بسبق نبوته في سابق أزليته......
__________
أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفًا في قولك هذا رجل حسبك، "ونعم الوكيل" ونعم الموكول إليه هو، ذكره في الأنوار، وهذا اقتباس، وهو جائز عند المالكية والشافعية بإتفاق غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة هكذا.
حكى اتفاق المذهبين الشيخ داود الشاذلي الباهلي وقد نص على جوازه القاضي عياض وابن عبد البر وابن رشيق والباقلاني وهم من أجلة المالكية، والنووي شيخ الشافعية، ورواه الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد إلى الإمام مالك أنه كان يستعمله.
قال السيوطي: هذه أكبر حجة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه، وقد نفى الخلاف في مذهبه الشيخ داود وهو أعرف بمذهبه، وأما مذهبنا فأنا أعرف أن أئمته مجمعون على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فسر وأبان عن أنه أجهل الجاهلين، انتهى. وهذا منه يقضي بغلطه فيما أورده في عقود الجمعان.
المقصد الأول:
اعلم: أن في أسماء الكتب وألفاظ التراجم احتمالات أقربها أن المراد بها الألفاظ والمعروف أنها ظروف وقوالب للمعاني، فإذا عكس كما هنا فهو بتقدير مضاف، أي: "في" بيان "تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام"، وبيان بمعنى مبين، أي: ما من شأنه أن يبين به، ولا شك أن ما ذكره بعض ما يمكن به البيان، فهو من ظرفية الكل لجزئه ويجوز أنه استعارة أو تشبيه للمعاني بالظروف، بجامع أن الألفاظ لا تزيد المظروف على ظرفه المشتمل عليه، أو -في- بمعنى على والتقدير هذه ألفاظ مخصوصة دالة على تشريف، أو بمعنى اللام والمراد بكونه فيه: أنه مقصود منه فلا ينافي ذكر غيره بطريق التبع، "بسبق" تقدم "نبوته" وذلك السبق موجود "في سابق أزليته" أي: ما هو قبل خلق الأشياء، فلا يقال السبق لا يكون مظروفًا في السبق، أو جعل الأزلية ظرفًا يستدعي عدم مسبوق تقدم نبوته بالأولية, فيلزم أن لا أول لتقدم نبوته، كما أنه لا أولى للأزلي، كذا قال شيخنا قال في المجمل: الأزل: القدم، يقال: هو أزلي، والكلمة ليست بمشهورة في كلام العرب، وأحسب أنهم قالوا في القديم: لم يزل ثم نسب إليه، فلم يستقم إلا باختصار، فقالوا: يزلي ثم أبدلوا الياء ألفًا، وقيل: الأزل اسم لما يضيق القلب عن
ونشره منشور رسالته في مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته في حظائر قدس كرامته.
وطهارة نسبه. وبراهين أعلام آيات حمله وولادته. ورضاعه وحضانته. ودقائق حقائق بعثته. وهجرته. ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه. وسيرته.
مرتبًا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته.
اعلم يا ذا العقل.........................
__________
بدايته من الزل وهو الضيق فهمزته أصلية.
"ونشره" إظهاره وإذاعته "منشور رسالته في مجلس مؤانسته" أي الله سبحانه أو النبي صلى الله عليه وسلم "وكتبه" إثباته "توقيع" تعلق "عنايته في حظائر قدس كرامته" أي: في المواضع التي تظهر فيها كرامته المنزهة عن النقائص، ككتبها على كل موضع في الجنة وعلى نحو العين، وساق العرش كما يجيء، "وطهارة نسبه" نزاهته عن دنس الجاهلية وسفاف الأمور تعاطيه الهمم العلية "وبراهين" جمع برهان وهو الدليل القوي الذي يحصل به اليقين لا المنطقي ليماوانيا، وإن شمله "أعلام آيات" إضافة بيانية، أي: براهين الأعلام التي هي آيات دالة على "حمله" وإضافة براهين إلى أعلام حقيقة، أي: البراهين الدالة على أن ما أدركته أمة من الآيات، هي أمارات على الحمل حقيقة "وولادته ورضاعه وحضانته ودقائق حقائق بعثته", أراد بها ما لا يفهم أنه من آثار الرسالة إلا بعد النظر الدقيق كرؤية الملك في ابتداء الوحي، فإنه إنما يدل على ذلك بعد التأمل وإمعان النظر فيه.
"وهجرته" هي في اللغة: الترك، ثم خصت بترك مكان لا آخر، وغالب الأنبياء وقع لهم الهجرة لعداوة الناس لهم، "ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته" هيئته وحالته وطريقته، لا ما غلب في لسان الفقهاء من أنها المغازي لكونه قدمها "مرتبًا على السنين" غالبًا، "من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته".
"اعلم" أمر من العلم يصدر به ما يعتني به من الكلام تقوية وتأكيدًا وحثًا على إلقاء البال لما بعده، تنبيهًا على أنه مما ينبغي أن يعلم ولا يترك, وقد ورد في القرآن وكلام العرب. كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، اعلموا {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] ولذا التزم بعده في الغالب أن المؤكدة؛ كقوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
"يا ذا العقل"، مشتق من العقل مبعنى المنع، ومنه العقال لمنعه الإنسان عما لا يليق, ولذا تطرف في التلميح لأصله القائل:
السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم وفقني الله وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم.................................
__________
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
"السليم" من شوائب الكدورات، وإنما خص ذوي العقول بالنداء، لأن شرف الإنسان إنما هو بالعقل، وبه يميز الحسن من القبيح، قال أبو الطيب:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وفي حقيقته ومحله كلام ألم المصنف فيما يأتي بشيء منه، "والمتصف" بالنصب؛ لأن تابع المناوي المعرب منصوب لا غير، سواء كان التابع معرفة أم نكرة، محلى باللام أم لا، وأجاز الأخفش رفعه "بأوصاف الكمال" لنفسه، "والتتميم" لغيره وغاير تفننا ورعاية للسجع وإلا فهما بمعنى، كما في الصحاح والقاموس وغيرهما.
وقال الزركشي: تفسير الكمال بالتمام خطأ؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، وقد فرق بينهما الشيخ عبد القاهر: بأن الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، وأيضًا التمام يشعر بحصو نقص قبل ذلك والكمال لا يشعر به.
وتعقب بأن الإكمال في الآية للدين، والإتمام للنعمة التي من جعلتها ذلك الإكمال والنصر العام على كل معاند؛ فلم يتعاورا على شيء واحد، ووظيفة اللغوي بيان أصل اللغة، وأهل التفسير والمعاني النظر إلى كل مقام يحسبه ولو معنى مجازيًا, وقد جزم ابن أبي الأصبع بأنه قد يطلق كل منهما على الآخر، ومنه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} الآية.
"وفقني الله وإياك" جملة دعائية والتوفيق الهداية إلى وفق الشيء وقدره وما يوافقه، قاله أبو البقاء، وفيه تفاسير معلومة "بالهداية" الثبات عليها أو زيادتها أو حصول المراتب المرتبة عليها، إذ المسلم مهتد، والمراد خلق الاهتداء لا الدلالة هنا، والباء للتصوير والتحقيق، أي: وفقنا بهدايتنا أو السببية، أي: رزقنا مباشرة الطاعات بسبب هدايته لنا "إلى الصراط المستقيم" المستوى، يعني: طريق الخير أو دين الإسلام, قال صاحب الأنوار: والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] ، وأراد على التهكم ومنه الهدية، وهو أدى الوحش مقدماتها والفعل منه هدى، وهداية الله تعالى تتنوع أنواعًا لا يحصيها عد لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه؛ كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.
أنه لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه..................................
__________
والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار، حيث قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ، وقال: فهديناه فاستحبوا العمى على الهدى.
والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإياه عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .
والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي، بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء، وإياه عنى بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِيَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فإذا قاله العارف الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط به غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك، انتهى.
وفي الأساس يقال: هداه للسبيل وإلى السبيل هداية وهدى، وظاهره عدم الفرق بين المتعدى بنفسه والمتعدى بالحرف، قال ابن كمال: ومنهم من فرق بينهما بأن هداه لكذا أو إلى كذا، إنما يقال إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه فيزداد ويثبت، ولمن لا يكون فيصل.
والقول بأن ما تعدى بنفسه معناه الإيصال إلى المطلوب ولا يكون إلا فعل الله تعالى فلا يسند إلا إليه؛ كقوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت: 69] ، وما تعدى بالحرف، معناه الدلالة على ما توصل إليه، فيسند تارة إلى القرآن؛ كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، وتارة للنبي، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] ، ليس بتام لمجيء المتعدى بنفسه في القرآن كثيرًا مستندًا إلى غير الله تعالى؛ كقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] ، وقوله تعالى: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ، انتهى.
وفي البيضاوي: وأصله أن يعدى باللام أو إلى فعومل في اهدنا الصراط، معاملة اختار في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، انتهى. والخلاف في أنها الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، وإن لم يصل، وهو مذهب أهل السنة أو الموصلة عند المعتزلة مشهور كأدلتهم، "أنه لما تعلقت إرادة الحق" الثابت الوجود على وجه لا يقبل الزوال ولا العدم، ولم يقل: لما أراد؛ لأن الإرادة أزلية والحادث إنما هو التعلق، "بإيجاد خلقه" أي: مخلوقه؛ لأنه الذي يتعلق به الإيجاد نحو: هذا خلق الله، أي: مخلوقه "وتقدير رزقه" أي: الله أو الخلق، فالمصدر مضاف
أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية، في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق في سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا -كما قال- بين الروح والجسد، ثم انبجست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح............................
__________
للفاعل أو المفعول، قال السمين: والرزق لغة العطاء وهو مصدر، قال تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 75] ، وقيل: يجوز أنه فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح، وقيل: الرزق بالفتح مصدر وبالكسر اسم للمرزوق، واقتصر على الثاني في المختار والمصباح.
"أبرز الحقيقة المحمدية" هي الذات مع النعت الأول، كما في التوقيف؛ وفي لطائف الكاشي يشيرون بالحقيقة المحمدية إلى الحقيقة المسماة بحقيقة الحقائق الشاملة لها، أي: للحقائق والسارية بكليتها في كلها سريان الكلي في جزئياته، قال: وإنما كانت الحقيقة المحمدية هي صورة لحقيقة الحقائق؛ لأجل ثبوت الحقيقة المحمدية في خلق الوسيطة والبرزخية والعدالة، بحيث لم يغلب عليه صلى الله عليه وسلم حكم اسمه أو وصفه أصلا، فكانت هذه البرزخية الوسطية هي عين النور الأحمدي المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله نوري"، أي: قدر على أصل الوضع اللغوي، وبهذا الاعتبار سمي المصطفى بنور الأنوار، وبأبي الأرواح ثم إنه آخر كل كامل إذ لا يخلق الله بعده مثله، انتهى.
