ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهر ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا.
وهى غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: لأجل شجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع. وقيل: لما كانوا يعصبون على أرجلهم من الخرق إذ نقبت أقدامهم.
فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بهم.
وفى هذه الغزوة عرض له رجل من محارب يقال له: غورث، وقد قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه فى حجره فقال: يا محمد، أنظر إلى سيفك هذا؟
قال: «نعم» «5» . فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم به فيكبته الله، ثم قال: يا محمد، أما
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (9233) .
(2) انظر ترجمته فى: الإكمال (1/ 3960) ، الإصابة ترجمة رقم (10010) ، أسد الغابة (5955) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 76) .
(4) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 395) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 43) ، تاريخ الطبرى (2/ 55) ، الكامل (2/ 66) ، دلائل النبوة (3/ 369) ، البداية والنهاية (4/ 83) .
(5) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 9، 10، 13، 7/ 189، 1/ 5، 16، 63، 153) ، صحيح مسلم (42، 44، 56، 61، 167، 251، 275) ، سنن الترمذى (669، 726، 1204) ، سنن ابن ماجه (181، 557، 842، 1235، 1414، 435، 550، 696، 973، 1135، 1254، 1759، 1835، 2716، 2717، 1425، 1475، 1476، -
تخافنى؟ قال: «لا والله ما أخاف منك» . قال: أما تخافنى وفى يدى السيف؟ قال: «بلى يمنعنى الله منك» «1» . ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه.
فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة: 11] .
وقيل: إنها إنما نزلت فى عمرو بن جحاش وما هم به من إلقاء الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وصل إلى بنى النضير مستعينا بهم فى دية العامريين. فالله أعلم أى ذلك كان.
وحدث جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف أن لا ينتهى حتى يهريق فى أصحاب محمد دما، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال: «من رجل يكلؤنا «2» ليلتنا؟» «3» قال: فانتدب رجل من المهاجرين، قيل: هو عمار بن ياسر، ورجل من الأنصار، قيل: هو عباد بن بشر، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصارى
__________
- 1510، 1718، 1915، 1945، 2907، 3236، 3451) ، مسند الإمام أحمد (1/ 27، 2041، 5/ 100) ، سنن الدارمى (1/ 12) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 158، 168، 442، 9/ 43) ، مستدرك الحاكم (2/ 214) ، مصنف ابن أبى شيبة (8/ 431، 480، 9/ 88، 10/ 521، 564، 11/ 8، 10، 12/ 41، 42، 45، 141، 14/ 149، 305، 324، 435، 439، 594) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 172، 2/ 29، 231، 7/ 21، 11/ 246، 247، 270، 331، 12/ 134، 153، 167، 168، 185، 199، 200، 431، 436، 437) ، كنز العمال للمتقى الهندى (4660/ 128846، 12855، 35346، 35446، 35488، 35493، 35866، 37527، 37566، 37669، 45891) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 87، 11/ 491) ، زاد المسير لابن الجوزى (5/ 69) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 595) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 340، 354) .
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 84) .
(2) يكلؤنا: أى يحفظنا.
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود باب (79) ، مسند الإمام أحمد (3/ 344) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 140، 9/ 150) ، مستدرك الحاكم (1/ 156) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 85) .
للمهاجرى: أى الليل تحب أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: بل اكفنى أوله فاضطجع المهاجرى فنام، وقام الأنصارى يصلى، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فانتزعه عنه وثبت قائما، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائما، ثم عاد له بثالث، فوضعه فيه فنزعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت. قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب، فلما رأى المهاجرى ما بالأنصارى من الدماء، قال: سبحان الله، أفلا أهببتنى أول ما رماك؟ قال: كنت فى سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمى ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسى قبل أن أقطعها أو أنفذها!
وقال جابر بن عبد الله: خرجت إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف، حتى أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا جابر؟» قلت: يا رسول الله، أبطأ بى جملى، قال: «أنخه» «1» فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أعطنى هذه العصا من يدك أو اقطع لى عصا من شجرة» «2» ، ففعلت، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال: «اركب» »
، فركبت فخرج- والذى بعثه بالحق- يواهق ناقته مواهقة، وتحدثت معه فقال لى:
«أتبيعنى جملك هذا يا جابر؟» «4» قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك. قال: «لا ولكن بعينه» . قلت: فسمنيه. قال: «قد أخذته بدرهم» . قلت: لا إذن تغبننى يا رسول الله.
قال: «فبدرهمين» . قلت: لا. فلم يرفع لى حتى بلغ الأوقية فقلت: أقد رضيت؟ قال:
«نعم» . قلت: فهو لك. قال: «قد أخذته» «5» .
