(ثمّ) بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية..
أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم، كما قاله ابن إسحاق، وخرج في بقية منه متوجها (لخيبر) ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة إلّا شهر وأيام.
وخيبر بوزن جعفر ذكر أبو عبيد البكري في «معجمه» :
(أنّها سميت باسم رجل من العماليق، وهو خيبر بن قانية بن مهلائيل، وهو أول من نزلها) اهـ
واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي فيما قال ابن هشام؛ وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، إلى ناحية الشام، على نحو أربعة أيام بالسّير المعتدل من المدينة على
الإبل، وبالسيارة أربع ساعات؛ لعدم تعبيد الطريق، أمّا اليوم فقد عبّد، فكان المسير فيه نحو ساعة بالسيارة.
وكان الله تعالى وعده خيبر وهو بالحديبية، قال ابن كثير:
(قال شعبة عن الحكم، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، في قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال: خيبر) .
قال ابن برهان الحلبي في «سيرته» : (واستنفر صلى الله عليه وسلم من حوله ممّن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في الحديبية؛ ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: «لا تخرجوا معي إلّا راغبين في الجهاد، فأمّا الغنيمة.. فلا» ثمّ أمر مناديا ينادي بذلك، فنادى به) اهـ
وخرجت معه أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكانت معه في الحديبية كما تقدم.
منازل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طريقه إلى خيبر:
قال ابن إسحاق: (وحين خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر.. سلك على عصر «1» ، وبنى له فيها مسجدا، ثمّ على الصّهباء، ثمّ أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له: الرجيع «2» ، فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان؛
__________
(1) بكسر الصاد: جبل بين المدينة ووادي الفرع، وعنده مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ «قاموس» وشرحه «التاج» مادة (عصر) .
(2) هو بقرب خيبر، غير الرجيع الذي لهذيل بناحية مكة، حيث غدرت فيه عضل والقارة.
ليحول بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
,
فبلغني: أنّ غطفان لما سمعوا بذلك.. جمعوا له، ثمّ خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة.. سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسّا ظنوا أنّ القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر) .
قال الإمام البخاريّ: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: أنّ سويد بن النعمان أخبره أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء- وهي أدنى من خيبر- صلى العصر، ثمّ دعا بالأزواد، فلم يؤت إلّا بالسّويق، فأمر به فثرّي، وأكل فأكلنا، ثمّ قام إلى المغرب، فمضمض، ثمّ صلّى ولم يتوضّأ) .
دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على خيبر:
قال ابن إسحاق: (وحدّثني من لا أتهمه، عن عطاء بن أبي مروان الأسلميّ، عن أبيه معتّب بن عمرو: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أشرف على خيبر.. قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا» ثمّ قال: «اللهمّ ربّ السماوات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، وربّ
الرياح وما أذرين؛ فإنّا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا باسم الله» قال: وكان يقولها عليه الصّلاة والسّلام لكل قرية دخلها) .
وقال الإمام البخاري: (حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا مالك عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا، وكان إذا أتى قوما بليل.. لم يغربهم حتى يصبح، فلمّا أصبح.. خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلمّا رأوه.. قالوا: محمّد والله، محمّد والخميس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم.. فساء صباح المنذرين» ) .
,
(ورشّح) أي: قدّم (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم لأخذ الراية لفتح خيبر (حيدرة) يعني: عليّا حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الراية رجلا يحبّه الله ورسوله» (وبالعقاب) بضم العين؛ أي: بالراية المسمّاة بالعقاب، قال الشهاب في «المواهب» : (وهي راية النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي سوداء من برد لعائشة رضي الله عنها) (قد حبي) قد خصّ ومنح.
وأشار الناظم إلى ما رواه البخاري عن سلمة قال: (كان
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد تخلّف عن النّبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟! فلحق به، فلمّا بتنا الليلة التي فتحت خيبر في صبيحتها.. قال: «لأعطينّ الراية غدا- أو ليأخذنّ الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله يفتح له» وفي رواية ابن إسحاق: «ليس بفرار» وفي حديث بريدة: «لا يرجع حتى يفتح الله له» فلمّا أصبح الناس.. غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: يا رسول الله؛ هو يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتي به، فبصق صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع) .
وروى البخاري أيضا عن سهل بن سعد رضي الله عنه:
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطينّ هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله» قال سهل: فبات الناس يدوكون- أي:
يخوضون- ليلتهم أيّهم يعطاها.