"من الأنوار الصمدية" المنسوبة للصمد والإضافة للتشريف، كما في حديث جابر عند عبد الرزاق مرفوعًا: يا جابر إن الله قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، "في الحضرة الأحدية" هي أول تعينات الذات وأول رتبها، الذي لا اعتبار فيه لغير الذات، كما هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "كان الله ولا شيء معه"، ذكره الكاشي "ثم سلخ" أخرج "منها العوالم كلها" بكسر اللام جمع عالم، بفتحها سماعًا وقياسًا "علوها" بضم العين وكسرها وسكون اللام، "وسفلها" بضم السين وكسرها وسكون الفاء، أي: عاليها وسافلها، يشير إلى العالم العلوي والسفلي، فهو مجاز من إطلاق اسم الكل وإرادة اسم الجزء "على صورة حكمه" أي: التي تعلق بها خطابه الأزلي لا صورة نفس الحكم؛ لأنه قديم.
وفي نسخ حكمته، أي: على الصورة التي اقتضتها حكمته وإرادته والأولى أنسب بالسجعة في قوله: "كما سبق في سابق إرادته وعلمه" على ما سيجيء بيانه في حديث عبد الرزاق "ثم أعلمه بنبوته وبشره برسالته هذا وآدم" الواو للحال "لم يكن إلا كما قال" صلى الله عليه وسلم، "بين الروح والجسد ثم انبجست" تفجرت "منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح" أي: خالصها، كأرواح الأنبياء والمراد بالعيون الكمالات المفرغة من نوره على أرواح الأنبياء، عبر عنها بالعيون مجازًا لمشابهتها بعيون
فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالنظر الأجلى، وكان له المورد الأحلى، فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس.
ولما انتهى الزمان بالاسم الباطن في حقه صلى الله عليه وسلم إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته جسمًا وروحًا..........................
__________
الإنسان للكمال، فلا يرد تأخر الأعلام والبشارة عن سلخ العوالم منه، "فظهر" عليه السلام، أي: حقيقته "بالملأ" أي: الخلق "الأعلى" وصفهم به إشارة إلى أن المراد المقربون "وهو بالمنظر الأجلى" بالجيم، أي: الأتم في الظهور "وكان له المورد" وزن مسجد تشبيه بليغ، أي: كالمورد الذي يرده الناس ليرتووا منه "الأحلى" بالحاء، الأعذب.
"فهو صلى الله عليه وسلم الجنس" أي: كالجنس "العالي" المرتفع "على جميع الأجناس" لتقدمه خلقًا على غيره، "والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس" من حيث أن الجميع خلقوا من نوره، على ما يأتي في حديث عبد الرزاق، وأما ما ذكر أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرفت وذلقت، فخلق الله من كل نقطة نبيًا، وأن القبضة كانت هي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان كوكبًا دريًا، وأن العالم كله خلق منه، وأنه كان موجودًا قبل أن يخلق أبواه، وأنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه جبريل وأمثال هذه الأمور, فقال الحافظ أبو العباس أحمد بن تيمية في فتاويه، ونقله الحافظ ابن كثير في تاريخه وأقره: كل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بحديثه، والأنبياء كلهم لم يخلقوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل خلق كل واحد من أبوابه، انتهى.
"ولما انتهى" أي: بلغ النهاية، "الزمان" الحال التي كان عليها قبل خلق السماوات والأرض، "بالاسم" متعلق بانتهى، "الباطن، أي: عالم الملكوت المشار إليه بقوله: إبراز الحقيقة ... إلخ، "في حقه صلى الله عليه وسلم" متعلق بباطن "إلى وجود جسمه وارتباط الروح به" متعلق بانتهى أيضًا. "انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر" يعني: عالم الملك وهو الموجود في العناصر، والباطن والظاهر وصفان للمصطفى، ويجوز -وهو المناسب هنا- أنهما وصفان لله، أي: الظاهر وجوده لكثرة دلائله، أو الغالب على كل شيء من ظهر إذا غلب.
والباطن حقيقة ذاته فلا يعرف أصلا؛ كما قال الصديق: غاية معرفته القصور عن وصفه أو العالم بالخفيات، والمعنى: أنه تعالى تصرف فيه بمقتضى علمه الخفي على جميع الكائنات الذي هو صفة الباطن إلى تعلق الإرادة بظهوره إلى عالم العناصر فربط روحه الشريفة بجسمه، فأظهره "فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته" أي: بجملته "جسمًا وروحًا" تمييز أو حال، قال شيخنا: ولو
فهو صلى الله عليه وسلم وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه.
ألا بأبي من كان ملكًا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحي......
__________
قال بكله كان أوضح، فإن الكل هو الذات المجتمعة من الأجزاء، والكلية إمكان الاشتراك وهي صفة الكلي، وهو ما لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ويمكن توجيهه بأنه من نسبة الفرد إلى كله من جهة تحقق الكل، من حيث هو كل في الواحد للشخص من حيث تشخصه فيساوي التعبير به التعبير بالكل.
"فهو صلى الله عليه وسلم وإن تأخرت طينته" أي: خلقته "فقد عرفت قيمته" أي: اعتداله وحسن قوامه وطوله حسًا ومعنى في الجميع، ففي الفاموس القيمة الشطاط، وفيه أيضا الشطاط كسحاب وكتاب الطول وحسن القوام أو اعتداله، "فهو خزانة" بكسر الخاء "السر" أي: محل لأسراره تعالى وكمالاته، حيث أفاض الله عليه ما لا يوجد في غيره من الخلق "وموضع نفوذ الأمر" أي: الموضع الذي يظهر منه الكمالات التي تفاض على خاصة خلقه، "فلا ينفذ أمر" شيء، جمعه أمور "إلا منه، ولا ينقل خير" مفرد خيور وخيار، أو هو بموحدة مفرد أخبر "إلا عنه" إذ هو واسطة العقد، وأنشد المؤلف لغيره "ألا" بفتح الهمزة والتخفيف حرف استفتاح يؤتى به للتنبيه والدلالة على تحقق ما بعده: "بأبي" بكسر الباءين بينهما همزة مفتوحة.
قال ابن الأنباري: معناها بأبي هو فحذف هو لكثرة الاستعمال، وأصله أفدية بأبي، "من كان ملكًا" بفتح الميم وسكون اللام تخفيفًا؛ لأن البيت لا يتزن إلا به. في المصباح: ملك على الناس أمرهم، إذا تولى السلطنة فهو ملك بكسر اللام وتخفف بالسكون، انتهى وكذا كل ما كان على وزن فعل، وتوهم إنها لغة قرئ بها غلط؛ لأن ذاك في مصدر مالك: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] ، قرئ بتثليث الميم، وهو في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، "وسيدًا وآدم بين الماء والطين" أي: بين العلم والجسم، كذا في أنوار المشكاة.
"واقف" ولما لم يستقم للناظم لفظ الوارد بتمامه عدل إلى معناه الذي اشتهر، فإن معناهما واحد؛ كما جزم به صاحب النسيم. فلا يقال: لو قال بين الروح والجسم طابقه، "فذاك الرسول" فعول بمعنى مفعل وهو المرسل، أي: المبعوث إلى غيره وقد يأتي بمعنى الرسالة؛ كقوله:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
"الأبطحي" المنسوب إلى بطحاء مكة على ما يفيده الجوهري، أو إلى أبطح مكة، وهو مسيل واد بها وهو ما بين مكة ومنى ومبتدؤه المحصب، كما صرح به غيره، وهو القياس.
.............. محمد ... له في العلاء مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد في آخر المدى ... وكان له في كل عصر مواقف
أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه ... فأثنت عليه ألسن وعوارف
إذا رام أمرًا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر في الكون صارف
أسبقية نبوته صلى الله عليه وسلم:
أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي............
__________
"محمد له في العلا" الارتفاع "مجد" عز وشرف "تليد" قديم "وطارف" حادث، "أتى بزمان السعد" الباء للآلة، "في آخر المدى" بفتحتين، يعني: الزمان الأخير من أزمنة الأنبياء، وهو زمن عيسى وبعثة المصطفى في آخر زمان عيسى، فالإضافة حقيقية فلا يشكل إضافة آخر المدى مع أن الغاية أو مطلق الزمان، مجازًا من تسمية الكل باسم الجزء، "وكان له في كل عصر مواقف" أحوال لتقدم خلقه، "أتى لانكسار الدهر" وفي نسخة: الدين من إضافة الصفة للموصوف، أي: الدين أو الدهر المنكسر بعبادة غير الله، "يجبر صدعه" شقه، أي: يصلحه ويزيل فساده، "فأثنت عليه ألسن" جمع لسان مذكر وهو الأكثر لغة وبه جاء القرآن، قاله أبو حاتم.
"وعوارف" جمع عارفة، ومعناه: أن الأمور المعروفة في الشرع أثنت عليه لإظهاره لها وذبه عن معارضتها، وهو استعارة مكنية، شبه أمور الشرع في دلالتها على صدقه وكاله بنفوس ناطقة، وأثبت لها ما هو من لوازم النفوس الناطقة إذا فعل معهم الجميل وهو الثناء تخييلا "إذا رام أمرًا لا يكون" يوجد "خلافه وليس لذاك الأمر في الكون" أراد الوجود وله تعاريف معلومة "صارف" مانع، ثم شرع في المقصود وحسن معه تصديره بحديث صحيح، فقال: "خرج مسلم" بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأعلام مناقبه شهيرة، أخذ عن البخاري وشاركه في كثير من شيوخه، وأحمد وخلق وروى عنه كثيرون، وروى له الترمذي حديثًا واحدًا، مات سنة إحدى وستين ومائتين في رجب، "في صحيحه" الذي صنفه من ثلاثمائة ألف حديث كما نقلوه عنه وهو يلي صحيح البخاري، وتفضيله عليه مردود؛ وفي ألفية السيوطي:
ومن يفضل مسلمًا فإنما ... ترتيبه وصنعه قد أحكما
"من حديث" أحد العبادلة "عبد الله بن عمرو بن العاصي" بن وائل السهمي الصحابي ابن الصحابي أبي محمد عند الأكثر، أو أبي عبد الرحمن الزاهد العابد أحد المكثرين الفقهاء، أسلم قبل أبيه، قيل: بين مولدهما اثنتا عشرة سنة، ويقال: عشرون سنة.
روى ابن سبع والعسكري عنه، أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل. ومن ثم
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة................
