) .
فاستنفروا بهم لذلك الرّكاب ... وأدبرت تخدي بهم غلب الرّقاب
واستنزلوا وادّرعوا وهي تمر ... مرّ جهام بالبهاليل نفر
قلت: وسكت عنه الزرقاني، وسكوته يدل على أنّه لم يظهر له وجه الجمع، وقد نصّوا على أنّه عند عدم إمكان الجمع يصار إلى الترجيح، ومعلوم أنّ ما في الصحيح مقدم على ما في غيره، والله أعلم.
ثمّ فرّع الناظم على ما تضمّنه هذا البيت، فقال:
(فاستنفروا) أي: هوازن؛ أي: فعلوا ما أوجب النفور للإبل (بهم) أي: بالمسلمين (لذلك) أي: لأجل شدهم عليهم والمسلمون غافلون، ومفعول (استنفروا) قوله:
(الركاب) أي: فعلوا بالمسلمين ما أوجب نفور الإبل بهم (وأدبرت) غلب الرقاب (تخدي) أي: تسرع (بهم) أي:
بالمسلمين وهم عليها (غلب) بضم الغين المعجمة، وسكون اللام، وإضافته إلى (الرقاب) أي: الإبل الغلاظ، وهو فاعل تنازع فيه (أدبر) و (تخدي) .
(واستنزلوا) أي: وطلب المسلمون النزال، أي: دعوا نزال نزال (وادّرعوا) أي: لبسوا دروعهم، وأخذوا أسلحتهم، وأصله: اتدرعوا (وهي) أي: غلب الرقاب (تمر) أي: حال كونها تسير (مرّ) أي: سيرا كسير (جهام) بفتح الجيم؛ أي: السحاب الذي أهرقت ماؤها (بالبهاليل) جمع بهلول؛ أي: بالسادة الكرام، وقوله: (نفر) بضم
فاقتحموا عنها وآبوا للنّبي ... وزحزحوا عنه زحوف العرب
النون والفاء، خبر قوله: (وهي) أي: فعلوا ما ذكر وهي باقية على نفورها، كما علم من التقرير.
رجوع المسلمين إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد التفرق ثمّ انتصارهم:
(فاقتحموا) «1» أي: رمي المسلمون بأنفسهم (عنها) أي: عن الإبل لما أبصروا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام (وآبوا) أي: رجعوا (للنّبي) صلى الله عليه وسلم، ومعه الذين ثبتوا (وزحزحوا) أي: دفعوا (عنه) أي: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (زحوف) جمع زحف؛ أي:
جيش (العرب) أي: هوازن.
ويشير الناظم إلى ما رواه ابن إسحاق قال: (حدّثني الزّهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: إنّي لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة «2» بغلته البيضاء، قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيما شديد الصوت، قال: ورسول الله صلى الله عليه
__________
(1) قال في «الصحاح» : (قحم في الأمر قحوما: رمى بنفسه فيه من غير روية) . (مادة قحم) .
(2) حكمة: بفتحات، قال في «الصحاح» : حكمة اللجام: ما أحاط بالحنك، تقول منه: حكمت الدابة حكما، وأحكمتها أيضا، وكانت العرب تتخذها من القد والأبق؛ لأنّ قصدهم الشجاعة لا الزينة، وقال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا
والقد بالكسر: سير قدّ من جلد غير مدبوغ. والأبق بالتحريك: القنب.
وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: «أين أيّها الناس؟» فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: «يا عباس؛ اصرخ:
يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» قال: فأجابوا لبّيك، لبّيك، قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مئة..، استقبلوا الناس، فاقتتلوا.
وكانت الدعوة أول ما كانت: يا للأنصار، ثمّ خلصت أخيرا: يا للخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون فقال: «الآن حمي الوطيس» «1» ) اهـ
__________
(1) أي: اشتد الحرب، وهذا من الأمثال التي قالها صلى الله عليه وسلم ولم يسبق إليها. قال الحافظ مغلطاي: (وأمثاله صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها كثيرة، كقوله عليه السّلام: «حمي الوطيس» ، و «لا ينتطح فيها عنزان» و «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» ، و «كل الصيد في جوف الفرا» و «الحرب خدعة» و «لا تجني على المرء إلّا يده» و «الشديد من غلب نفسه» و «ليس الخبر كالمعاينة» و «المجالس بالأمانة» و «اليد العليا خير من اليد السفلى» و «البلاء موكل بالمنطق» و «الناس كأسنان المشط» و «ترك الشر صدقة» و «أي داء أدوأ من البخل» و «الأعمال بالنيات» ، و «الحياء خير كله» و «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» و «سيد القوم خادمهم» و «فضل العلم خير من فضل العبادة» و «الخيل
وما زال القوم يجتلدون حتى أسفرت الهزيمة على هوازن، ورجعت راجعة الناس حتى وجدوا الأسارى مكبولين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
,
قال ابن إسحاق: (وحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنّها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة وقد خشيت أن يعزّها الجمل «1» ، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته «2» مع الخطام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم سليم» قالت: نعم، بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك؛ فإنّهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو يكفي الله يا أم سليم؟» قال:
ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك
__________
في نواصيها الخير» و «عدة المؤمن دين» وفي رواية: «كأخذ باليد» و «أعجل الأشياء عقوبة البغي» و «إنّ من الشعر لحكمة» و «الصحة والفراغ نعمتان» و «نية المؤمن خير من عمله» و «من غشنا.. فليس منا» و «المستشار مؤتمن» و «الندم توبة» و «حبك الشيء يعمي ويصم» و «الدال على الخير كفاعله» إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم) .
(1) أي: يغلبها.
(2) الخزامة: حلقة من شعر تجعل في أنف البعير.
فأرسل الله جنود الفرج ... وقبضة التّرب قضت بالفلج
يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين.. بعجته به، قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء) .
