فَصْلٌ
فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ موسى بن عقبة: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، مَكَثَ بِهَا عِشْرِينَ ليلة أو قريبا منها، ثم خرج إلى خيبر، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سباع بن عرفطة، وَقَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ حِينَئِذٍ الْمَدِينَةَ فَوَافَى سباع بن عرفطة فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ فِي الأولى (كهيعص) ، وفي الثانية
_________
(1) سورة الفتح، الآية: 20.
(ويل للمطففين) فقال في صلاته: " ويل لأبي فلان، له مكيلان إذا كال كال بالناقص، وإذا اكتال اكتال بالوافي "، ثم زودوا سباعا، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم، ولما قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، ثم ركب الْمُسْلِمُونَ فَخَرَجَ أَهْلُ خَيْبَرَ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، وَلَا يَشْعُرُونَ بَلْ خَرَجُوا لِأَرْضِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجَيْشَ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، ثُمَّ رَجَعُوا هاربين إلى مدينتهم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قوم، فساء صباح المنذرين» .
ثم ذكر حديث إعطائه عَلِيًّا الراية، ومبارزته مرحبا، وذكر قصة عامر بن الأكوع، ثم حصرهم، فجهد المسلمون، فذبحوا الحمر فنهاهم، ثم صالحوه عَلَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ ركابهم، وله الصفراء والبيضاء، واشترط أن من كتم أو غيب، فلا ذمة له وَلَا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لحيي بن أخطب كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خيبر، ثم ذكر الحديث، فلما أراد إجلاءهم قالوا: دعنا فيها، فأعطاهم إياها على شطر ما يخرج منها ما بدا له أن يقرهم، ولم يقتل بعد الصلح إلا ابن أبي الحقيق الناكث.
وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية، وكانت تحت ابن أبي الحقيق، وعرض عليها الإسلام، فأسلمت فأعتقها، وجعل عتقها صَداقها.
وقسم خيبر على ستة وثلاثين سهما، كل سهم مائة سهم، فكان له وللمسلمين النصف، والنصف الآخر لِنَوَائِبِهِ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، قال البيهقي: وهذه خَيْبَرَ فُتِحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً وَشَطْرُهَا صُلْحًا، فَقَسَمَ ما فتح عنوة بين أهل الخميس وَالْغَانِمِينَ، وَعَزَلَ مَا فُتِحَ صُلْحًا لِنَوَائِبِهِ وَمَا يحتاج إليه من أمور المسلمين، وهذا بناء منه على أصل مذهب الشافعي أنه يجب قسم الأرض المفتتحة عنوة.
ومن تأمل تبين أنها كلها عنوة، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، والإمام مخير في الأرض بين قسمها ووقفها، وقسم بعضها ووقف بعض، وقد فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ، فَقَسَمَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، وَلَمْ يَقْسِمْ مَكَّةَ، وَقَسَمَ شَطْرَ خيبر، وترك شطرها، ولم يغب من أهل الحديبية إلا جابر فقسم له، وقدم عليه جعفر وأصحابه، ومعهم
الأشعريون، وسمته امرأة من اليهود في ذراع شاةٍ أهدته له، فلم يعاقبها، وقيل: قتلها بعدما مات بشر بن البراء، وكان بين قريش تراهن، منهم من يقول: يظهر محمد وأصحابه، ومنهم من يَقُولُ: يَظْهَرُ الْحَلِيفَانِ وَيَهُودُ خَيْبَرَ، وَكَانَ الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم، وشهدها، ثم ذكر قصته.
وفيها من الفقه القتال في الأشهر الحرم؛ لأنه خرج إليها في المحرم، ومنها قسم المغانم للفارس ثلاثة، وللراجل سهم، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِآحَادِ الْجَيْشِ إِذَا وَجَدَ طعاما أن يأكله، ولا يخمسه لأخذ ابن المغفل جراب الشحم الذي ولى يوم خيبر، ومنها أن المدد إذا لحق بعد الحرب لا يُسهم له إلا بإذن الجيش؛ لأنه كلم أصحابه في أهل السفينة.
ومنها تحريم لحوم الحمر الإنسية، وعلل بأنها رجس، وهذا مقدم على من علل بغير ذلك، كقول من قال: إنها لم تخمس، أو إنها تأكل العذرة.