ثم قال: «يا جابر، هل تزوجت بعد؟» «6» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «أثيبا أم بكرا؟» قلت: بل ثيبا. قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قلت: يا رسول الله، إن
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 382) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 517، 3/ 375) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 86) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، المعجم الكبير للطبرانى (17/ 336) .
(4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 316) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 382) .
(5) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (916) ، مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، سنن الدارقطنى (3/ 45) .
(6) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 376) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 390) .
أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤسهن وتقوم عليهن. قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنه لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها» «1» . قلت: والله يا رسول الله مالها من نمارق. قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا» «2» . قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى دخل ودخلنا، فحدثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة.
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلست فى المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل، فقال: «ما هذا؟» «3» فقالوا: يا رسول الله، هذا جمل جاء به جابر. قال: «فأين جابر؟» فدعيت له. فقال: «يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» . ودعا بلالا وقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية» «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 123) ، صحيح مسلم فى كتاب الفضائل (84) ، سنن النسائى (1/ 172) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 254، 6/ 67) ، مستدرك الحاكم (3/ 306) ، سنن الدارقطنى (4/ 229) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 87، 2/ 290) ، موارد الظمآن للهيثمى (999، 1334) ، مسند الإمام أحمد (3/ 308، 376) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 453) ، كنز العمال للمتقى الهندى (13567، 45632) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 240) ، 4/ 110) ، منحة المعبود للساعاتى (1049) ، تفسير الطبرى (1/ 13، 14) ، تفسير ابن كثير (8/ 475) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 64) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 88، 4/ 1/ 163) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 29) ، موطأ مالك (366) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب صلاة المسافرين (291) ، سنن الترمذى (1094) ، سنن النسائى (3/ 72، 4/ 84، 6/ 164، 280، 7/ 30، 273) ، مسند الإمام أحمد (5/ 438) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 157، 4/ 1/ 16، 24، 58، 59) ، سنن الدارقطنى (2/ 55، 8/ 86، 215) ، مصنف ابن أبى شيبة (1/ 122، 337، 3/ 225، 6/ 552، 8/ 76، 80، 379، 11/ 437، 14/ 280، 323) ، المعجم الكبير للطبرانى (11/ 320، 12/ 5، 94، 95، 17/ 13، 249، 18/ 172، 189) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 99) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 86، 7/ 260، 8/ 68، 121، 9/ 35، 85، 86، 96، 336، 338، 10/ 241، 242، 852) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (3/ 179، 447) ، سنن أبى داود (4068، 5236، 4748) ، سنن ابن ماجه (2136، 4160) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 2097) ، مسند الإمام أحمد (3/ 375، 376) .
قال: فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا، فو الله ما زال ينمى عندى ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا! يعنى يوم الحرة.
قال ابن إسحاق «1» : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى الآخرة ورجب.
ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان، حتى نزله فأقام عليه ثمانى ليال ينتظره.
وخرج أبو سفيان، فى أهل مكة، حتى نزل مجنة من ناحية، الظهران- وبعض الناس يقول غسفان- ثم بداله فى الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا. فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر ابا سفيان لميعاده، فأتاه مخشى بن عمرو الضمرى، وهو الذى كان وادعه على بنى ضمرة فى غزوة ودان فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: «نعم يا أخا بنى ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» «2» . قال: لا والله يا محمد، مالنا بذلك منك من حاجة.
ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو هناك ينتظر أبا سفيان معبد بن أبى معبد الخزاعى فقال وناقته تهوى به، وقد رأى مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد نفرت من رفقتى محمد ... وعجوة من يثرب كالعنجد «3»
تهوى على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدى
وماء ضجان لها ضحى الغد
وقال عبد الله بن رواحة فى ذلك، ويقال: إنها لكعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا
__________
(1) انظر السيرة (3/ 178) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 88) .
(3) العنجد: حب الزبيب.
تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم ... وأمركم السيئ الذى كان غاويا
فإنى وإن عنفتمونى لقائل ... فدا لرسول الله أهلى وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا
وقال حسان بن ثابت فى ذلك:
دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدى الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا ... بأرعن جرار عريض المبارك
بكل كميت جوزه نصف خلقه ... وقب طوال مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامى تذرى أصوله ... مناسم أخفاف المطى الرواتك «1»
فإن نلق فى تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيان يكن رهن هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده ... يزد فى سواد لونه لون حالك
فأبلغ أبا سفيان عنى رسالة ... فإنك من غر الرجال الصعالك
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة، وهى سنة أربع من مقدمه المدينة، ثم غزا دومة الجندل «2» ، ثم رجع قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا، صلى الله عليه وسلم.