,
ثمّ أشار الناظم إلى نصر الله رسوله والمؤمنين في هذا اليوم، بإرسال جند الملائكة، وبما أظهره على يد حضرة الرسول من المعجزة الكبيرة، فقال:
(فأرسل الله) مددا: الملائكة الكرام (جنود الفرج) سموا بذلك؛ لأنّهم السبب في كشف ما نزل بالمؤمنين من الهزيمة أول الأمر.
قال ابن إسحاق: (وحدّثني أبي إسحاق بن يسار عن جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، لم أشك أنّها الملائكة، ثمّ لم يكن إلّا هزيمة القوم) .
قال الإمام السهيلي: (وقول جبير: لقد رأيت مثل البجاد، يعني: الكساء من النمل مبثوثا، يعني: رآه ينزل من السماء، قال: لم أشك أنّها الملائكة.
وقد قدم ابن إسحاق قول الآخر: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق، وكانت الملائكة، فأراهم الله لذلك الهوازني على
صور الخيل والرجال ترهيبا للعدو، وأراهم جبير على صورة النمل المبثوث إشعارا بكثرة عددها؛ إذ النمل لا يستطاع عدها، مع أنّ النمل يضرب بها المثل في القوة فيقال: أقوى من النملة؛ لأنّها تحمل ما هو أكبر من جرمها بأضعاف، وقد قال رجل لبعض الملوك: جعل الله قوتك قوة النملة، فأنكر عليه، فقال: ليس في الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلّا النملة، وهذا المثل ذكره الأصبهاني في كتاب «الأمثال» مقرونا بهذا الخبر، وقد أهلك بالنمل أمة من الأمم وهم جرهم) .
قال في «المواهب» عن الدمياطي في «سيرته» : (إنّ سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر، أرخوها بين أكتافهم) .
رمي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجوه المشركين بالحصباء:
(وقبضة الترب) بضم القاف، على أنّ المراد ما حوته الكف من الحصباء، وعلى أنّ المراد المصدر بفتح القاف (قضت) وحكمت (بالفلج) بفتح الفاء واللام؛ أي: بالظفر والنصر للمؤمنين، وبالهزيمة للمشركين، وذلك أنّه لما نظر إلى القوم وهم يجتلدون وقال: «الآن حمي الوطيس» ، وزاد في رواية: «أنا النّبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» .. أخذ حصيات من الأرض وكان على بغلته البيضاء، فرمى بها أوجه الكفار، ثم قال: «انهزموا ورب محمّد» قال العباس فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا.
قال في «شرح المواهب» : (روى أبو القاسم البغوي والبيهقي وغيرهما عن شيبة قال صلى الله عليه وسلم:
«يا عباس؛ ناولني من الحصباء» ، فأقعد الله البغلة، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول من البطحاء، فحثا به في وجوههم، وقال: «شاهت الوجوه، حم لا ينصرون» .
وفي رواية لمسلم: (ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثمّ استقبل به وجوههم فقال: «شاهت الوجوه» فما خلق الله منهم إنسانا.. إلّا ملأت عينه ترابا تلك القبضة، فولوا منهزمين) .
وروى البخاري في «التاريخ» والبيهقي عن عمرو بن سفيان قال: (قبض صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الحصى، فرمى بها وجوهنا، فما خيل إلينا إلّا أنّ كل حجر وشجر وفارس يطلبنا) .
,
قلت: وفي هذا من المعجزات وجوه:
منها: تسخير البغلة له صلى الله عليه وسلم، ووقوفها تحت إرادته، حتى إذا قصد الأرض ليأخذ منها الحصيات..
انخفضت له، وفي ضمن هذا ما هو معلوم من كمال شجاعته عليه الصّلاة والسّلام؛ إذ البغلة ليست من مركوب الحرب، ولا تصلح للكر والفر.
ومنها: نداؤه بمسمع من عدوه بقوله: «أنا النّبيّ لا كذب ... » إلخ؛ لأنّ العدو إنما أدار رحى الحرب عليه ومن أجله، وهو المقصود عندهم بالقتال، ثمّ هو يريهم مكانه ولا يبالي؛ اعتمادا على مولاه الذي عوده النصر على عدوه في غير موضع.
ومنها: ذلك الأثر الكبير الذي فعلته الحصباء لمّا انتشرت في وجه العدوّ على قلة الحصباء.
ومنها: إخباره عليه الصّلاة والسّلام بهزيمة القوم، وقد وقعت. وأشار العارف «1» إلى ما فعلت تلك الحصيات بقوله:
رمى بالحصى فأقصد جيشا ... ما الحصى عنده وما الإلقاء
قال في «الإمتاع» : (وكان الرعب الذي قذف الله في قلوب المشركين يومئذ كوقع الحصاة في الطست له طنين، فيجدون في أجوافهم مثل ذلك، ولمّا رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكف من الحصى.. لم يبق أحد من المشركين إلّا وهو يشكو القذى في عينيه، ويجدون في صدورهم خفقانا كوقع الحصى في الطساس ما يهدأ ذلك، ورأوا رجالا بيضا على خيل بلق عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وهم بين السماء والأرض كتائب كتائب، فما كانوا يستطيعون أن يتأمّلوهم من الرعب) .
__________
(1) يعني البوصيري رحمه الله.
حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنّ من قتل قتيلا فله سلبه:
وفي هذا اليوم قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا له عليه بينة.. فله سلبه» فعن ابن إسحاق قال: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر، أنّه حدث عن أبي قتادة الأنصاري، قال: وحدّثني من لا أتهم من أصحابنا، عن نافع مولى بني غفار أبي محمّد، عن أبي قتادة قالا: قال أبو قتادة:
رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان: مسلما ومشركا، قال: وإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم، قال: فأتيته فضربت يده فقطعتها، واعتنقني بيده الأخرى، فوالله؛ ما أرسلني حتى وجدت ريح الدم ويروى: ريح الموت- وكاد يقتلني، فلولا أنّ الدم نزفه..