فلمّا أصبح الناس.. غدوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كلّهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال:
«فأرسلوا إليه» فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال عليّ: يا رسول الله؛ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «انفذ على رسلك- بكسر الراء؛ أي: على هينتك- حتى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه، فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلا واحدا.. خير من أن يكون لك حمر النّعم» ) «1» .
وزاد مسلم في «صحيحه» من حديث إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع: (وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهّب
فقال عليّ:
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أو فيهم بالصّاع كيل السّندره
قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثمّ كان الفتح على
__________
(1) فيه: أنّ تأليف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله، فينبغي سلوك الطرق الحكيمة إلى الهداية المنشودة، وهذه الخلة من محاسن الدين الحنيف، رزقنا الله التمسك بأهدابه وآدابه، آمين. كما أنّ الوصية الحقة لجديرة أن تقطع ألسنة الأفّاكين الزاعمين أنّ الإسلام إنّما قام على السيف والقوة، ولم ينتشر بالسلام والرحمة، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.
وفاز بالفتح وكان ترّسا ... بباب حصن لا يزاح إذ رسا
يديه) كما قال الناظم: (وفاز بالفتح) وظفر بالنصر.
تترّس عليّ بباب الحصن:
(وكان) عليّ رضي الله عنه (ترّسا بباب حصن) هو القموص- بفتح القاف، وضم الميم- أي: اتخذ باب الحصن ترسا ووقاية من العدو، وعند القتال (لا يزاح) أي:
لا ينحّى، ولا يذهب به (إذ رسا) وثبت في الأرض؛ لعظم الباب.
ويشير الناظم بهذا إلى ما رواه ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن حسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع قال:
خرجنا مع عليّ حين بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم برايته، فلمّا دنا من الحصن.. خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه رجل من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ بابا كان عند الحصن، فترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنا في نفر سبعة معي، أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فلم نقلبه) اهـ
قال الشهاب في «المواهب» : (وفي رواية البيهقي: أنّ عليّا لمّا انتهى إلى الحصن.. اجتذب أحد أبوابه، فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا، فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه) اهـ
قلت: والأحاديث في هذا الباب وإن كانت ضعيفة- كما
نقله الشهاب عن شيخه السخاويّ- إلّا أنّها تقبل في باب المناقب والفضائل، كما هو معلوم ومقرر في محله.
وفي هذه القصة لطيفة، وهي: أنّ من طلب شيئا أو تعرض لطلبه.. يحرمه غالبا، وأنّ من لم يطلب شيئا ولم يتعرض لطلبه.. ربما وصل إليه.
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ... يوما ويمنعه من حيث يطعمه
,
الأولى: قال الحافظ في «الفتح» : (صرح جماعة من اللغويين بترادف الراية واللواء، وهو العلم الذي يحمل في الحرب) لكن روى أحمد والتّرمذيّ عن ابن عباس، والطّبراني عن بريدة، وابن عديّ عن أبي هريرة، قالوا: (كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. زاد أبو هريرة: مكتوب فيها لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله) وهو ظاهر في التغاير، وبه جزم ابن العربيّ فقال: (اللواء خلاف الراية، فاللواء: ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفعه الرياح، فلعلّ التفرقة بينهما عرفية، وقد ذكره ابن إسحاق- وكذا أبو الأسود- عن عروة: أنّ أوّل ما وجدت الرايات يوم خيبر، وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلّا الألوية) .
وفي المصباح: (لواء الجيش: علمه، وهو دون الراية) .
,
الثانية: الحصون التي فتحها الله لرسوله بخيبر هي:
حصن ناعم: وهو أول حصونهم فتحا، كما قاله ابن إسحاق.
والقموص: بفتح القاف وضم الميم، هو الذي فتحه عليّ.
قال في شرح المواهب: (وهو أعظم حصون الكتيبة) وفيه سبيت صفية رضي الله عنها، وكانت تحت كنانة بن الرّبيع بن أبي الحقيق.
وحصن الصعب بن معاذ: قال ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّه حدّثه بعض أسلم: أنّ بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله يا رسول الله؛ لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال:
«اللهمّ؛ إنّك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا» فغدا الناس، ففتح الله عزّ وجلّ عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه) اهـ
وحصن قلعة الزّبير: الذي صار في سهمه بعد.
قال في «شرح المواهب» : (وكان اسمه حصن قلّة؛ لكونه كان على رأس جبل) .
وحصن الوطيح: بالتكبير، سمي بالوطيح بن مازن:
رجل من ثمود، نقله في «شرح المواهب» عن البكري.
والسّلالم: بضم السين المهملة، قال ابن إسحاق فيه والذي قبله: (وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا) .
