وهي غزوة محارب، وبني ثعلبة، وسببها أنّ قادما قدم بجلب إلى المدينة، فاشتراه منه أهلها، فقال للمسلمين: إنّ بني أنمار بن بغيض، وبني سعد بن ثعلبة قد جمعوا لكم جموعا، وأراكم هادئين عنهم، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فاستخلف على المدينة- قال ابن إسحاق:
أبا ذرّ الغفاري، وقال محمد بن عمر وابن سعد وابن هشام: عثمان بن عفان، وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من المدينة ليلة السبت لعشر خلون من المحرم. في أربعمائة أو سبعمائة، أو ثمانمائة، وسلك على المضيق، ثم أفضى إلى وادي الشّقرة، فأقام فيها يوما، وبثّ السّرايا، فرجعوا منها مع الليل وخبّروه أنهم لم يروا أحدا، ووطئوا آثارا حديثة، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أصحابه حتى أتى نخلا، وأتى مجالسهم، فلم يجد فيها أحدا إلا نسوة، فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وقد هربت الأعراب في رؤوس الجبال، وهم مطلّون على المسلمين.
قال ابن إسحاق: فلقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جمعا من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم قتال، فخاف الفريقان بعضهم من بعض، خاف المسلمون أن يغير المشركون عليهم، وهم غارّون، وخاف المشركون أن لا يبرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى يستأصلهم.
ولما حانت الصلاة- صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بأصحابه صلاة الخوف.
وروى البيهقي عن جابر- رضي الله عنه- قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر، فهمّ به المشركون، فقالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه أحبّ إليهم من أبنائهم، فنزل جبريل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فصلى العصر صلاة الخوف.
قال ابن سعد: وكان ذلك أول ما صلّاها، ثم انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة.
وبعث بجعال- بضم الجيم، وبالعين المهملة، واللام، ابن سراقة- رضي الله عنه- بشيرا إلى أهل المدينة بسلامة المسلمين.
وغاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة.
وقد وقع في هذه الغزوة آيات كثيرة: روى أكثرها جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه-.
روى البزار والطبراني في الأوسط عنه، قال: كانت غزوة ذات الرقاع تسمّى غزوة الأعاجيب- انتهى. منها ما وقع عند إرادة غوث بن الحرث الفتك برسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
روى الشيخان وغيرهما من طرق عن جابر- رضي الله عنه- قال: غزونا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قبل نجد- وفي رواية ذات الرقاع، فلمّا قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أدركته القائلة يوما بواد كثير العضاة فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت ظل شجرة فعلّق بها سيفه، فنمنا نومة، فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله. قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله- ثلاث مرّات، فشام السيف وجلس، ولم يعاقبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم
[ (1) ] .
ولهذه القصة طرق تأتي مع بعض ما يتعلّق بها من الفوائد في أبواب عصمته- صلى الله عليه وسلم- ممن أراد الفتك به.
ومنها قصة الصبيّ الذي به جنون،
روى البزار والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم عن جابر- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذات الرقاع حتى إذا أتى حرّة وأقم، حضرت امرأة بدويّة بابن لها، فقالت: يا رسول الله، هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان، ففتح فاه فبزق فيه، فقال: «اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثلاثا، ثم قال: «شأنك بابنك لن يعود الله بشيء، مما كان يصيبه»
[ (2) ] ومنها قصة البيضات الثلاث:
روى محمد بن عمر، وأبو نعيم عن جابر- رضي الله عنه- قال في غزوة ذات الرقاع: جاء علبة بن زيد الحارثي- رضي الله عنه- بثلاث بيضات أداحي، فقال يا رسول الله: وجدت البيضات هذه في مفحص نعام، فقال: دونك يا جابر، فاعمل هذه البيضات فعملتهن، ثم جئت بهنّ في قصعة فجعلت أطلب خبزا فلا أجده، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز حتى انتهى إلي حاجته والبيض في القصعة كما هو، ثم قام فأكل منه عامة أصحابه، ثم رحنا مبردين
[ (3) ] .
ومنها قصة الرجل الذي دعا عليه- صلى الله عليه وسلّم- بضرب رقبته:
روى محمد بن عمر، والحاكم، وأبو نعيم عن جابر- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى على رجل ثوبا مخروقا، فقال: ما له غيره؟ فقالوا له ثوبان جديدان في العيبة، فأمره بلبسهما، فلما ولّى الرجل، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أليس هذا أحسن؟ ماله ضرب الله عنقه؟» فسمعه الرجل فقال: يا
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 490 (4134، 4135) .
[ (2) ] انظر مجمع الزوائد 9/ 10.
[ (3) ] الواقدي في المغازي 1/ 399.
رسول الله في سبيل الله تعالى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في سبيل الله فقتل الرجل في وقعة اليمامة
[ (1) ] .
ومنها قصة الجمل الّذي شكا إليه حاله.
روى البزار، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم عن جابر- رضي الله عنه- قال: رجعنا من غزوة ذات الرقاع، حتى إذا كنا بمهبط الحرة، أقبل جمل يرقل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«أتدرون ما قال هذا الجمل؟» هذا جمل يستعديني على سيّده، يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين، وأنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به، فقلت: لا أعرفه. فقال: إنه سيدلّك عليه» فخرج بين يديّ مقنعا، حتى وقف على صاحبه، فجئت به فكلمه- صلى الله عليه وسلم- في شأن الجمل
[ (2) ] .