لقتلني، فسقط فضربته فقتلته، وأجهضني عن القتال، ومرّ به رجل من أهل مكة فسلبه، فلمّا وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا.. فله سلبه» قلت: يا رسول الله؛ والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب، فأجهضني عنه القتال، فما أدري من استلبه، فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه عني من سلبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه:
لا والله لا يرضيه منه، تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه؟! اردد عليه سلب قتيله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق، اردد عليه سلبه» فقال أبو قتادة: فأخذته منه، فبعته، فاشتريت بثمنه مخرفا، فإنّه
لأوّل مال اعتقدته) اهـ، أي: جعلته عقدة، وفي الصحيح:
(فكان أول مال تأثّلته في الإسلام) .
,
قال في «روض النّهاة» : (ولمّا انهزمت هوازن..
استحر القتل من ثقيف في بني مالك قتل منهم سبعون رجلا، واستمرّ أيضا في بني نصر بن معاوية، ثمّ في بني رباب قبيلة مالك بن عوف، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهمّ اجبر مصيبتهم» ولعل ذلك بعد أن أسلموا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يدعو للمشركين، بل يدعو عليهم.
وقتل دريد بن الصمّة كافرا، ويروى: أنّ الذي قتله من الأنصار، وأنّه قال: ضربته بسيفي فلم يغن شيئا، فناولني سيفه، فقال: اضربني بهذا، وارفع عن العظام، واحفظ الدماغ؛ فإنّي كنت كذلك أضرب الرجال، قال: ورأيت بين رجليه كركبة البعير من طول ركوب الخيل، وأنّ الذي قتله ربيعة بن رفيع السلميّ، وأنّ دريدا قال له لما علمه الضرب:
وإذا أتيت أمك.. فقل لها: أنا قتلت دريد بن الصمّة، فربّ يوم والله منعت فيه نساءك، فلمّا رجع ربيعة إلى أمه وأخبرها.. قالت: لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا، وقيل: إنّ الذي قتله الزّبير بن العوام.
وثبتت مع النّبيّ طائفه ... من أهل بيته وممّن ألفه
حيدرة والعمران وأبو ... سفيان جعفر ابنه المنتخب
وعمّه ربيعة العبّاس ... وفضله أسامة الأكياس
ذكر بعض من ثبت مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم هوازن:
ثمّ أراد الناظم أن يذكر من وقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم هوازن فقال: (وثبت مع النّبيّ) صلى الله عليه وسلم في يوم هوازن (طائفة) ، في الأصل القطعة من الشيء، قال في الصحاح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة:
الواحد فما فوقه. والمراد هنا جماعة (من أهل بيته) الكرام، قال في «روض النّهاة» : (وعنى بهم هنا: بني عبد المطلب ومواليهم) (وممّن ألفه) بكسر اللام من مهاجري قريش، ثمّ أخذ في تعيينهم، لا على سبيل اللف والنشر المرتب فقال:
(حيدرة) وهو: لقب لسيدنا علي رضي الله عنه كما تقدم (والعمران) : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، (وأبو سفيان) بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام عليه وترجم آنفا، و (جعفر ابنه) أي ابن أبي سفيان بن الحارث (المنتخب) المختار، صفة مدح.
(وعمه) أي: عم جعفر بن أبي سفيان، وهو (ربيعة) بن الحارث، أخو أبي سفيان المذكور، و (العباس) بن عبد المطّلب عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم،
وأيمن ابن أمّه والعبدري ... شيبة رام غدر خير مضر
وهو الذي نادى بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عالي الصوت: (يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السّمرة) كما تقدم.
(وفضله) أي: فضل بن العباس، أضيف إليه؛ لأنّه أكبر أولاده، وبه كان العباس يكنى، وهو من أبهى قريش، ومن ثمّ قيل: من أراد البهاء والسخاء والفقه.. فليأت دار العباس، فالبهاء للفضل، والسخاء لعبيد الله، والفقه لعبد الله.
و (أسامة) بن زيد، الحب بن الحب (الأكياس) جمع كيّس بتشديد الياء المكسورة، صفة مدح لأولئك السادة، بمعنى الظرفاء العقلاء، ومن أجل ذلك ثبتوا، فكان ثباتهم وثبوتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرا من مظاهر كياستهم.
(وأيمن ابن أمه) أي: ابن أم أسامة؛ لأنّ أيمن بن عبيد وأسامة، أمهما بركة الحبشية مولاته عليه الصّلاة والسّلام، وقتل يومئذ كما قاله ابن إسحاق، يعني: بعد أن ثبت.
قصة شيبة بن عثمان العبدري وإسلامه بعد قصده الغدر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم:
(و) ممّن ثبت: (العبدري) «1» المنسوب إلى بني عبد الدار واسمه (شيبة) بن عثمان بن أبي طلحة بن
__________
(1) هذا يسمى عندهم بالنحت كالعبشمي لبني عبد شمس، وعبقسي لعبد قيس وغير ذلك.
فصدّه عمّا نوى فضربه ... نبيّنا في صدره فجذبه
عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار؛ فإنّه (رام) أي: طلب وقصد، و (بابه: قال) (غدر) هو ترك الوفاء؛ أي: أن يغدر بالنّبيّ (خير مضر) صلى الله عليه وسلم.
(فصده) أي: منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمّا) أي: عن الغدر الذي (نوى) أي: قصده بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، والفتك به، حين خرج إلى هوازن، حتى يكون بزعمه قد أخذ بثأر قريش جميعها، فأعلم الله النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك (فضربه نبينا) أي: وضع يده الميمونة، ومسحها على شيبة (في صدره) أي: صدر شيبة (فجذبه) أي: جذب شيبة إليه، وأعاذه بالله من الشيطان، فما هي إلّا لحظة وقد هدى الله شيبة إلى الإسلام بتلك اليد المباركة، حتى كان في صفوف الثابتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمون الإسلام.
قال شيبة محدثا عن إسلامه: (ما رأيت أعجب ممّا كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات، قال: لمّا كان يوم الفتح.. دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قلت:
أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمّد غرّة، فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول لم يبق من العرب والعجم أحد إلّا اتّبع محمّدا..
ما اتّبعته أبدا، وكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلّا قوة.