__________
ذكر العسكري في كتاب الأمثال ألف مثل عن المصطفى، وحسبك أن أحفظ الصحابة أبا هريرة شهد له بأنه أكثر حديثًا منه؛ لأنه كان يكتب وأبا هريرة لا يكتب، ولا يشكل أن المروي عنه دون المروي عن أبي هريرة بكثير، لأنه سكن مصر والواردون إليها قليل، وأبو هريرة سكن المدينة والمسلمون يقصدونها من كل وجهة, وفي أنه مات بالشام أو مكة أو الطائف أو بمصر أقوال، وهل عام خمس وستين أو ثمان وستين أو تسع وستين أو ثنتين وسبعين أو تسع وسبعين خلاف بسطه في الإصابة.
وقال في تقريبه: مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف على الراجح، والعاصي بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية وهو قول الجمهور كما قال النووي وغيره. وفي تبصير المنتبه، قال النحاس: سمعت الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها وقد لهجت العامة بحذفها.
قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة، يعني: أنه من الأسماء المنقوصة فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، والمبرد لم يخالف النحويين في هذا وإنما زعم أنه سمي العاصي لأنه أعيص بالسيف، أي: أقام السيف مقام العصا، وليس هو من العصيان؛ كذا حكاه الآمدي، عنه قلت: وهذا إن مشي في العاصي بن وائل لكنه لا يطرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم العاصي بن الأسود والد عبد الله فسماه مطيعًا، فهذا يدل على أنه من العصيان، وقال جماعة: لم يسلم من عصاة قريش غيره، فهذا يدل لذلك أيضًا، انتهى.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق"" , قال البيضاوي في شرح المصابيح، أي: أجرى القلم على اللوح المحفوظ، وأثبت فيه مقادير الخلائق ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد، وعلى وفق ما تعلقت به إرادته أزلا، وقال الأبي: المقادير بمعنى القدر وهو عبارة عن تعلق علم الله وإرادته أزلا بالكائنات قبل وجودها، وهو سبحانه وتعالى بجميع صفاته أزلي لا يتقيد وجوده بزمان، "قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" قال القاضي عياض: حد لكتب ذلك في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء الله لا للمقادير فإن ذلك أزلي لا أول له وهي كناية عن الكثرة؛ كقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] ، قال: ويحتمل أنها حقيقة، ورده القرطبي وتبعه الأبي بأنه لا يتقرر كونها حقيقة بوجه؛ لأن السنين يقدر بها الزمان، والزمان تابع لخلق السماوات لأنه عبارة عن حركات الأفلاك وسير الشمس فيها، فقيل: خلق الزمان لا سماوات، فالخمسون ألف سنة تقديرية، أي:
وكان عرشه على الماء.
__________
بمدة في علم الله لو كانت السماوات موجودة فيها لعدت بذلك العدد، انتهى.
وهو متعقب بقول البيضاوي وغيره في شرح المصابيح، معناه: أن طول الأمد وتمادي الأزمان بين التقدير والخلق من المدة خمسون ألف سنة مما تعدون، فإن قيل: كيف يحمل على الزمان وهو مقدار حركة الفلك الذي لم يخلق حينئذ؟ أجيب بأنه إن سلم أن الزمان ذلك، فإن مقدار حركة الفلك الأعظم الذي هو العرش موجود حينئذ، بدليل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ، أي: ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء، والماء على متن الريح، كما روي عن ابن عباس، وهو يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض، انتهى.
وفي حديث أبي رزين الآتي: أن الماء قبل خلق العرش، وروى أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: ""كان" في ماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء". وحكى في الفهم أن أول ما خلق الله ياقوتة حمراء ونظر إليها بالهيبة فصارت ماء، فوضع عرشه على الماء، وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعد الطائي، قال: "العرش ياقوتة حمراء".
وأخرج أبو الشيخ عن حامد، قال: "خلق الله العرش من زمردة خضراء، وخلق له أربع قوائم من ياقوتة حمراء، وخلق له ألف لسان وخلق في الأرض ألف أمة، كل أمة تسبح بلسان من ألسن العرش"، وذكر الحافظ محمد بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، عن بعض السلف: أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء، بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، واتساعه خمسون ألف سنة، وبعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، وذهبت طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه الفلك التاسع والفك الأطلس.
قال ابن كثير: وليس بجيد؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضًا فالعرش في اللغة سرير الملك وليس هو فلكًا، والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير، وقوائم تحمله الملائكة كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات، انتهى. والصحيح كما قال النعماني: أنه غير الكرسي، وما روي عن الحسن أنه عينه فضعيف، بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره، انتهى.
كيف! وقد روى ابن جرير، وابن مردويه، وأبو الشيخ، عن أبي ذر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا
ومن جملة ما كتب في الذكر أن محمدًا خاتم النبيين.
__________
ذر، ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة".
"ومن جملة ما كتب في الذكر" وبينه بقوله: وهو {أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39، آل عمران: 7] ، أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ، إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه وفي أنه حقيقي أو تمثيل، والمراد علم الله، قولان، الأكثر أنه حقيقي وهو الأسعد بصريح الأحاديث والآثار، فقد أخرج الطبراني بطريقين رجال إحداهما ثقات والحاكم والحكيم الترمذي عن ابن عباس، عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق لوحًا محفوظا من درة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور". وفي الطبراني أيضًا: أن عرشه ما بين السماء والأرض. وفي كنز الأسرار: أن طوله كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ بسند جيد عن ابن عباس، قال: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام, وأخرج أبو الشيخ عن أنس رفعه: "أن لله لوحًا أحد وجهيه ياقوتة، والوجه الثاني من زمردة خضراء". وأخرج أيضًا عن ابن عباس رفعه: "خلق الله لوحًا من ندرة بيضاء وقفاه من زبرجدة خضراء كتابه نور، يلحظ إليه في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء".
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في الشعب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله لوحًا من زبرجدة خضراء تحت العرش، يكتب فيه إني أنا الله لا إله إلا أنا أرحم وأترحم، جعلت بضعة عشر وثلاثمائة خلق من جاء بخلق منها مع شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وقد جمع بين هذا الاختلاف في لونه بجواز أنه يتلون والبياض لونه الأصلي.
"أن محمدًا خاتم النبيين" في الوجود، فإن قيل: الحديث يفيد، سبق العرش على التقدير، وعلى كتابة محمد خاتم النبيين فيشكل بأن نوره صلى الله عليه وسلم خلق قبل العرش وغيره. أجاب شيخنا بجواز أن نوره خلق قبل العرش وكتابته لذلك، وإظهاره كان وقت التقدير وهو بعد خلق العرش وقبل خلق السماوات، انتهى.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الماء والعرش مبتدأ العالم لكونهما خلقا قبل كل شيء وعند أحمد وابن حبان والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن أصل كل شيء، قال: "كل شيء خلق من الماء". وهذا يدل على أن الماء أصل لجميع المخلوقات ومادتها، وأنها كلها خلقت منه، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قال في اللطائف: والقول بأن المراد النطفة التي
وعن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين" وإن آدم لمنجدل في طينته". رواه أحمد..........................
__________
بخلق منها الحيوانات بعيدة؛ لأن النطفة لا تسمى ماء مطلقًا بل مقيدًا نحو: من ماء دافق، وقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] ، وأيضًا من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل والفاكهة، فليس كل حيوان مخلوقًا من نطفة. فدل القرآن على أن كل ما يدب وكل ما فيه حياة من الماء، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وخلقت الملائكة من نور" لأن أصل النور والنار الماء" ولا يستنكر خلق النار من الماء، فقد جمع الله بقدرته بين الماء والنار في الشجر الأخضر.
وذكر الطبائعيون أن الماء بانحداره يصير بخارًا والبخار ينقلب هواء، والهواء ينقلب نارًا. وزعم مقاتل: أن الماء خلق من النور، وهو مردود بحديث أبي هريرة المتقدم وبغيره، انتهى. ملخصًا، وذكر نحوه المؤلف في الإرشاد.
"وعن العرباض" بكسر العين وسكون الراء بعدها موحدة فألف فمعجمة "ابن سارية" السلمي، قديم الإسلام جدًا من البكائين ومن أهل الصفة، ونزل حمص، وروى عنه خالد بن معدان وأبو أمامة الباهلي وخلق، مات سنة خمس وسبعين، وقيل قبلها زمن فتنة ابن الزبير رضي الله عنهم.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم" قال الطيبي: الواو وما بعدها في محل نصب على الحال من المكتوب، والمراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبًا في أم الكتاب في ذلك الحال، قبل نفخ الروح في آدم لا أنه حينئذ كتب في أم الكتاب ختمه للنبيين، انتهى. وبه اندفع ما يرد أن هذا ينافي رواية مسلم بخمسين ألف سنة المفيد سبق نبوته على جميع الموجودات. "لمنجدل" بضم الميم وسكون النون مطاوع جدله مخففًا، نائبًا عن جدله مشددًا، أي: ألقاه على الجدالة وهي الأرض الصلبة لا مطاوع جدل مخففًا لفساد المعنى، إذ معناه أخذه من الجدالة وليس بمراد هنا، أشار له الطيبي قائلا: "في طينته" خبر ثان؛ لأن لا متعلق بمنجدل، والألزم أن دم مظروف في طينته مع أنه ظرف له وهو حاصل فيه، "رواه" الإمام "أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله المروزي، ثم البغداي أحد كبار الأئمة الحفاظ الطوافين الصابر على البلوي، الذي من الله به على الأمة، ولولاه لكفر الناس في المحنة ذو المناقب الشهيرة. وحسبك قول الشافعي شيخه: خرجت من بغداد فأخلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه.
وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، قيل: وما يدريك؟ قال: ذاكرته. ولد سنة أربع وستين ومائة ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين.
والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وقوله عليه الصلاة والسلام لمنجدل، يعني: طريحًا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
وعن ميسرة الضبي...................................
__________
قال ابن خلكان: وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستون ألفًا، وأسلم يوم موته عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس، انتهى. وفي تهذيب النووي: أمر المتوكل أن يقاس الموضع الذي وقف الناس للصلاة فيه على أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة، ووقع المأتم في أربعة أصناف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس.
"والبيهقي" نسبة إلى بيهق قرية بناحية نيسابور، أحمد بن الحسين الإمام الحافظ المشهور بالفصاحة والبراعة سمع الحاكم وغيره، وتصانيفه نحو ألف.