وَمِنْهَا جَوَازُ عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ عَقْدًا جَائِزًا لِلْإِمَامِ، فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، وَمِنْهَا جَوَازُ تَعْلِيقِ عَقْدِ الصلح والأمان بالشرط، وتقرير أرباب التهم بالعقوبة.
ومنها الأخذ بالقرائن لقوله. " المال كثير، والعهد قريب "، وأن مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ على كذبه، لم يلتفت إلى قوله.
وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا خَالَفُوا شَيْئًا مما شُرِط عليهم لم تبق لهم ذمة، وأن من أخذ من الغنيمة قبل القسمة لم يملكه وإن كان دون حقه، لقوله: «شراك من نار» .
ومنها جواز التفاؤل، بل استحبابه كَمَا تَفَاءَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برؤية بالمساحي وَالْفُؤُوسِ وَالْمَكَاتِلِ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فأل في خرابها، وأن النقض يسري في حق النساء والذرية إذا كان الناقضون طائفة لهم شوكة، أما إذا كان وَاحِدًا مِنْ طَائِفَةٍ لَمْ يُوَافِقْهُ بَقِيَّتُهُمْ فَهَذَا لَا يَسْرِي النَّقْضُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، كَمَا أن من أهدر دماءهم ممن يسبه لم يسر إلى نسائهم وذريتهم، فهذا هديه في هذا وهذا.
وَمِنْهَا جَوَازُ عِتْقِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صداقها وَيَجْعَلُهَا زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَلَا شُهُودٍ، وَلَا ولي، ولا لفظ تزويج، وكذب الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان متوصلا به إلى حقه كما فعل الحجاج، ومنها قبول هدية الكافر.
ثم انصرف إِلَى وَادِي القُرى وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ يهود، «فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي، فقُتِل مدعم عَبْدُ رَسُولِ
الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هنيئا له الجنة، فقال: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المقاسم لتشتعل عليه نارا.»
ثم عبأ أصحابه ودعا أهل الوادي إلى الإسلام، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير فقتله، ثم برز رجل آخر، فبرز إليه علي فَقَتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ دَعَا مَنْ بَقِيَ إلى الإسلام، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَمْسَوْا وَغَدَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَرْتَفِعِ الشمس قدر رُمْحٍ حَتَّى أَعْطَوْا مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وعامل اليهود على الأرض والنخل، فلما بلغ يهود تيجاء ما وطئ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم، وما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراء ذلك من الشام، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطريق عرس، وقال لبلال: «اكلأ لنا الفجر» وذكر الحديث. وروي أنها في مرجعه من الحديبية، وقيل: مرجعه من تبوك.
ففيه أَنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها والرواتب تقضى، وأن الفائتة يؤذَّن لها ويُقام، وقضاء الفائتة جماعة، وأن القضاء على الفور لقوله: «فليصلها إذا ذكرها» وتأخيرها عن المعرس؛ لأنه مكان الشيطان، فارتحل إِلَى مَكَانٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يُفَوِّتُ المبادرة، فإنهم في شغل الصلاة وفي شأنها.
وفيه تَنْبِيهٌ عَلَى اجْتِنَابِ الصَّلَاةِ فِي أَمْكِنَةِ الشَّيْطَانِ كالحمام بطريق الأولى.
ولما رجعوا رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، وأقام بالمدينة إلى شوال يبعث السرايا، «منها سرية ابن حذافة الذي أمر أصحابه بدخول النار، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ في المعروف» . فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ دَخَلُوهَا دَخَلُوهَا طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي ظَنِّهِمْ، فَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ مُخْطِئِينَ، فَكَيْفَ يخلدون فيها؟ قيل: لما هموا بالمبادرة من غير اجتهاد منهم مع علمهم أن الله نهاهم عن قتل أنفسهم لم يعذروا. وإذا كان هذا فيمن عذب نفسه طاعة لولي الأمر المأمور بطاعته، فكيف بمن عَذَّبَ مُسْلِمًا لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ طَاعَةً لِوَلِيِّ الأمر؟ وإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها ما خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ قَصْدِهِمْ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِذَلِكَ الدُّخُولِ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا لا يجوز
من الطاعة الرغبة والرهبة الدنيوية؟ وكيف بمن دخلها من إخوان الشيطان، وأوهموا الجهال أنه من ميراث إبراهيم الخليل عليه السلام؟! .
[