فلمّا اختلطت الناس.. اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، وأصلتّ السيف فدنوت أريد منه ما أريد، ورفعت سيفي حتى كدت أسوره، فرفع لي شواظ من النار كالبرق يكاد يمسحني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه، والتفتّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديني: «يا شيب؛ ادن مني» فدنوت منه، فمسح صدري، ثمّ قال: «اللهمّ؛ أعذه من الشيطان» قال: فو الله؛ لهو كان ساعتئذ أحبّ إليّ من سمعي، ومن بصري ونفسي، وأذهب الله ما كان بي.
ثمّ قال: «يا شيب؛ ادن مني فقاتل» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، والله أعلم أنّي أحب أن أقيه بنفسي كل شيء، ولو لقيت أبي تلك الساعة حيا.. لأوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون، فكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوى عليها فخرج في إثرهم، حتى تفرّقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره، فدخل خباءه، فدخلت عليه، ما دخل عليه غيري؛ حبا لرؤية وجهه، وسرورا به، فقال: «يا شيب؛ الذي أراد الله بك خير ممّا أردت بنفسك» ثمّ حدّثني بكل ما أضمرته في نفسي ممّا لم أكن أذكره لأحد قط، فقلت:
فإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله، ثمّ قلت:
استغفر لي، قال: «غفر الله لك» ودفع إليه وإلى ابن عمه عثمان مفاتيح الكعبة وقال: «خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» ) .
واعلم: أنّ هذه الأبيات الخمسة هي المثبتة في نسختي التي قرأتها وصححتها على شيخي، المرحوم الشيخ محمّد بن عبد الله زيدان، وعليها شرحت، وفي نسخة الشيخ حمّاد الذي شرح عليها مخالفة في اللفظ، أمّا المآل.. فواحد، غير أنّ في النسخة الأولى زيادة في سبب إسلام شيبة لم تكن في النسخة الثانية، كما هو ظاهر، ولفظ النسخة الثانية:
وثبتت مع النّبيّ طائفه ... من أهل بيته وممّن ألفه
عمر ذي الخلال شيبة، أبي ... سفيان وابنه وعمّه الأبي
حيدرة أسامة أيمنه ... ثمّ أبو الفضل وفضل وابنه
وقوله: (عمر) وما بعده بالجر بدل من المجرور في قوله: (من أهل بيته وممّن ألفه) وقوله: (وعمه) أي: عم جعفر بن أبي سفيان، وهو ربيعة بن الحارث أخو أبي سفيان بن الحارث، و (الأبيّ) معناه: الممتنع من الضيم.
القول في فرار من فرّ من الصحابة في هذه الغزوة:
واعلم: أنّ فرار الباقين من الصحابة في هذه الغزوة ليس فيه عار؛ لأنّه إنّما كان في بادئ الأمر ولم يستمر، أو أنّه كان صوريا؛ فإنّه فرار عن عود.
قال الطبري- كما في «المواهب» -: (الانهزام المنهي عنه، ما وقع على غير نية العود، وأمّا الاستطراد للكرّة.. فهو كالمتحيز إلى فئة) .
وقال ابن سيد الناس في «العيون» : (فرارهم قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة، وقتالهم معه حتى كان الفتح، ففي ذلك نزل قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ كما قال الله تعالى فيمن تولّى يوم أحد: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وإن اختلف الحال في الوقعتين) .
وفي «الروض» للسّهيليّ: (لم يجمع العلماء على أنّه من الكبائر إلّا في يوم بدر، وهو ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية، ثمّ أنزل التخفيف في الفارين يوم أحد، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) .
وفي «تفسير ابن سلام» : (كان الفرار يوم بدر من الكبائر، وكذا يكون في ملحمة الروم الكبرى، وعند الدجال) .
والحاصل: أنّ هذه المعركة أسفرت عن نصر كبير للمسلمين، وفتح مبين، فقد رجع الجيش بعد التفرق إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بطلب العدوّ، فانتهى بعضهم إلى الطائف، كمالك بن عوف في جماعة من أشراف قومه.
قال في «شرح المواهب» : (إنّهم لمّا انهزموا.. وقف مالك على ثنية في شبان أصحابه فقال: قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم، ويتتام آخركم، فبصر بهم الزّبير، فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك إلى الطائف، ويقال:
تحصن في قصر بليّة على أميال من الطائف، فغزاهم صلى الله عليه وسلم بنفسه كما يأتي، وهدم القصر) .
قال في «المواهب» : (واستشهد من المسلمين أربعة، ومنهم أيمن، وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا) ا
هـ
,
ونال المسلمون من الغنائم الشيء الكثير، فمن الإبل أربعة وعشرون ألفا، ومن الغنم أكثر من أربعين ألفا، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، وسبوا نساءهم وأبناءهم، وأمر عليه الصّلاة والسّلام بجمع ذلك في الجعرانة إلى أن يرجعوا من الطائف.
قال في «الإمتاع» : (وانتهى عليه الصّلاة والسّلام إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس خلون من ذي القعدة، والسبي والغنائم بها محبوسة) وإليه الإشارة بقوله:
ووقف السّبي إلى أن رجعا ... من طائف لعلّ أن يسترجعا
(ووقف) أي: حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم (السبي) الذي سباه من هوازن، وكانوا ستة آلاف آدمي، سوى الغنم، والنعم، والأموال، فلم يقسمه، وإطلاق السبي على الجميع على التغليب.
قال ابن التلمساني: (ولا يكون السبي إلّا في النساء) نقله عن الخفاجي في «شرح الشفاء» وأمر بالجميع أن يجمع بالجعرانة (إلى أن رجعا) بألف الإطلاق للقافية (من طائف) أي: من غزوة الطائف، وإنّما فعل ذلك (لعلّ) أي: رجاء (أن يسترجعا) بالبناء للمجهول؛ أي: يسترجع السبي أهله، فيرده لهم، ولكنه عليه الصّلاة والسّلام لمّا ترجى ذلك، وانتظر أهل السبي بضعة عشر يوما.. لم يفعلوا حتى قسمه في مستحقيه، ووقعت المقاسم مواقعها.