قال الذهبي: ودائرته في الحديث ليست كبيرة بل بورك له في مروياته وحسن تصرفه فيها، لحذفه وخبرته بالأبواب والرجال، وأفتى بجميع نصوص الشافعي، وخرج أحاديثها، حتى قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي فله على الشافعي منة. ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
"والحاكم" الإمام الحافظ الكبير محمد بن عبد الله الضبي، أبو عبد الله النيسابوري الثقة الثبت المجمع على صدقه، ومعرفته بالحديث حق معرفته، أكثر الرحلة والسماع حتى سمع بنيسابور من نحو ألف شيخ وفي غيرها أكثر، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ومات بنيسابور سنة خمس وأربعمائة، وتصانيفه نحو خمسمائة، قال الذهبي، أو ألف قاله عبد الغافر الفارسي، وقال غيرهما ألف وخسمائة، وعنه شربت ماء زمزم وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف.
"وقال" الحاكم فيه "صحيح الإسناد" ورواه ابن حبان في صحيحه أيضًا، "وقوله صلى الله عليه وسلم: "لمنجدل" يعني طريحًا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه" لا مأخوذ من الأرض كما قد بادر من بقاء منجدل على أصله، كما مر. "وعن ميسرة" بفتح الميم وسكون التحتية، "الضبي" كذا في النسخ، والذي في العيون والإصابة والسبل كالنور، والمقاصد عن مسند أحمد ميسرة الفجر بفتح الفاء وسكون الجيم، جزم به في السبل، وقاله في النور كذا ضبط في نسخة صحيحة من الاستيعاب بالقلم، لكن بهامشه بخط ابن الأمين الفجر بفتح الجيم، قيده البخاري في التاريخ وهو العطاء، وفي الصحاح الفجر بالفتح: الكرم.
قال الذهبي: صحابي من أعراب البصرة, وزعم ابن الفرض أن ميسرة لقبه واسمه عبد الله بن أبي الجدعاء، والذي أفاده صنيع الحسيني أنه غيره وهو الظاهر، انتهى. فيحتمل أنه
قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد". هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخاري في تاريخه وأبو نعيم في الحلية، وصححه الحاكم.
__________
ضبي ويلقب بالفجر فعدل المصنف عما في المسند لبيان نسبته.
وقول الشارح ينافيه قول الإصابة أنه تميمي، وما ذكر في اللب: أن ضبة في تميم فيه أنه لم يذكر أن ميسرة تميمي إنما قاله في ابن أبي الجدعاء، وذكر في ميسرة ما يفيد أنهما اثنان؛ لأنه ترجم به ثم قال: وقيل إنه ابن أبي الجدعاء الماضي فحكاه مقابلا أو أنه ضبي خلفًا، ونحو ذلك.
"قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" فإن ورد أن حقيقة آدم هذا الهيكل المخلوق من طين المنفوخ فيه الروح، فمجموعهما هو آدم فما معنى البينية؟ أجيب بأنه مجاز عما قبل تمام خلقه قريبًا منه، كما يقال: فلان بين الصحة والمرض، أي: في حالة تقرب منهما، وقال في النسيم: الظاهر أنه ظرف زمان بمعنى أن نبوته محكوم بها ظاهرة بين خلق روح آدم وخلق جسده حيث نبأه في عالم الأرواح، وأطلعها على ذلك، وأمرها بمعرفة نبوته والإقرار بها, وهذا المعنى يفيده قوله بين الماء والطين، أي: بعد خلق عناصره غير مركبة ولا منفوخ فيها الروح، فهو بمعنى الحديث الذي صححوه فتكون رواية بالمعنى إذا لم يثبت بهذا اللفظ، وهذا مما لم يحم أحد حول حماه، انتهى.
"هذا لفظ رواية الإمام أحمد" في المسند من طريق بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر وأخرجه من وجه آخر بلفظ متى جعلت، "ورواه البخاري" إمام الفن محمد بن إسماعيل الجعفي مناقبه كالشمس، "في تاريخه" الكبير صنفه وعمره ثمان عشرة سنة عند قبره صلى الله عليه وسلم، قال ابن عقدة: لو كتب الرجل ثلاثين ألفًا ما استغنى عن تاريخ البخاري. وال السبكي: تاريخه لم يسبق إليه ومن ألف بعده في التاريخ أو الأسماء أو الكنى، فعيال عليه.
"وأبو نعيم" بالتصغير أحمد بن عبد الله الأصفهاني الحافظ المكثر، أخذ عن الطبراني وغيره وعنه الخطيب وغيره، مات بأصفهان سنة ثلاثين وأربعمائة عن أربع وتسعين سنة، ذكره الذهبي "في الحلية" أي: في كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، قالوا: لما صنفه بيع في حياته بأربعمائة دينار, ورواه البغوي وابن السكن وغيرهم كلهم من هذا الوجه.
"وصححه الحاكم" وفي الإصابة سنده قوي، لكن اختلف فيه على بديل بن ميسرة، فرواه منصور بن سعد عنه هكذا، وخالفه حماد بن زيد فرواه عن بديل عن عبد الله بن شقيق، قال: قيل: يا رسول الله! ولم يذكر ميسرة، وكذا رواه حماد عن والده وعن خالد الحذاء كلاهما عن
وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين. فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه "المقاصد الحسنة": لم نقف عليه بهذا اللفظ. انتهى.
وقال العلامة الحافظ ابن رجب، في اللطائف: وبعضهم يرويه: متى كتبت نبيًا................
__________
عبد الله بن شقيق، أخرجه البغوي، وكذا رواه حماد بن سلمة عن خالد عن عبد الله بن شفيق، عن رجل، قال: قلت: يا رسول الله! وأخرجه من هذا الوجه أحمد وسنده صحيح، انتهى. قلت: هذا اختلاف لا يقدح في الحديث؛ لأن راويه حماد بن زيد وموافقيه المرسلة غير قادحة في رواية من وصله لصحة الإسناد، وقد تابع منصورًا على وصله عن بديل إبراهيم بن طهمان أخرجه ابن نجيد، وهي متابعة تامة، وتابعه أيضا في شيخه خالد الحذاء عند أحمد، ورواية ابن سلمة غاية ما فيها إبهام الصحابي، ولا ضير فيه لعدالة جميعهم، واستظهر البرهان في النور أنه ميسرة، قائلا: لم يذكره الحسيني في مبهمات المسند.
"وأما ما اشتهر على الألسنة" ألسنة من لا خبرة له بالحديث من أنه مروي "بلفظ: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين" فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" نسبة إلى سخا قرية من أعمال مصر على غير قياس، "في كتابه المقاصد الحسنة" في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة "لم نقف عليه بهذا اللفظ، انتهى" ما نقله من كلام شيخه وبقيته فضلا عن زيادة: "وكنت نبيًا ولا آدم ولا ماء ولا طين". وقد قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- في بعض الأجوبة عن الزيادة أنها ضعيفة والذي قبلها قوي، انتهى. ولعله أراد بالمعنى، وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما، والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين وأنهما كذب وأقره في النور.
والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في وضع اللفظين، قائلا: ونهايك به اطلاعًا وحظًا، أقر له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، انتهى.
"وقال العلامة الحافظ" زين الدين عبد الرحمن بن أحمد، "بن رجب" الحنبلي الواعظ المحدث الفقيه البغدادي ثم الدمشقي، أكثر الاشتغال حتى مهر وشرح الترمذي والعلل له وقطعة من البخاري وله طبقات الحنابلة، مات في رجب سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
"في اللطائف وبعضهم يرويه" أي: حديث ميسرة "متى كتبت نبيًا؟ " أي: متى كتبت
من الكتابة، انتهى.
قلت: وكذا رويناه في جزء من حديث أبي عمرو، إسماعيل بن نجيد، ولفظه: متى كتبت نبيًا؟ قال: "كتبت نبيًا وآدم بين الروح والجسد".
فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض على وجوب نبوته وثبوتها، فإن الكتابة تستعمل فيما هو واجب، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] و {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] .
وعن أبي هريرة..............................................
__________
نبوتك؟ أي: ثبتت وحصلت "من الكتابة" لا من الكون، "انتهى. قلت: وكذا رويناه في جزء من حديث أبي عمرو" بفتح العين وزيادة واو كما في النور، "وإسماعيل بن نجيد" بضم النون وفتح الجيم فتحتية ساكنة فدال مهملة، ابن أحمد بن يوسف النيسابوري السلمي أحد الأئمة، ,
,
,
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها.
قال الراغب: الخلق والخُلق -بالفتح وبالضم- في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب, لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخُصَّ الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى.
وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟
وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث....
__________
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية
"الفصل الثاني": من المقصد الثالث "فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية" الصالحة النامية، وجمع الأخلاق باعتبار الثمرات الناشئة عن الخلق من الأوصاف الحميدة، كبشاشة واحتمال أذى وعدم المجازاة بالسيئة، فلا يرد أن كونه جبلة في الإنسان يقتضي اتحاده أو بناء على تعدده؛ كما صار إليه كثير "وشرفه به من الأوصاف المرضية،" بمعنى الأخلاق الزكية على أن المراد بها الثمرات.
"اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها" تخفيفًا, فالضم الأصل, لكن سوَّى بينهما في النهاية "قال الراغب: الخلق والخلق بالفتح" للأول، "وبالضم" للثاني "في الأصل، بمعنى واحد كالشرب" بالفتح "والشرب" بالضم"، "لكن خصَّ" في الاستعمال وإن أطلق بالاشتراك على كلٍّ منهما؛ "الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدرجة بالبصيرة انتهى".
وفي النهاية: الخلق -بضم اللام وسكونها- الدين والطبع والسجية, وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافه ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها؛ ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة، أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، "وقد اختلف هل حسن الخلق غريزة" بمعجمة فراء فتحتية فزاي منقوطة. أي: طبيعة؛ ", أو مكتسب، وتمسَّك من قال بأنه غريزة بحديث
ابن مسعود: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم. الحديث رواه البخاري.
وقال القرطبي: الخلق جبلة في نوع الإنسان, وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها كان محمودًا, وإلّا فهو المأموم بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودًا، وكذلك إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى.
وقد وقع في حديث الأشجّ..................
__________
ابن مسعود" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم" فأعطى بعضًا خلقًا حسنًا، وبعضًا خلقًا سيئًا، وفاوت في مراتبهما؛ "كما قسم" بينكم "أرزاقكم" فوسَّع على بعض، وضيِّقَ على بعض "الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد كما عزاه له جمع، منهم المصنف على البخاري, خلافًا لما يوهمه إطلاقه هنا، أنه رواه في الصحيح, "وقال القرطبي: الخلق جبله" -بكسر الجيم والباء وشد اللام. طبيعة، وخلقة وغريزة وسجية، بمعنى واحد كما في المصباح، "في نوع الإنسان" أي أفراد النوع, " وهم في ذلك متفاوتون" إذ النوع حقيقة واحدة لا تكثر فيها ولا تعدد، واختلافهم فيها باعتبار أن منهم من جبلت طبيعته على محبَّة الأفعال الحسنة، ومنهم من طبيعته على خلاف ذلك.