واعلم: أنّ الوطيح والسّلالم من حصون خيبر، اختصّ بهما من بقي من أهل خيبر، حتى صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقرّهم لعمارة الأرض، ولهم نصف ما تثمر، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نقركم ما شئنا» ثمّ أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه.
,
(وغلّ) عليّ بن أبي طالب، بمعنى: أوثق (قاتل) محمود، بإلقاء رحى من حصن ناعم (سليل) أي: ابن (مسلمة) بن خالد بن عديّ، ودفعه لأخيه، كما قال (لصنوه) أي: شقيق محمود، وأبدل من (صنوه) قوله:
(محمّد) فالجار والمجرور يتعلق بقوله: (وأسلمه) بصيغة الماضي المعلوم، بمعنى: أعطاه لشقيقه محمّد.
قال في «العيون» بسنده إلى ابن عمر: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ اليهود قتلوا أخي، فقال: «لأدفعنّ الراية إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، فيفتح الله عزّ وجلّ عليه، فيمكنه الله من قاتل أخيك» فبعث إلى عليّ رضي الله عنه، فعقد له اللواء، فقال: يا رسول الله؛ إنّي أرمد كما ترى، قال: وكان يومئذ أرمد، فتفل «1» في عينيه، قال عليّ رضي الله عنه: فما رمدت بعد يومئذ!
__________
(1) أشار إلى التفل صاحب «الهمزية» وأجاد بقوله:
وعلي لما تفلت بعيني ... هـ وكلتاهما معا رمداء
فغدا ناظرا بعيني عقاب ... في غزاة لها العقاب لواء
والعقاب الأول اسم طائر.
وغال مرحبا وقدّ حجرا ... من يابس الصّخر به تمغفرا
قال العوّام- يعني ابن حوشب أحد رواة الحديث-:
فحدّثني جبلة بن سحيم- أو حبيب بن أبي ثابت- عن ابن عمر، قال فمضى بذلك الوجه، فما تتامّ آخرنا حتى فتح الله على أولياء الله، فأخذ عليّ رضي الله عنه قاتل الأنصاري، فدفعه إلى أخيه، فقتله الرجل الأنصاريّ، وهو محمّد بن مسلمة.
,
(وغال) أي: قتل علي بن أبي طالب (مرحبا) بوزن منبر كما ضبطه شارح «القاموس» وهو بطل يهود خيبر، وكان قد خرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، كما قال الناظم: (وقدّ) بتشديد الدال؛ أي: وكان قد قطع مرحب (حجرا من يابس الصخر) أي: من الصخر اليابس والحجر الصلب (به) أي: بذلك الحجر، وهو متعلق بقوله: (تمغفرا) بألف الأطلاق أي:
تمغفر به؛ أي: جعله مغفرا- بكسر الميم-: وهو ما يجعله المتسلح تحت قلنسوته «1» .
,
وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله:
(وإذ ترحّم) عليه بقوله ذلك (للإنشاد) لذلك الرجز،
__________
(1) في «صحيح مسلم» بلفظ: «اللهمّ» قال الإمام النووي: (كذا الرواية، قالوا: وصوابه: لاهم، أو تالله، أو والله، كما في الحديث الآخر: «فو الله لولا الله» ) اهـ
واستشعر الفاروق أن يستشهدا ... وأخبر الهادي به باد بدا
فقوله: (عليه) ، متعلق ب (ترحّم) (هلك) أي: مات، نظيره قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ الآية من (سورة غافر) (من رجوع سيفه) أي: عامر (إليه) وهو يقاتل، فأصاب ركبته.
(واستشعر) أي: فطن سيدنا عمر (الفاروق) بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، من قوله صلى الله عليه وسلم ذلك (أن يستشهدا) بالبناء للمفعول؛ أي: في هذه الغزوة (وأخبر) بالبناء للمفعول (الهادي) صلى الله عليه وسلم (به) أي: بموت عامر برجوع سيفه عليه (باد) بالتنوين (بدا) بصيغة الماضي، بمعنى: أول كل شيء، وهذه الكلمة فيها لغات كثيرة، وذكرها في «القاموس» في مادة (بدأ) وضبطها السيد الزّبيدي في «شرحه» ضبطا يرجع إليه؛ فإنّ النسخ من «القاموس» في هذا الموضع في اختلاف شديد، ومصادمة بعضها مع بعض، فليكن الناظر على حذر منها.