قدوم وفد هوازن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وردّه السبي إليهم:
وبعد ذلك قدم وفد هوازن، وهم أربعة عشر رجلا مسلمين، ورأسهم زهير بن صرد الخشمي، وأبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقالوا: يا رسول الله؛ إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك.
وقال زهير: يا رسول الله؛ إنّما في الحظائر عماتك وخالاتك، وحواضنك اللّاتي كنّ يكفلنك؛ أي: لأنّ مرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة كانت من هوازن، وقال له
أيضا: ولو ملحنا- أي: أرضعنا- للحارث بن أبي شمر أي: ملك الشام- أو للنعمان بن المنذر ملك العراق، ثمّ نزل منا بمثل ما نزلت به.. رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين، وأنشده أبياتا يستعطفه صلى الله عليه وسلم بها، وهي:
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر
أمنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزّق شملها في دهرها غير
يا خير طفل ومولود ومنتخب ... في العالمين إذا ما حصّل البشر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين تختبر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من مخضها الدّرر
إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنّا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنّا معشر زهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشّرر
إنّا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
إنّا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعف عفا الله عمّا أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحسن الحديث أصدقه، أبناؤكم ونساءكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، اردد علينا نساءنا وأبناءنا؛ فهم أحبّ إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنا صلّيت الظهر بالناس.. فقوموا فقولوا: إنّا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا» .
فلمّا صلّى الظهر.. قاموا فتكلّموا بما أمروا به، فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن أثنى على الله بما هو أهله:
«أمّا بعد: فإنّ إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإنّي رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحبّ أن يطيب بذلك.. فليفعل، ومن أحبّ منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا.. فليفعل» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب.. فهو لكم» فقال المهاجرون والأنصار
رضوان الله تعالى عليهم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم..
فلا، وقال عيينة بن حصن: أمّا أنا وبنو فزارة.. فلا، وقال العباس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم.. فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس بن مرداس: وهّنتموني- أي:
أضعفتموني حيث جعلتموني منفردا- ثمّ ردّ جميع السبي لأهله، إلّا عجوزا صارت إلى عيينة بن حصن، وقال حين أخذها: أرى عجوزا، إني لأحسب أنّ لها في الحي نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها، ثمّ ردها بعد ذلك بعشر من الإبل، أخذ ذلك من ولدها بعد أن ساومه فيها مئة من الإبل، وقال له ولدها: والله؛ ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوهها ببارد، ولا صاحبها بواجد- أي: بحزين لفراقها- ولا درها بناكد- أي: ليس لبنها بغزير- فقال عيينة: خذها، لا بارك الله لك فيها.
قال ابن برهان في «الحلبية» : (وذلك ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم على من أبى أن يرد من السبي شيئا أن يبخس؛ فإنّ ولدها دفع له فيها مئة من الإبل فأبى، ثمّ غاب عنه، ثمّ مرّ عليه معرضا عنه، فقال: خذها بالمئة، فقال:
لا أدفع إلّا خمسين، فأبى، فغاب عنه، ثمّ مرّ عليه معرضا عنه، فقال: خذها بخمسين، فقال: لا أدفع إلّا خمسة وعشرين، فأبى، فغاب عنه، ثمّ مرّ عليه معرضا عنه فقال:
خذها بالخمسة والعشرين، فقال: لا آخذها إلّا بعشرة- وفي رواية: إلّا بستة- ولمّا أخذها ولدها.. قال لعيينة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كسى السبي قبطية قبطية، فقال: لا والله؛ ما ذاك لها عندي، فما فارقها حتى أخذ لها ثوبا منه، والقبطية: بضم القاف ثوب أبيض من ثياب مصر) .
,
وقدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشيماء بنت الحارث السعدية أخته من الرضاع، وذكرت له أنّها أخته من الرضاع، بعلامة كان عليه الصّلاة والسّلام يعرفها، وهي عضة عضها في ظهرها وهي متوركته، فبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، وخيّرها بين أن تكون عنده محببة مكرمة، وبين أن ترجع إلى قومها ممتعة، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل.
قال في «العيون» : (فزعمت بنو سعد: أنّه أعطاها غلاما له اسمه مكحول، وجارية، فزوجت إحداهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، أسلمت وأسلم أبوها الحارث رضي الله عنهما) .
وإلى عفوه صلى الله عليه وسلم عن هوازن، وما لقيت أخته من الرضاع من الكرامة، والبر بها حسبما يليق بخلقه الشريف، أشار العارف «1» رضي الله عنه بقوله:
__________
(1) يعني البوصيري رحمه الله.
أعطى عطايا شهدت بالكرم ... يومئذ له ولم تجمجم
منّ فضلا على هوازن إذ كا ... ن له قبل ذاك فيهم رباء
وأتى السّبي فيه أخت رضاع ... وضع الكفر قدرها والسّباء
فحباها برّا توهّمت النّا ... س به أنّما السّباء هداء
بسط المصطفى لها من رداء ... أيّ فضل حواه ذاك الرداء
فغدت فيه، وهي سيدة النّس ... وة والسيدات فيه إماء
,
ثمّ أشار الناظم إلى مظهر آخر من مظاهر جوده عليه الصّلاة والسّلام في ذلك اليوم؛ بقسم الأموال العظيمة، وإعطاء المؤلفة قلوبهم أول الناس؛ ليرسخ الإيمان في قلوبهم فقال:
(أعطى عطايا) جساما (شهدت بالكرم يومئذ) أي: يوم حنين (له) أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بقوله: (شهدت) والمراد بالكرم هنا: النبوة؛ فإنّه لمّا أعطى صفوان ما أعطى.. قال: أشهد أنّه نبي؛ فإنّه لا تطيب بهذا إلّا نفس نبي (ولم تجمجم) معطوف على قوله: (شهدت) مأخوذ من التجمجم، وهو أن لا يظهر المتكلم كلامه؛ أي:
شهدت بالكرم تلك العطايا شهادة فصيحة ولم تكتمها.