وإليه أشار بقوله: "فمن غلب عليه شيء" حسن لاختلافها حسنًا وغيره؛ "منها" أي: من الصفات التي هي ثمرات الجبلة الموصوفة، بالحسن "كان محمودًا", ولا يرد عليه أن الجبلة شيء واحد فلا يتَّصف بغلبة ولا دونها، لما قلنا المراد بها الصفات لا نفس الطبيعة، "وإلّا" يغلب عليه شيء بأن غلبت عليه صفات الذم, أو استوى فيها الأمران, "فهو المأمور" بالأحاديث الدالة على طلب تحسين الخلق, وذلك "بالمجاهدة فيه، حتى يصير محمودًا" فيمكن اكتساب حسن الخلق، "وكذلك إن كان" الخلق "ضعيفًا فيرتاض صاحبه" أي: يسعى في تذليله؛ بتعويده الصفات الحميدة شيئً فشيئًا "حتى يقوى" يعني: أن الحسن مقول بالتشكيك، فمن غلب عليه الحسن الكامل لا يحتاج إلى علاج، ومن غلب عليه صفات الذم احتاج إلى علاج قوي؛ ومن كان فيه أصل الحسن احتاج إلى رياضة ليحصل له قوة في الصفة التي تلبس بها، هكذا أملاني شيخنا -رحمه الله، "وقد وقع في حديث الأشج" بمعجمة وجيم. سمي به لأثر كان في وجهه، واسمه المنذر بن عائذ -بمعجمة فتحتية فمعجمة. على الصحيح المشهور؛ الذي قاله ابن عبد البر: والأكثر وقيل اسمه المنذر بن الحرث بن زياد بن عصر -بفتح العين والصاد المهملتين ثم راء. ابن عوف، وقيل المنذر بن عامر, وقيل: ابن عبيد, وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن
أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: "الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله قديمًا كان فيَّ أو حديثًا؟ قال: "قديمًا"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خِلَّتين يحبهما الله. رواه أحمد والنسائي وصحَّحَه ابن حبان.
فترديد السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب, وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم كما حسَّنت خَلْقِي فحَسِّن خُلُقِي".......
__________
عوف. "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إن فيك خصلتين" تثنية خصلة، وفي رواية لخلِّتين وهما بمعنى "يحبهما الله".
زاد في رواية ورسوله "الحلم" العقل أو تأخير مكافأة الظالم أو العفو عنه، أو غير ذلك "والأناة" بالقصر بزنة فتاة: التثبت وعدم العجلة، وذلك إن وفد عبد القيس بادروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بثياب سفرهم, وأقام الأشج في رحالهم، فجمعها وعقل ناقته, ولبس أحسن ثيابه, ثم أقبل إلى النبي، فقر به -صلى الله عليه وسلم- وأجلسه إلى جانبه, وقال: "تبايعون على أنفسكم وقومكم"؟ فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله! إنك لن تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ون أبَى قاتلناه. قال: "صدقت, إن فيك" إلخ.
قال عياض: فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب، "قال: يا رسول الله, قديمًا كان" المذكور من الخصلتين، هكذا في نسخ بالأفراد، ومثلها بخط الشامي، وفي بعضها كانا بالتثنية، لكن المناسب كانتا "فِيَّ، أو حديثًا، قال: قديمًا. قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين" تثنية خلة، وهي الخصلة، كما في النسخ الصحيحة، وخط الشامي، وهو موافق لقول المصطفى، خلتين لفظًا ومعنًى، وعلى رواية الخصلتين، يكون عدل عن لفظه إلى معناه قرارًا من توارد الألفاظ، وأن بين مخاطبين، فما في نسخ على خلقين لا يناسب قوله خصلتين، إلّا بحملهما على غير معنى الخلق. "يحبهما الله" زاد في رواية ورسوله "رواه أحمد، والنسائي، وصححه ابن حبان", وهو في مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس, وتقدَّمت القصة مبسوطة في الوفود. "فترديد السؤال، وتقريره عليه" بقوله: قديمًا، "يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أقرَّه على سؤاله، وأجابه بقوله: قديمًا. قال ابن حجر وغيره: وهذا هو الحق، قال شيخنا: وهو جميع بين القولين لا ثالث، "وقد كان -صلى الله عليه وسلم" إذا نظر في المرآة "يقول: "اللهم كما حسَّنت" وفي رواية أحسنت، "خَلْقِي" بالفتح "فحسِّن خُلُقِي" بالضم، لأقوى على أثقال الخلق، وأتحقق بتحقق العبودية، والرضا بالعدل ومشاهدة الربوبية، قال الطيبي: يحتمل أن
أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم في حديث دعاه الافتتاح: واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ولما اجتمع فيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا يحصره عد، أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، وكلمة "على" للاستعلاء, فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستولٍ عليها.
والخلق: ملكة نفسانية يسهل على المتَّصِف بها الإتيان بالأفعال الجميلة
__________
يريد طلب الكمال، وإتمام النعمة عليه، بإكمال دينه، وأن يكون طلب المزيد والثبات على ما كان "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان" من حديث عبد الله بن مسعود، ورواته ثقات.
قال شيخنا: ففيه دليل على أن حسن الخلق قد يتجدَّد ويحصل، بعد أن لم يكن، وقال غيره: تمسك به من قال: حسن الخلق غريزي لا مكتسب. والمختار أن أصول الأخلاق غرائز، والتفاوت في الثمرات، وهو الذي به التكليف، "وعند مسلم في حديث: دعاء الافتتاح، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت" وهو يدل أيضًا على أنها قد تكتسب، "ولما اجتمع فيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا، يحصره عدَّ أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم، فقال مقسمًا: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية" لتحمُّلك من قومك ما لا يتحمَّله أمثالك، وقالت عائشة: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا من أهل بيته إلّا قال: "لبيك"، فلذلك، أنزل الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] الآية، رواه ابن مردويه، وأبو نعيم بسند واهٍ، "وكلمة على للاستعلاء، فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستول عليها" أي: متمكِّن من الجري على مقتضاها، ببذل المعروف، واحتمال الأذى، وعدم الانتقام، فأشبه في تمكُّنه من ذلك المستعلي على الشيء المستقر عليه, فهو استعارة تبعية لجريانها في الحرف، "والخلق ملكة نفسانية، يسهل على المتَّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة" كأنَّ هذا تعريف للخلق الحسن، المرضي شرعًا وعرفًا، فلا يشكل بأن الخلق قد يكون حسنًا، وقد يكون قبيحًا، ولذا جاء ذم الخلق في أحاديث كثيرة، ولذا اعترض عليه بأن هذا التعريف ليس بصواب؛ إذ الناشئ عن الجبلَّة يكون جميلًا تارة، وقبيحًا أخرى، وما ذكره إنما هو تعريف للخلق الحسن لا لمطلق الخلق، فكأنه لم يقف على قول الراغب حد الخلق حال للإنسان، داعية إلى الفعل من غير فكر ولا روية، ولا قول
وقد وصف الله تعالى نبيه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم, فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدةكمالها من جنس أرواح الملائكة.
قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنَّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه -صلى الله عليه وسلم- مقصورًا على ذلك، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبًا.........................
__________
الغزالي: هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير احتياج إلى فكر ورويِّة، فإن صدر عن الهيئة أفعال جميلة محمودة عقلًا وشرعًا سُمِّيَت خلقًا حسنًا، وإن صدر عنها أفعال قبيحة سُمِّيَت خلقًا سيئًا، وأجيب بأنه لم يدع حصر ما ينشأ عنها في الجميل، ورده شيخنا بأن حق التعريف أن يكون جامعًا مانعًا، والاعترا بالنظر، لهذا قال: والأحسن في الجواب؛ أنه قد يراد بالتعاريف تعريف بعض الأنواع، لتميزه عن غيره بصفة, حتى صار كأنه حقيقة في ذلك الشيء، وتنزيل غيره منزلة العدم، وهو هنا الخلق الحسن؛ إذ غيره لا اعتبار به.
"وقد وصف الله تعالى نبيه بما" أي: بكمال "يرجع إلى قوته العلمية، بأنه" أي: ذلك الكمال "عظيم" والمعنى وصفه بكمال عظيم يرجع إلى قوته العلمية، "فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] الآية" من الأحكام والغيب، "وكان فضل الله" بذلك وبغيره "عليك عظيمًا"؛ إذ لا فضل أعظم من النبوة، "ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية، فدلَّ مجموع هاتين الآيتين على أنَّ روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها من جنس أرواح الملائكة"؛ إذ أعطاهم الله قوة في العمل لا تصل إليها البشر، وفي العلم ما يصلون به إلى معرفة حقائق الأمور في اللوح المحفوظ، أو الإلهام والعلم الضروري بمعرفة الأمور على ما هي به في الواقع، وكذلك كان -صلى الله عليه وسلم. "قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة" -بدال مهملة مفتوحة، ومثلثة- السهولة واللين، كما في النهاية وغيرها، وهو عطف مباين؛ إذ السماحة كثرة العطاء، والدماثة أعمّ، "ولم يكن خلقه -صلى الله عليه وسلم- مقصورًا على ذلك" المذكور من السماحة والدماثة، "بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا قويًّا على الكفار، غليظًا عليهم مهيبًا" بزنة مبيع، اسم مفعول
في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصفه بالعِظَم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.
وقال الجنيد: وإنما كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى.
وقيل: لأنه -عليه الصلاة والسلام- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه.
وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن عبد الله: إن.......
__________
من هاب "في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم" حال من الأعداء "على مسيرة شهر"، كما ورد في الحديث، لأنه لم يكن بينه وبين أعدائه حينئذ أكثر من شهر من كل جهة، "فكان وصفه بالعِظَم" دون الكرم "أولى؛ ليشمل الإنعام والانتقام".
"وقال الجنيد"، أبو القاسم بن محمد, النهاوندي الأصل، البغدادي المنشأ، القواريري الزجاج، نسبة لحرفة أبيه، سيد الطائفة، مرجع أهل السلوك، تفقه على أبي ثور، وكان يفتي بحضرته وهو ابن عشرين سنة، ورزق من القبول وصواب القول ما لم يقع لغيره، كان إذا مرَّ ببغدد وقف الناس له صفوفًا، وكانت الكتبة تحضر مجلسه لألفاظه، والفقهاء لتقريره، والفلاسفة لدقة نظره، والمتكلمون لتحقيقه، والصوفية لإشارته وحقائقه، مات ببغداد سنة تسع أو ثمان وتسعين ومائتين، وحزر من صلى عليه، فكانوا نحو ستين ألفًا. "وإنما كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى" أي: سوى الاشتغال بامتثال أمره ونهيه، وتعظيمه, بالإقبال بجملته على عبادته، فلا يقبل على غيره طرفة عين. "وقيل: لأنه -عليه الصلاة والسلام- عاشر الخَلْقَ بخُلُقه" فكان يتكلم معهم في أمور دنياهم، من مزيد تلطفه بهم، وإن اقتضى الحال المزاح مازحهم، ولا يقول إلّا حقًّا كما قال زيد بن ثابت: كنت جار النبي -صلى الله عليه وسلم، وكنا إذ ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا. رواه البيهقي.