ومنها قصة جمل جابر- رضي الله عنه-
روى الإمام أحمد عن جابر- رضي الله عنه- قال: فقدت جملي في ليلة مظلمة، فمررت على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: «مالك» . فقلت يا رسول الله!! فقدت جملي، فقال: «ذاك جملك، اذهب فخذه» . فذهبت نحو ما قال فلم أجده، فرجعت إليه، فقال مثل ذلك، فذهبت فلم أجده، فرجعت إليه، فانطلق معي حتّى أتينا الجمل، فدفعه إليّ
[ (3) ] .
قصة أخرى:
روى الإمام أحمد، وأبو نعيم والشيخان، ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمر من طرق عن جابر- رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة بني ثعلبة، وخرجت على ناضح لي، فأبطأ عليّ، وأعياني حتى ذهب الناس، فجعلت أرقبه، وهمّني شأنه فأتى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما شأنك» ، فقلت: يا رسول الله!! أبطأ عليّ جملي، فأناخ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعيره، فقال: «معك ماء» ؟ فقلت: نعم. فجئته بقعب من ماء، فنفث فيه ثم نضح على رأسه وظهره، وعلى عجزه. ثم قال: «أعطني عصا» ، فأعطيته عصا معي، أو قال: قطعت له عصا من شجرة، ثم نخسه نخسات، ثم قرعه بالعصا، ثم قال: «اركب» فركبت فخرج- والذي بعثه بالحق- يواهق [ (4) ] ناقته مواهقة ما تفوته ناقته، وجعلت أكفّه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حياء منه، وجعلت أتحدث مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وبقية الحديث يأتي في باب مزاحه ومداعبته- صلى الله عليه وسلم- وفي باب كرمه وجوده، وفي باب بيعه وشرائه.
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 183.
[ (2) ] قال الهيثمي 9/ 11 فيه عبد الحكيم ابن سفيان ذكره ابن أبي حاتم ولم يخرجه أحد، وبقية رجاله ثقات.
[ (3) ] انظر مجمع الزوائد 9/ 14- 15.
[ (4) ] يواهق أي يباريها في السير ويماشيها، ومواهقة الإبل: مدّ أعناقها في السير، انظر النهاية 5/ 233.
ومنها قصة الشجرتين، وقصة تخفيف العذاب عن ميتين، وقصة نبع الماء من بين أصابعه، وقصة الدّابة التي ألقاها البحر لمّا شكا المسلمون من الجوع.
روى مسلم، وأبو نعيم، والبيهقي: عن جابر- رضي الله عنه- قال: سرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة ذات الرّقاع، حتى نزلنا واديا أفيح، وذهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته، واتبعته بإداوة من ماء، فنظر فلم ير شيئاً يستتر به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، وقال: «انقادي عليّ بإذن الله تعالى» فانقادت منه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أنّت الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها وقال: «انقادي عليّ بإذن الله تعالى» فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالنصف فيما بينهما لأم بينهما، يعني جمعهما فقال: «التئما عليّ بإذن الله تعالى» . فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحسّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقدمي فيبتعد فجلست أحدّث نفسي، فحانت منّي لفتة، فإذا أنا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقبل، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقف وقفة فقال برأسه: «هكذا يمينا وشمالا» . ثم أقبل، فلما انتهى إلى قال: «يا جابر! هل رأيت مقامي؟» قلت: نعم يا رسول الله.
قال: «فانطلق إلى الشّجرتين فاقطع من كلّ واحدة منهما غصنا وأقبل بهما، حتّى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك» . قال جابر: فقمت، فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانزلق لي، ثم أتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجترهما حتّى إذا قمت مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: قد فعلت يا رسول الله، فعمّ ذلك؟ قال: إني مررت بقبرين يعذّبان، فأحببت بشفاعتي أن يرحه عنهما ما دام القضيبان رطبين فأتينا العسكر، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم: يا جابر، ناد بالوضوء، فناديت: ألا وضوء ألا وضوء؟ يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- الماء في أشجاب له على حمازة من جريد، فقال: «انطلق إلى فلان بن فلان الأنصاري، فانظر هل في أشجابه من شيء؟
فانطلقت إليه فنظرت فلم أجد فيها قطرة ماء إلّا قطرة في عزلاء شجب منها، لو انّي أفرغه بشربة يابسة؟ فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، قال: «اذهب فاتني به، فأتيته به، فأخذه بيده، فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو، ويغمزه بيده، ثم أعطانيه، فقال: «يا جابر، ناد بجفنة» ، فقلت: يا جفنة الركب فأتيت بها تحمل، فوضعت بين يديه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده هكذا، فبسطها في الجفنة، ففرّق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: «خذ يا جابر، فصبّ عليّ، وقل بسم الله» فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ففارت الجفنة، ودارت حتّى امتلأت. فقال: «يا جابر ناد من كانت له حاجة بماء فأتى الناس فاستقوا
حتّى رووا، فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ ورفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده من الجفنة، وهي ملأى.
وشكا الناس الجوع، فقال: «عسى الله أن يطعمكم بسيف البحر» فأتينا سيف البحر، فألقى دابة فأورينا على شقّها النّار، فشوينا، وأكلنا وطبخنا، وشبعنا.
قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان، حتى عدّ خمسة في حجاج عينها، ما يرانا أحد حتّى خرجنا، وأخذنا ضلعا من أضلاعها، فقوسناه، ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل فدخل تحته ما يطأطئ رأسه.