قال الحافظ ابن سيد الناس في «العيون» : (فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية، ومئة من الإبل، قال: ابني يزيد؟ قال: أعطوه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، قال:
ابني معاوية؟ قال: أعطوه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، قال أبو سفيان- كما في «الإمتاع» -: إنّك لكريم، فداك أبي وأمي، والله؛ لقد حاربتك.. فنعم المحارب كنت، ثمّ سالمتك.. فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرا- وأعطى حكيم بن حزام مئة من الإبل، ثمّ سأله مئة أخرى فأعطاه.
وأعطى النّضر بن الحارث بن كلدة مئة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية الثقفي مئة من الإبل، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا.
وأعطى الحارث بن هشام مئة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية مئة من الإبل، وأعطى قيس بن عدي مئة من الإبل. وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل.
وأعطى سهيل بن عمرو مئة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزّى مئة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو العامري خمسين من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مئة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مئة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مئة من الإبل.
وكيف لا ومستمدّ سيبه ... من سيب ربّ ذي عناية به
وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعرا، فأعطاه مئة من الإبل، ويقال: خمسين.
وأعطى ذلك كله من الخمس، وهو أثبت الأقاويل عندنا، ثمّ أمر زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثمّ فضها على الناس، فكانت سهمانهم لكل رجل أربعا من الإبل أو أربعين شاة، فإن كان فارسا.. أخذ اثنتي عشرة من الإبل، أو عشرين ومئة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد.. لم يسهم له.
(وكيف لا) يعطي هذا العطاء الجم وأشباهه (ومستمد) أي: والحال أنّ مأخذ (سيبه) بفتح الأوّل؛ أي: عطائه (من سيب) أي: من عطاء (رب ذي عناية به) صلى الله عليه وسلم! وإذن فلا غرابة في ذلك؛ فقد أعطاه الله الدنيا والآخرة، وهو يعطي ما شاء لمن شاء، قال الله تعالى:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنّ عناية الله تعالى بسيدنا ونبينا صلى الله عليه وسلم فوق عنايته بغيره من الأنبياء والمرسلين؛ فإنه تعالى لم يقل مثل ذلك لغيره من النبيين.
أقول: ولو لم يكن من كرمه وجوده عليه ألف صلاة، وألف سلام إلّا وقوفه في ذلك اليوم العظيم، الذي يكون كل واحد مهتما فيه بنفسه، والأنبياء تقول: نفسي نفسي، وهو
عليه الصّلاة والسّلام يقول: «أمّتي أمّتي» حتى يخر ساجدا لله تعالى، ويلهمه الله ما يلهمه من الثناء الحسن، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفّع، فعند ذلك يشفع للأمة، لا بل لجميع الخلق في ذلك اليوم لإراحتهم من ذلك الموقف الهائل العظيم.. لكفى.
وفي بعض نسخ «الشفاء» : (قد قال أبو علي الدقاق، من شيوخ المتصوفة المشاهير وعلمائهم النحارير، وتكلّم في الفتوة، وهي غاية الكرم والإيثار، على رأيهم واصطلاحهم في ألفاظهم: إنّ هذا الخلق لا يكون بكماله إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كل أحد في القيامة يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «أمّتي أمّتي» فلو لم يكن من كرمه إلّا هذا.. لكفى، وكفى) .
وأظن أنّه لا ينازع في هذا أحد، فنسأل الله تعالى بمنّه وكرمه وجوده، وبنبيّ الرّحمة صلى الله عليه وسلم: أن يجعلنا ووالدينا ومشايخنا وأحبابنا ممّن كتبت له العناية والسعادة، وأن يدخلنا في شفاعته الخاصة والعامّة يوم القيامة، آمين.
قال الشيخ حماد في «روض النّهاة» : (أنشد الناظم رحمه الله تعالى قوله: «وكيف لا ومستمد سيبه» البيت، الفقيه محمّد بن المختار بن الفغ موسى، فقال: أنا ضامن لك الجنة بهذا البيت ولو لم يكن لك غيره من عمل، ثمّ أوصاني
أعطى عطايا أخجلت دلح الدّيم ... إذ ملأت رحب الفضا من النّعم
زهاء ألفي ناقة منها وما ... ملأبين جبلين غنما
لرجل وبله ما لحلقه ... منها ومن رقيقه وو رقه
رحمه الله تعالى إن أنا متّ.. فاكتبه في رقعة وادفنها معي، ولم أحضر مصيبتنا به) اهـ
عطاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤلّفة قلوبهم:
ولمّا كان المقام مقام إطناب.. أخذ الناظم في تفصيل بعض ما أجمله، فقال:
(أعطى عطايا أخجلت) وأدهشت لعظمها (دلح) بضم فسكون، جمع دلوح، قال في «الصحاح» : (وسحابة دلوح: كثيرة الماء، وسحائب دلح مثل قدوم وقدم) وهي مضافة إلى قوله: (الدّيم) بكسر الدال وفتح المثنّاة التحتية؛ أي: السحاب الغزيرة بالماء جمع ديمة؛ فإنّ تلك العطايا لعظمها وسماحة نفس معطيها، أوجبت محبته عليه الصّلاة والسّلام، والدخول في حظيرة الإسلام، فأيّ مناسبة في جوده المدرار وجود الديم الغزار (إذ ملأت) عطاياه (رحب الفضا) بالقصر للضرورة، وهو ما اتّسع من الأرض، وهو من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: ملأت الفضاء الرحب (من النعم) الإبل والبقر والغنم.
(زهاء) بضم الزاي؛ أي: مقدار (ألفي ناقة منها) أي: من النعم أعطاها للمؤلّفة قلوبهم كما تقدم، (وما) أي: وزهاء الذي (ملأ بين جبلين غنما لرجل) هو صفوان بن
أميّة؛ فإنّه أعطاه ذلك، وأعطاه مئة ناقة، وكان هرب يوم الفتح، وأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إليه مع وهب بن عمير بردائه- أو ببرده- أمانا له، فانصرف صفوان مع وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف، وناداه في جماعة الناس: يا محمّد؛ إنّ هذا وهب يزعم أنّك أمنتني على أن أسير شهرين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انزل أبا وهب» فقال: لا، حتى تبيّن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انزل، فلك مسيرة أربعة أشهر» ولمّا أعطاه ما أعطاه وأكثر.. قال: أشهد بالله؛ ما طابت بهذا إلّا نفس نبي، فكان سبب إسلامه.