"وباينهم بقلبه"؛ إذ هو مقبل على الله، منزه عمَّا يشغل سرّه عنه، متبتل إليه بشراشره، "وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني في الأوسط" على الصواب، وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ، وما رأيته فيه، إنما فيه حديث أبي هريرة الآتي, أفاده السخاوي "بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن
الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال. وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه -صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله, والراسخون في العلم يقولون آمنا به، أي: أقررناه في نصابه,..............................................
__________
عبد الله "إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال" ولكنَّه، وإن كان ضعيفا رواية، فله شواهد، كما أفاده بقوله: "وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا" أي: أنه قال: بلغني أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" والبلاغ، وإن كان من أقسام الضعيف، إلّا أن بلاغات الإمام ليست منه؛ لأنها تتبعت كلها، فوجدت صحيحة أو حسنة، ولذا قال ابن عبد البر: على الموطأ: هو متَّصل من وجوه صحاحٍ عن أبي هريرة وغيره، منها ما أخرجه أحمد والخرائطي، برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه بلفظ صالح، وأخرجه البزار من هذا الوجه، بلفظ الموطأ، وفي رواية "لأتمم حسن الأخلاق"، وحسن الخلق: اختيار الفضائل وترك الرذائل.
"فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه -صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه مسلم وغيره: "كان خلقه القرآن" يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ابن الأثير: أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن. وقال البيضاوي: أي جميع ما حصل في القرآن، فإن كل ما استحصنه، وأثنى عليه، ودعا إليه قد تحلَّى به، وكل ما استهجنه، ونهى عنه, تجنبه وتخلَّى عنه، فكان القرآن بيان خلقه، وفي الديباج معناه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدُّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه, وتدبره وحسن تلاوته. انتهى.
وهي متقاربة، ثم هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عنها بهذا اللفظ، وزيادة يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ورواه ابن أبي شيبة وغيره، أن عائشة سُئِلَت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان أحسن الناس خلقًا، كان خلقه القرآن؛ يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] الآية، إلى العشر، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه -صلى الله عليه وسلم. "قال بعض العارفين: وقد عُلِمَ أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، والراسخون في العلم" مبتدأ خبره، "يقولون آمنَّا به، أي: أقررناه في نصابه" أي: أصله،
وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه:
وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل
وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. فيه رمز غامض، وإيماء إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى, فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن استحياءً من سبحات الجلال وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها، انتهى.
__________
بحيث لا نتكلم فيه بشيء، "وأقررنا:" اعترفنا "به من خلف حجابه" لعدم قدرتنا على كشفه، والمراد بالحجاب: ما يمنع حمل المتشابه على ظاهره، كاستحالة إطلاقه على الله، يعني: آمنا به مع اعترافنا بإشكاله علينا، "وتلقدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه" أي: احتججنا به مع عدم العلم بالمراد منه:
وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل
يعني: إنه لا يُدْرَكُ معناه لشدة خفائه؛ بحيث أشبه من الموجودات ما لا يدرَك بالبصر، لدقته وخفائه، ولا تدرك صفته بمس الأنامل لذلك أيضًا. "وقال صاحب عوارف المعارف" العارف، العلامة عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السهروردي -بضم المهملة، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح الواو، وسكون الراء الثانية، ودل مهملة- نسبةً إلى سهرورد بلد عند زنجان. الإمام الورع، الزهد الفقيه الشافعي، ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف، ثم لازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلَّم على الناس لما أسنَّ، ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثير من العصاة، وكُفَّ، وأقعدَ، وما أخلَّ بذكر ولا حضور، جمع ولازم الحج، فكانت محفَّته تحمل على الأعناق من العراق إلى البيت الحرام، ومات ببغداد مستهَلّ محرم، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، "ولا يبعد أن قول عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، فيه رمز غامض" خفي "وإيماء" إشارة إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت" استحيت "الحضرة الإلهية، أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى، فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن، استحياء من سبحات" بضم السين "الجلال" إضافة بيانية، قال المصباح: السبحات التي في الحديث جلال الله وعظمته ونوره وبهائه، "وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها، وكمال أدبها، انتهى".
فكما أن معاني القرآن لا تتناهى, فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدَّد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم, وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذًا التعرُّض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته.
قال الحرالي -وهو كما في القاموس -بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه: علي بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة: ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلام- بربه -عز وجل-كما قال: بربي عرفت كل شيء، كانت أخلاقه أعظم خلق، فكذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمَّت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمَّت جميع العالمين. فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أنَّ الربوبية نعم العالمين, فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين. انتهى.
__________
فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة، الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم" جمع شيمة -مثل سدرة وسِدَر- الغريزة، والطبيعة، والجبلة، وهي التي خلق الإنسان عليها، قاله المصباح، "وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فأذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة، تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته، قال الحرالي، وهو كما في القاموس" في فصل الحاء المهملة من باب اللام، "بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه على" لفظ القامّوس حر، آلة مشددة اللام، بلد بالمغرب، أو قبيلة بالبربر، منه الحسن بن علي، "بن أحمد بن الحسن" الحر، إلى "ذو التصانيف المشهورة، ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلا- بربه -عز وجل- كما قال: "بربي عرفت كل شيء"، كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الأنس، حتى عمت الجن" إجماعًا، "ولم يقصرها على الثقلين" الإنس والجن، "حتى عمَّت جميع العالمين" على ظاهر قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "وبعثت إلى الخلق كافَّة" رواه مسلم.
"فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أن الربوبية تعم العالمين، فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين، انتهى".
وهذا مصير منه إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضًا، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى -إن شاء الله تعالى وهو المستعان.
وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولًا على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية القصوى والمقام الأسنى.
وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمالُ العقل؛ لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل،.............................................
__________
وهذا مصير منه إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضًا" كما اختاره كثيرون، بل قوله، فكل من كان الله إلخ ... " يفيد أنه مرسل لسائر الحيوانات والجمادات، فإن الكل مربوب له تعالى، ويصدق عليه قوله: فمحمد رسوله؛ إذ معناه مرسل إليه، "وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى" في الخصائص، "وهو المستعان", ولما قدم أن الخلق غريزي ومكتسب، استشعر سؤال سائل عن خلق المصطفى، من أيهما، فاستأنف قاصدًا زيادة الإيضاح، وإن قدَّم ما يفيده قوله: "وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولًا" مطبوعًا "على الأخلاق الكريمة" الحميدة، صفة مخصصة لما عُلِمَ أنها حميدة، وضدها، ووصفها بالكريمة؛ لأنه الغالب، ولذا احتيج للجواب عن الآية، كما مرَّ "في أصل خلقته الزكية النقية"، فلا يحتاج إلى الاكتسابات المتكلفة لتحسين الخلق، ولا ينافيه طلبه تحسين خلقه؛ لأن القصد به إظهار العبودية، وتعليم الأمة، وطلب الزيادة؛ لأن الكمال يقبل الكمال "لم يحصل له ذلك برياضة" أي: تذليل وتعويد "نفس" ما فيه ليت وسهولة.
وهذه صفة كاشفة لقوله مجبولًا، "بل بجود إلهي، ولهذا" أي: كونها لم تحصل برياضة، "لم تزل تشرق" تضيء, أي: تزداد كمال "أنوار المعارف" أي: العلوم والإضافة حقيقة بحمل المعارف على العلوم، والأنوار على مآثرها، أو بيانية، أي: أنوار هي المعارف أي: العلوم، "في قلبه حتى وصل إلى الغاية" أي: المرتبة، وتكون عليا وسفلى، فلذا وصفها بقوله: "القصوى" فلا يرد أن الغاية النهاية، ولا تنقسم، فلا يصح الوصف، "والمقام الأسنى" الأرفع من كل مقام، عطف تفسير للإشارة إلى بلوغه في ذا الكمال أعلى رتبة، "وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء: العطية بلا عوض، وكان المراد من عطفها على الخصال؛ أنها حصلت بلا كسب ولا تعب، "المجيدة" أي: العزيزة الشريفة، "كمال العقل؛ لأن به" لا بغيره "تقتبس" تؤخذ، أي: تكتسب "الفضائل" فقدم به على العامل ليفيد الاختصاص،
فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. قال بعضهم: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
وأما ما روي: إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي. قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق. انتهى.
وفي زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على..........................................
__________
"و" كذلك به "تجتنب الرذائل"، الأمور الردية، جمع رذيلة ضد الفضيلة، "فالعقل لسان الروح"، أي: إنه لها بمنزلة اللسان للإنسان، والروح عند أهل السنة: النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، فكما أنَّ الإنسان الذي لا لسان له أصلًا لا يمكنه التكلُّم بشيء، فكذلك من لا عقل له لا يحسن شيئًا من أنواع التصرُّفات التي يريد فعلها أو تركها، ومن له عقل تمكَّن من بيان مراده، وأمكنه التأمُّل فيما يريد فعله، فيختار الحسن، ويدع القبيح.
"وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب" فصلاح الروح بصلاح البصيرة، كما أن صلاح الجسد بصلاح القلب، كما في الحديث، "والعقل بمثابة اللسان" للروح، وصلاحها وفسادها بصلاح البصيرة، التي هي لها كالقلب، فاللسان مترجم في الحقيقة عمَّا في القلب؛ لأن إصلاح الروح وفسادها تابع للبصيرة، "قال بعضهم: لكل شيء جوهر" أي: أصل جُبِلَ عليه، "وجوهر الإنسان" الذي طُبِعَ عليه "العقل، وجوهر" أصل, "العل" الذي يتمكَّن معه من امتثال الأمر واجتناب النهي, "الصبر" على المكاره، فيخالف نفسه لما فيه صلاح يوافق الشرع، بفعل الأمر، وترك النهي، كما أشير إليه بحديث "حُفَّت الجنة بالمكاره"، ولما استدلَّ على كمال العقل بأمور عقلية، استشعر قول سائل لم لا تستدل بالحديث، فأجابه بالإشارة إلى أنه لا حجة فيه، فقال: "وأما ما روي أنَّ الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك" أي: بسببك "آخذ" من جنى، "وبك أعطي" من اتَّقى؛ لأنَّك سبب للطاعة والعصيان، وإنك أشرف ما يكتسب بك الخير والشر، "فقال ابن تيمية" العلامة، الإمام، الحافظ، الناقد، الفقيه الحنبلي، أحمد أبو العباس، تقي الدين بن عبد الحليم بن مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني، أحد الأعلام الأذكياء الزهَّاد، ألَّف ثلثمائة مجلد، مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ووُلِدَ سنة إحدى وستين وستمائة، "وتبعه غيره" كالزركشي، "أنه كذب موضوع باتفاق. انتهى".