قال الإمام البخاريّ في «الصحيح» من حديث طويل، من رواية يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع وفيه: (فلمّا تصافّ القوم.. كان سيف عامر قصيرا، فتناول به ساق يهوديّ ليضربه، فرجع ذباب سيفه أي: طرفه الأعلى- فأصاب عين ركبة عامر فمات منه، قال: فلمّا قفلوا- أي: رجعوا من خيبر- قال سلمة: رآني
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، فلمّا رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شاحبا- أي: متغير اللون- قال: «مالك؟» قلت له: فداك أبي وأمي، زعموا أنّ عامرا حبط عمله، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كذب من قاله، وإنّ له لأجرين- وجمع بين إصبعيه- إنّه لجاهد مجاهد، قلّ عربي مشى بها مثله» ) اهـ، والضمير في قوله «بها» للأرض أو المدينة، أو الحرب، أو الخصلة.
وقال ابن إسحاق: (حدّثني محمّد بن إبراهيم التّيمي، عن أبي الهيثم بن نصر الأسلمي، أنّ أباه حدّثه: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، وكان اسم الأكوع سنانا: «انزل يا ابن الأكوع، فخذ لنا من هناتك» قال: فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم:
والله لولا الله ما اهتدينا ...
إلى آخر الأبيات، فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله» فقال عمر بن الخطاب: وجبت والله يا رسول الله، لو أمتعتنا به، فقتل يوم خيبر شهيدا، وكان قتله فيما بلغني: أنّ سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه- أي: جرحه- كلما شديدا، فمات منه، فكان المسلمون قد شكّوا فيه، وقالوا:
إنّما قتله سلاحه، حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأخبره بقول
وقتلت تسعون من يهودا ... واستشهدت (يه) ولا مزيدا
الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه لشهيد» وصلّى عليه، فصلّى عليه المسلمون. قال في «روض النّهاة» : (لأنّه تأخّر موته عن المعركة) .
(وقتلت) في غزوة خيبر (تسعون) بفوقية قبل السين (من يهودا) لعنهم الله تعالى، وزاد في «العيون» كابن سعد عليها ثلاثة فقال في «الطبقات» : (وقتل منهم ثلاثة وتسعون رجلا من يهود: الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبي الحقيق، وأخوه، وإنّما ذكرنا هؤلاء وسميناهم لشرفهم؛ أي: في قومهم) .
,
(واستشهدت) من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم (يه) أي: خمسة عشر (ولا مزيدا) عليها.
قال ابن سعد في «الطبقات» : (واستشهد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر: ربيعة بن أكثم، وثقف بن عمرو بن سميط، ورفاعة بن مسروح، وعبد الله بن الهبيب حليف لبني أسد بن عبد العزّى- ومحمود بن مسلمة، وأبو ضياح بن ثابت بن النعمان من أهل بدر، والحارث بن حاطب من أهل بدر، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس بن القائد، وأنيف بن حبيب، ومسعود بن سعد بن قيس، وبشر بن البراء بن معرور- مات من الشاة المسمومة- وفضيل بن النعمان، وعامر بن الأكوع- أصاب نفسه، فدفن
هو ومحمود بن مسلمة في غار واحد بالرجيع بخيبر- وعمارة بن عقبة بن عباد بن مليل، ويسار العبد الأسود، ورجل من أشجع، فجميعهم خمسة عشر رجلا) .
قلت: بالعدّ يظهر أنّهم يزيدون على ذلك، والعلم عند الله تعالى.
,
قال ابن إسحاق: (وكان من حديث الأسود الراعي «1» فيما بلغني عنه: أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم له، كان فيها أجيرا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله؛ اعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه، فلمّا أسلم.. قال: يا رسول الله؛ إنّي كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: «اضرب في وجوهها، فإنّها سترجع إلى ربها» أو كما قال، فقام الأسود، فأخذ حفنة من الحصى، فرمى بها في وجوهها وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا،
__________
(1) هو الذي سمّاه ابن سعد بيسار العبد الأسود، وقد سمّاه أبو نعيم كذلك يسارا، وسمّاه غيره أسلم. قال الحافظ في «الإصابة» : (قال الرشاطي في «الأنساب» : أسلم الحبشي أسلم يوم خيبر، وقاتل فقتل وما صلّى صلاة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ معه الآن زوجتيه من الحور العين» ) اهـ
ومرّ راجعا إلى وادي القرى ... فشاطرت يهوده خير الورى
فخرجت مجتمعة كأنّ سائقا يسوقها، حتى دخلت الحصن على ربها، ثمّ تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلّى لله صلاة قطّ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع خلفه، وسجّي بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، ثمّ أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله؛ لم أعرضت عنه؟ قال: «إنّ معه الآن زوجتيه من الحور العين، تنفضان التراب عن وجهه» وتقولان: ترّب الله وجه من ترّبك، وقتل من قتلك» ) .