روى مسلم في «صحيحه» عن أنس رضي الله عنه:
ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلّا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلّا الدنيا، فما يلبث إلّا يسيرا حتى يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما عليها.
(وبله) بفتح الباء، اسم فعل أمر بمعنى: دع (ما) أي: الذي أعطاه عليه الصّلاة والسّلام (لحلقه) بكسر الحاء وفتح اللام: جمع حلقة؛ أي: لقومه وجماعته من بني هاشم وبني المطّلب (منها) أي: من الغنم (ومن رقيقه وو رقه) أي: فضته.
منها أفاد العمّ ما ناء به ... فهال منه عمّه عن ثوبه
والحاصل: أنّ حديث جوده متواتر، وخبر كرمه مستفيض مشهور، وعن البحر حدّث ولا حرج.
عطاؤه صلى الله عليه وسلم لعمّه العباس:
(منها) أي: من العطايا التي أعطاها لجماعته من بني هاشم (أفاد) أعطى وأكسب (العم) وهو العباس رضي الله عنه (ما) أي: الشيء الكثير من المال الكثير الّذي (ناء به) أي: ثقل بالعباس أن يحمله على عظيم قوته، قال في «المختار» : (ناء بالحمل: نهض به مثقلا، وناء به الحمل: أثقله)
وطلب العباس من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعينه على حمله فلم يفعل (فهال) أي: صب (منه) أي: من المال في الأرض (عمه عن ثوبه) ليستطيع حمله؛ إذ لم يجد بدّا من ذلك.
وهذا الذي ذكره الناظم هنا فيه نظر؛ فإنّ المشهور: أنّ هذه القضية كانت بالمدينة، حين ورد مال البحرين على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عامله بها، وهو العلاء بن الحضرميّ، وكان أكثر مال أتى فنثر في المسجد، فأتاه العباس رضي الله عنه فقال: أعطني؛ فإنّي فاديت نفسي وعقيلا، فقال له صلى الله عليه وسلم: «خذ» فحثا في ثوبه، ثمّ ذهب ليقلّه- أي: ليحمله- فلم يستطع، فقال: مر من يرفعه عليّ، فقال: «لا» فقال: ارفعه أنت عليّ، فقال: «لا»
ووكل الأنصار خير العالمين ... لدينهم إذ ألّف المؤلّفين
فوجدوا عليه أن منعهم ... فأرسل النّبيّ من جمعهم
وقال قولا كالفريد المونق ... عن نظمه ضعف سلك منطقي
فنثر منه، ثمّ ذهب يقله فلم يقدر، فقال له كالأول، فنثر منه، ثمّ احتمله على كاهله وانطلق، فأتبعه صلى الله عليه وسلم بصره تعجّبا منه! ولم يقم عليه الصّلاة والسّلام حتى فرقه، فلم يبق منه درهم.
موقف الأنصار ورضاهم بما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد خطبته فيهم:
(ووكل) بصيغة الماضي المعلوم؛ أي: سلم (الأنصار خير العالمين) صلى الله عليه وسلم (لدينهم) أي: لقوته ولرسوخه في قلوبهم (إذ ألّف المؤلفين) من قريش وقبائل العرب بالعطايا، ولم يعط الأنصار شيئا.
(فوجدوا عليه) ل (أن منعهم) من ذلك، وقالوا: يغفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟! فحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقالتهم (فأرسل النبيّ من جمعهم) وهو سعد بن عبادة.
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله (وقال قولا) في نفاسته (كالفريد) هو الدر إذا نظم وفصل بغيره (المونق) الحسن المعجب (عن نظمه) في هذه الأرجوزة، وهو متعلق بقوله: (ضعف سلك) بكسر أوله، في الأصل: الخيط يجعل فيه اللؤلؤ، وهو مضاف إلى
قوله: (منطقي) وفيه استعارة حيث جعل لمنطقه سلكا يدخل فيه ما ينظمه من مسائل الفن، التي هي كالدرر.
وأشار بهذا إلى ما ذكره ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: (لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء.. وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله؛ إنّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال:
«فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله؛ ما أنا إلّا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» قال:
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة.
قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلمّا اجتمعوا.. أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال:
«يا معشر الأنصار؛ ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة
فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثمّ قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؛ لله ولرسوله المنّ والفضل، قال صلى الله عليه وسلم: «أمّا والله؛ لو شئتم.. لقلتم ولصدقتم: أتيتنا..- كذا وكذا- أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألّفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الّذي نفس محمّد بيده؛ لولا الهجرة.. لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا.. لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثمّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقوا) .
وفي الصحيح: (أنّهم لمّا سئلوا: «ما حديث بلغني عنكم؟» قال فقهاء الأنصار: أمّا رؤساؤنا.. فلم يقولوا شيئا، وأمّا ناس منا حديثة أسنانهم.. فقالوا: يغفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا.. إلخ، ولذلك قال الحافظ في فوائد هذه المقالة، بين هذا الأب الرحيم وأبنائه البررة:
منها: حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أنّ الذي نقل عنهم إنّما كان عن شبانهم، لا عن شيوخهم وكهولهم.
وفيه: مناقب عظيمة لهم؛ لما اشتمل عليه من ثناء الرسول البالغ عليهم، وأنّ الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق.
وفيه: المعاتبة، واستعطاف المعاتب، وإعتابه عن عتبه.
وفي الصحيح زيادة: (أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال لهم في خاتمة كلامه معهم: «ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّي على الحوض» ) اهـ ففيه علم من أعلام النبوة؛ إذ كان ما قال عليه الصّلاة والسّلام.