ولكن فيه نظر؛ لأن له أصلًا صالحًا، "في زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على" كتاب
"الزهد" لأبيه, عن علي بن مسلم, عن سيار بن حاتم -وهو ممن ضعَّفه غير واحد, وكان جمَّاعًا للرقائق، وقال القواريري: إنه لم يكن له عقل. قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصري، مرسلًا: لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر, فقال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بل آخذ وبك أعطي.
وأخرجه داود بن......................................................
__________
"الزهد، لأبيه، عن" شيخه "علي بن مسلم، بن سعيد الطوسي، نزيل بغداد، ثقة، روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، "عن سيار" بفتح السين المهملة، والتحتانية المثقلة، "ابن حاتم" العنزي، بفتح المهملة، والنون، ثم زاي، أبي سلمة البصري مات سنة مائتين، أو قبلها بسنة، "وهو ممن ضعَّفه غير واحد" كالقواريري والأزدي, ولكن احتج به الترمذي والنسائي على تفنُّنه في الرجال، وابن ماجه، ووثَّقه ابن حبان.
وقال الذهبي: صالح الحديث، والحافظ، صدوق له أوهام، وقال الحاكم: كان سيار عابد عصره، وقد أكثر عند أحمد بن حنبل، "وكان جمَّاعًا" كثير الجمع "للرقائق" صحيحة أم لا، "وقال القواريري" بفتح القاف، والواو، فألف، فراءين بينهما تحتية، نسبة إلى عمل القوارير، أو بيعها عبيد الله بن عمر بن ميسرة البصري، نزيل بغداد، الحافظ، الثقة، الثبت، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين على الأصح، وله خمس وثمانون سنة؛ "إنه لم يكن له عقل" كان معي في الدكان، قيل للقواريري: أتتهمه، قال: لا. وقال الأزدي: عنده مناكير لفظ الزوائد لابن أحمد، حدثنا علي ب مسلم, حدثنا سيار بن حاتم: "قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي" بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، أبو سليمان البصري، صدوق زاهد, لكنه كان يتشيع، روى له مسلم وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمان وسبعين ومائة "قال: حدثنا مالك بن دينار" البصري، الزاهد، أبو يحيى، صدوق، عابد، روى له الأربعة، وعلق له البخاري، مات سنة ثلاثين ومائة أو نحوها: "عن الحسن البصري" يرفعه "مرسلًا، لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحبَّ إلي منك، بك آخذ وبك أعطي" قال السيوطي: هذا مرسل جيد الإسناد، وهو في معجم الطبراني الأوسط، موصول من حديث أبي أمامة، ومن حديث أبي هريرة بإسنادين ضعيفين. انتهى.
وهو كلام محقَّق في الفن؛ إذ سيار مختلف في توثيقه وتضعيفه، فحديثه جيد، ومنهم من يقول: حسن، فلا عبرة بقول الشامي: هذا من الأحاديث الواهية لا الضعيفة، "وأخرجه داود بن
المحبر في كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب.
فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل.
ولأبي الشيخ عن قرة بن إياس المزني رفعه: الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم.
وقد اختلف في ماهية العقل......................................................
__________
المحبر" بمهملة، وموحَّدة مشددة مفتوحة. ابن قَحذم -بفتح القاف، وسكون المهملة، وفتح المعجمة، الثقفي، البكراوي أبو سليمان البصري، نزيل بغداد, متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه موضوعات من التاسعة، مات سنة ست وخمسين ومائتين، روى له ابن ماجه، ذكره الحافظ في التقريب، "في كتاب العقل له" فقال: حدثنا صالح المري، عن الحسن به بزيادة، ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد، والباقي مثله، "وابن المحبر كذاب" ولذا تركوه، ومن العجب إيماء الشارح للاعتراض على المصنف، بأن الذي في اللب واللباب المحبري، نسبة إلى كتاب المحبر الذي جمعه محمد بن حبيب، فيقال لمصنفه المحبر. انتهى.
إذ كتاب العقل غير كتاب المحبر، والمحبر هنا علم على أبي داود، وذاك لقب لمحمد، وهما شخصان وكتابان، "فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر، والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل", وهذا أيضًا يؤذن بثبوت حديث العقل، فأين الاتفاق على وضعه؟، "ولأبي الشيخ" عبد الله، بن محمد الحفظ، "عن قرة، بن إياس"، بن هلال "المزني"، أبي معاوية الصحابي، نزيل البصرة، له أحاديث في السنن وغيرها، مات سنة أربع وستين، "رفعه: الناس يعملون الخير، وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم", فقد يجتهد الإنسان في الخير، ويداخله رياء أو نحوه، فينفي ثوابه، أو ينقص، وذلك ناشئ من فساد العقل، فكامله يحترز عن ذلك, ويسعى في تحصيله على أتم حال، ولو بمشقة، "وقد اختلف في ماهية العقل" من عقل البعير: منعه بالعقال عن القيام، أو من الحجر المنع؛ لأنه يعقل صاحبه ويمنعه عن الخطأ {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، وقد تظرَّف في التلميح لأصله القائل:
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
ومحله القلب عند جمهور أهل الشرع، كالأئمة الثلاثة، لقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي
اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه. وفي القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وبشرِّ الشرين، أو يطلق لأمور لقوّة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعانٍ مجتمعة في الذهن تكون بمقدِّمات تثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته, والحق أنه روحاني به تدرك النفوس العلومَ الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل في الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا............................................................
__________
القلب والدماغ"، له تابع؛ إذ هو من جملة الجسد، وقال علي: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة، رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي، بسند جيد، وذهب الحنفية، وابن الماجشون، وأكثر الفلاسفة إلى أنه في الدماغ؛ لأنه إذا فسد فسد العقل، وأجيب، بأن الله أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع في هذا، "اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه" بدليله، وتعليله، "وفي القاموس، ومن خط مؤلفه" المجد الشيرازي، "نقلت العقل العلم" مطلقًا أي: مطلق الإدراك، بلا اعتبار تعلُّقه بمعلوم دون آخر، "أو" هو العلم, "بصفات الأشياء من حسنها، وقبحها، وكمالها، ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين، وبشرّ الشرين، أو يطلق لأمور" أو إشارة للخلاف، فكأنه قال: اختلف في العقل هل هو العلم، أو غيره، وعلى أنه العلم، فقيل مطلقًا، وقيل بصفات إلخ.....................
وعلى أنه غير العلم، فهو مشترك يطلق لأمور "لقوة بها، يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة في الذهن، تكون بمقدمات تثبت بها الأغراض، والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته، والحق أنه نور "روحاني" بضم الراء، ما فيه روح، وكذلك النسبة إلى الملك والجن، والجمع روحانيون، كما في القاموس، "به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد" أي: كونه جنينًا في بطن أمه، "ثمَّ لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، انتهى" كلام القاموس. وليس فيه بيان أيّ وقت يخلق العقل فيه، فإنه قال في باب النون: الجنين الولد في البطن، جمعه أجنة، وفي المصباح: وصف له ما دام في بطن أمه، ومفادهما وصفه به من أول خلقه، "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل في الغاية" أي: المرتبة "القصوى" التي لا مرتبة فوقها، فلا يردان الغاية النهاية، فلا توصف بالقصوى؛ إذ لا تتصف النهاية بالبعد تارة، والقرب تارة، والقرب أخرى، "التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه" علومه
كانت معارفة عظيمة, وخصائصه جسيمة، حارت العقول في بعض فيض ما أفاضه من غيبة لديه، وكلَّت الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته.
قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابًا، فوجدت في جميعها أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله -صلى الله عليه وسلم- إلا كحبَّة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وأن محمد -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.
وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي -صلى الله عليه وسلم, وجزء في سائر المؤمنين، ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشارد،....................................................
__________
بالأشياء، "عظيمة" لمطابقتها للواقع دائمًا، بلا خلل فيها، ولا ميل عن الحق، "وخصائصه جسيمة" أي: عظيمة، فغاير كراهية لتكرر اللفظ "حارت العقول" لم تدر وجه الصواب "في بعض فيض ما أفاضه، من غيبه لديه، وكلَّت" تَعِبَت "الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك، وقد امتلأ قلبه وباطنه إيمانًا وحكمة حين شُقَّ صدره، فأعطي ما لم يعط غيره، فالمفعول محذوف، "وفاض على جسده المكرَّم ما وهبه" مفعول لفاض لا لامتلأ، لأنه إنما يتعدَّى بحرف الجر، فمفعوله محذوف، كما قدرت، وفي نسخ، لما بلام التعليل، لامتلأ، وفاض، أي: وفاض آثار ذلك على جسده، لم وهبه الله، "من أسرار إلهيته، ومعرفة ربوبيته، وتحقق عبوديته".
"قال وهب بن منبه" -بضم الميم، وفتح النون، وكسر الموحدة- ابن كامل اليماني، التابعي، الثقة، روى له الشيخان وغيرهما: "قرأت في أحد وسبعين كتابا" من الكتب القديمة، وكان خبرها، "فوجدت في جميعها، أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل, في جنب عقله -صلى الله عليه وسلم، إلّا كحبة رمل بين رمل" كائن، أو الذي هو "من جميع رمال الدنيا" فالبينية تكون بين يسيرين، والمنسوب إليه جميع الرمال، "وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلًا، وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية، وابن عساكر" وقال ابن عباس: أفضل الناس، أعقل الناس، وذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم، رواه داود بن المحبر، وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي -صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين" من أمته وغيرهم، "ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب، الذين هم كالوحش الشارد" النافر
والطبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله -عليه الصلاة والسلام- أوسع العقول, لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعًا لا يضيق على شيء.
فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم في الحلم والعفو مع القدرة, وصبره -عليه الصلاة والسلام- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه على الكافرين المقاتلين المحاربين له في أشد ما نالوه به من الجراح والجهد بحيث كُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شَقَّ ذلك على أصحابه شديدًا،.........................................................