وقد صحّ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (بينا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من حنين.. علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة، فعلقت رداءه- أو كلمة تشبهها- قال: فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما.. لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» ) انظر «صحيح البخاري» .
,
ولمّا دارت الهزيمة على هوازن، وفرغ عليه الصّلاة والسّلام من حنين.. بعث في طلب الفارين من هوازن إلى
وأدرك الفلّ بأوطاس السّري ... عمّ أبي موسى الشّجاع الأشعري
وغال تسع إخوة مبارزه ... وفرّ عاشر لدى المبارزه
أوطاس «1» أبا عامر الأشعري، وانتهى إليهم فإذا هم مجتمعون، فقتل منهم أبو عامر تسعة إخوة مبارزة وهرب العاشر، ورمي أبو عامر بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وهزمهم الله، وإلى هذه الإشارة يقول الناظم رحمه الله تعالى:
(وأدرك الفلّ) بفتح الفاء؛ أي: الجماعة المنهزمين؛ أي: بعضهم، قال في «القاموس» و «شرحه» : (قوم فلّ:
منهزمون، يستوي فيه الواحد والجمع) (بأوطاس) يتعلق بأدرك (السريّ) : الشريف، وهو فاعل أدرك (عم أبي موسى) على الأشهر الذي قاله في «الفتح» واسمه:
عبيد بن سليم بتصغيرهما، ويكنى بأبي عامر (الشجاع الأشعري) صفتان للعم، وذلك أنّهم لمّا انهزموا أتوا الطائف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة.. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر في آثار من توجه قبل أوطاس، وناوشوه القتال.
(وغال) أي: قتل (تسع إخوة) حال كون القتال
__________
(1) ذكر ابن إسحاق: (أنّ هوازن لما انهزموا.. سارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نخلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس، - كما يدل عليه الحديث الصحيح في «البخاري» - ثمّ توجه هو وعساكره إلى الطائف) اهـ فوادي أوطاس، غير وادي حنين.
وإذ توى دوّخهم حفيده ... وجاء بالفلّ وهم عبيده
(مبارزة) واحدا بعد واحد (وفر عاشر لدى) أي: عند (المبارزة) .
(وإذ توى) مات أبو عامر، قيل: رمي بسهم فقتل، قال ابن سعد: قتل أبو عامر تسعة مبارزة، ثمّ برز العاشر معلما بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله (دوّخهم) أذلهم (حفيده) ابن أخيه، وهو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (وجاء بالفلّ) أي: المهزومين (وهم) أي:
الفلّ (عبيده) .
دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأبي عامر:
قال في «المواهب» : (لمّا قتل أبو عامر.. خلفه أبو موسى الأشعريّ، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبي عامر، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ اغفر لأبي عامر، واجعله من أعلى أمّتي في الجنة» ) .
وفي «البخاري» : (قال- يعني أبا عامر لأبي موسى لمّا رمي بالسهم-: يابن أخي؛ أقرئ النّبيّ صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له استغفر لي، ثمّ مات، فرجعت، فدخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته وهو على سرير مرمّل وعليه فراش، قد أثر رمال السرير في ظهره وجنبه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وأنّه قال: قل له استغفر لي، فدعا بماء فتوضّأ، ثمّ رفع يديه، وقال: «اللهمّ؛ اغفر لعبيد أبي عامر» ورأيت بياض إبطيه، ثمّ قال: «اللهمّ؛ اجعله يوم
القيامة في الجنة فوق كثير من خلقك من الناس» فقلت: ولي فاستغفر، قال: «اللهمّ، اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما»
قال أبو بردة- يعني ابن أبي موسى راوي الحديث-:
إحداهما- أي الدعوتين- لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى) اهـ
والمرمل- براء مهملة، ثمّ ميم مثقلة- أي: معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرة.
ويستفاد من هذا الحديث: استحباب الطهارة لإرادة الدعاء، ورفع اليدين في الدعاء. اهـ
,
وهو: أنّ دعثورا جمع الجموع من بني ثعلبة، يريدون أن
وهو الّذي وجد خير مرسل ... يجفّ ثوبين له بمعزل
يصيبوا من أطراف بلاده صلى الله عليه وسلم، فلمّا علم ذلك.. ندب صلى الله عليه وسلم المسلمين، فخرج في أربع مئة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فلمّا سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم.. هربوا في رؤوس الجبال، فأصابوا رجلا منهم من بني ثعلبة اسمه: جبّار «1» ، وبالجيم وشدّ الموحدة، فأدخله الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره من خبر القوم، وقال: لن يلاقوك، ولما سمعوا بمسيرك إليهم..
هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، وضمّه إلى بلال ليعلّمه الشرائع.
,
وسبب هذا الاستنفار: ما ذكره الحافظ اليعمريّ في «العيون» وجزم به: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزديّ- أحد بني لهب- بكتابه إلى الشام، إلى ملك الروم، وقيل: إلى ملك بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسّانيّ، فأوثقه رباطا، ثم قدّم فضرب عنقه صبرا، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فاشتدّ ذلك عليه حين بلغه الخبر عنه فبعث هذا الجيش) .
وأمّر عليه واحدا، ثمّ واحدا، من ثلاثة على الترتيب، كما قال: (عليه أمّرا زيد بن حارثة، ثمّ جعفرا) إن أصيب زيد (فابن رواحة) عبد الله، إن أصيب جعفر بن أبي طالب، ومن هنا سمّي هذا الجيش بجيش الأمراء.
روى أحمد والنّسائي- وصححه ابن حبان- من حديث
أبي قتادة: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء: وقال: «عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد..
فجعفر ... » الحديث، وفيه: فوثب جعفر وقال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ زيدا، قال: «امض؛ فإنّك لا تدري أيّ ذلك خير» ) .
قال الشهاب في «المواهب» : (وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وهو مؤتة، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا، وإلّا.. استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم) .
قال الزرقاني: (فأسرع الناس بالخروج، وعسكروا بالجرف، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيّعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودّعهم) .