__________
الناد "والطبع المتنافر المتباعد، و" تأمل "كيف ساسهم" ملكهم بحسن تصرفه فيهم، واستجلاب قلوبهم، "واحتمل جفاهم",
في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره، وشهادته له بصدق
__________
المقصد السادس:
"في" بيان "ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره" بيان لما، أي: بيان مقداره وشرف رتبته "ورفعة" أي: أعلاه، "ذكره" بين الناس بأمرهم بالثناء عليه فيه، وقرن اسمه باسمه محمد رسول الله، وجعل طاعته طاعته، من يطع الرسول فقد أطاع الله، وخطابه بألقاب يا أيها النبي، يا أيها الرسول، "وشهادته له" أي: إخباره، والشهادة خبر قاطع، كما في القاموس "بصدق نبوته"
نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته، واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلًا، ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه، والتنويه به في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل وغير ذلك.
__________
أي: بوجودها وتحققها في نفسها، لتحقق أنها وحي من الله، والمراد بصدقه عليه السلام في دعواها، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45] ، فجعله شاهدًا على أمته بإبلاغهم الرسالة، وهذا من خصائصه، ومبشرًا لأهل الطاعة، ونذيرًا لأهل المعصية، وداعيًا إلى توحيد الله، وسراجًا منيرًا يهتدى به للحق، "وثبوت بعثته" كالدليل على تحقق نبوته، "وقسمه تعالى على تحقيق رسالته" بنحو: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1] ، "وعلو منصبه" حسبه وشرفه "الجليل" العظيم، "ومكانته" عظمته، يقال: مكن فلان مكانة، بزنة ضخم ضخامة: عظم وارتفع، فهو مكين، أو استقامته، يقال: الناس على مكانتهم، أي: على استقامتهم، "ووجوب طاعته" بنحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، "واتباع سنته" طريقته بنحو قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [آل عمران: 31] ، "وأخذه تعالى له الميثاق على سائر" أي: جميع "النبيين فضلًا" أي: إحسانًا "ومنة" أي: إنعامًا، "ليؤمنن به إن أدركوه، ولينصرنه" بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] ، "والتنويه" أي: الرفع والتعظيم "به في الكتب السالفة" بذكر اسمه، ونعته فيها "كالتوراة والإنجيل" كما في الصحيح عن عبد الله بن عمر؛ أنه صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، الحديث في التنزيل عن الإنجيل، ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وفي نسخ: والتوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام، تنبيهًا على عظم قدرهما حتى كأنهما نوع مغاير لما عطف عليه "بأنه صاحب الرسالة والتبجيل" متعلق بقوله، والتنويه به بعد تعلقه بالأول، والمعنى رفع ذكره؛ بأنه صاحب الرسالة، وهذا أظهر من كونه بدلًا منه "وغير ذلك".
تمهيد:
اعلم أطلعني الله وإياك على أسرار التنزيل، ومنحنا بلطفه تبصرة تهدينا إلى سواء السبيل، أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة إلى علو محله الرفيع ومرتبته، ووجوب المبالغة في حفظ الأدب معه، وكذلك الآيات التي فيها ثناؤه تعالى عليه وإظهاره عظيم شأنه لديه، وقسمه تعالى بحياته، ونداؤه بـ"الرسول" و"النبي" ولم يناد باسمه بخلاف غيره من الأنبياء، فناداهم بأسمائهم إلى غير ذلك مما يشير إلى أنافة قدره العلي عنده، وأنه لا مجد يساوي مجده، ومن تأمل القرآن العظيم وجنده طافحًا بتعظيم الله تعالى
__________
تمهيد:
"اعلم" أمر يصدر به ما يعتني به من الكلام، "أطلعني الله وإياك على أسرار التنزيل" بمعنى المنزل، وهو القرآن، والكتب المنزلة، فيشمل جميعها، "ومنحنا" وهبنا "بلطفه تبصرة" أي: تنويرًا في قلوبنا، وهي رؤية الأشياء بعين البصيرة، بحيث لا يقتصر منها على رؤية ظاهرها، بل تعير إلى ما يؤول إليه باطنها، كذا في لطائف الأعلام "تهدينا إلى سواء السبيل" الطريق، ومعمول اعلم؛ "أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة" أي: من حيث دلالتها على ذلك، فلا ينافي أن الآيات الدالة محصورة معدودة في أنفسها، بل حروف القرآن كلها محصورة مضبوطة، واحتمال أن المراد بالآيات معناها اللغوي، وهو العلامات الدالة على نبوته وغيرها، مما ثبت له من الكمالات، مدفوع بأن الترجمة فيما ورد في آي التنزيل لا في مطلق العلامات، "إلى علو محله الرفيع" أي: لشريف، "ومرتبته، ووجوب المبالغة في حفظ الأدب معه" كقوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] ، "وكذلك الآيات التي فينا ثناؤه تعالى عليه، وإظهاره عظيم شأنه لديه" عنده، "وقسمه تعالى بحياته" بقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ، اتفق المفسرون على أنه قسم من الله بمدة حياته صلى الله عليه وسلم، حكاه عياض، ومراده مفسر، والسلف، فإنه كما قال ابن القيم: لا يعرف بينهم في ذلك نزاع، ولم يوفق الزمخشري في قوله: إنه خطاب من الملائكة للوط، ويأتي إن شاء الله تعالى بسطه عند حكاية المصنف ذلك، "ونداؤه بالرسول والنبي، ولم يناد باسمه بخلاف غيره من الأنبياء" "فناداهم بأسمائهم" يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا لوط، يا موسى، يا عيسى، "إلى غير ذلك مما يشير إلى أنافة" أي: زيادة، "قدره" من أنافت الدراهم على مائة، زادت عليها "العلي" الرفيع "عنده" تعالى، "وأنه لا مجد يساوي مجده" شرفه وكرمه في ذاته وأصوله، "ومن تأمل القرآن العظيم وجده طافحًا" ممتلئًا، أي:
لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويرحم الله ابن الخطيب الأندلسي حيث قال:
مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي
وإذا كتاب الله أثنى مفصحًا ... كان القصور فصار كل فصيح
وهذا المقصد -أكرمك الله- يشتمل على عشرة أنواع:
__________
دالًا دلالة ظاهرة بكثرة، بمعنى ناطقًا، فلذا عداه بالباء في قوله: "بتعظيم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويرحم الله ابن الخطيب" أبا عبد الله محمد بن جابر "الأندلسي، حيث قال: مدحتك آيات الكتاب" كلها صريحًا، أو استلزامًا بذمها لمخالفه، ودلالتها على إكرامه بنزولها عليه مع اشتمالها على ما فات به غيرها من الكتب السماوية، "فما عسى، يثني على علياك" أي: شرفك، "نظم مديحي" أي: فأي: شيء يترجى به أن يليق الثناء به على شرفك التام بالنسبة لما أثنى الله عليك، "وإذا كتاب الله أنثى مفصحًا" عليك، "كان القصور" أي: العجز، "فصار": "بضم القاف" أي: غاية "كل فصيح" أنه يعترف عن الإتيان ببعض وصافك، "وهذا المقصد أكرمك الله" جملة دعائية "يشتمل على عشرة أنواع".
,
وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته
قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] .
قال المفسرون: يعني موسى عليه الصلاة والسلام، كلمه بلا واسطة، وليس
__________
النوع الأول
في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره، وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته" هي والرتبة متقاربان بمعنى علو القدر، "قال الله تعالى: {تِلْكَ} مبتدأ {الرُّسُلُ} صفة والخبر {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بتخصيصه بمنقبه ليس لغيره {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] .
"قال المفسرون" أي: جمهورهم: "يعني موسى عليه الصلاة والسلام كلمه بلا واسطة" وقيل: المصطفى كلمه ليلة المعراج، "وليس نصًا في اختصاص موسى بالكلام".
نصًا في اختصاص موسى بالكلام، وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا كما مر.
فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق منه لموسى؟
أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله
__________
لأنه إنما قال منهم، فلا يفهم منه؛ أنه لم يكلم غيره، ""وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا أيضًا، كما مر" ليلة المعراج.
وقد قال السيوطي: من جملة من كلم من الأنبياء آدم، كما في الحديث، "فإن قلت إذا" بمعنى حيث "ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة، وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم" بمعنى المكالم، كالجليس بمعنى المجالس، والأنيس بمعنى المؤانس، والنديم بمعنى المنادم، وهو كثير، "كما اشتق منه لموسى، أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق، كاسم الفاعل" مثل القائم والضارب، فيطرد بمعنى: أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم، "وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة، فلا يطرد" وحاصله مع الإيضاح، كما قال شيخنا: إن المشتق، وهو ما دل على ذات مبهمة، باعتبار حدث معين قد يكون اشتقاقه لما فهم فيه من المصدر الذي اشتق منه ذلك اللفظ، فلاحظ أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، فإذا اشتق على هذا الوجه وجب إطلاقه على كل ما صدق عليه الضارب والقائم، فإن كلًا منهما يصدق على من اتصف بالضرب والقيام، وقد يكون إطلاقه على معنى، وتخصيصه به؛ باعتبار أثر قام به حمل المستعمل على ملاحظته في أصل وضع اللفظ لذلك المعنى، فوضعه، وهذا من الأسماء المشبهة للصفات، وليس منها، والكليم من هذا النوع، فلا يلزم من إطلاقه على موسى لكلام الله إطلاقه على غيره ممن كلمه الله تعالى.
"وحينئذ، فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين" عبد الرحمن بن أحمد إلا يجيء المحقق التحرير، يروي تصانيف
المولى سعد الدين التفتازاني.
وقوله: رفع بعضهم درجات يعني محمدًا صلى الله عليه سولم رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه:
بالذات في المعراج.
وبالسيادة على جميع البشر.
وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله.
قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، انتهى.
__________
البيضاوي عن زين الدين الهنكي، عنه، وروى عنه محمد بن يوسف الكرماني، شارح البخاري، "وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله" تلميذه "المولى سعد الدين التفتازاني" بفتح الفوقيتين والزاي وسكون الفاء، نسبة إلى تفتازان: قرية بنواحي نسا، ولعل حكمة عدم إطلاقه على المصطفى مع ظهور دلالته على كلامه؛ أن قومه أنكروا الإسراء أصلًا، فلم يسم كليمًا حذرًا من إنكارهم، إذ سمعوه، وتكلمهم بما لا يليق في حقه، ولا دليل قطعي يرد عليهم، فاقتصر على ما ظهر لهم كالإسراء، فإنه وصف لهم بيت المقدس وغيره، فتحققوا صدقه وإن أنكروه عنادًا.
"وقوله: ورفع بعضهم درجات، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه بالذات في المعراج" إلى مقام لم يصل إليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، "وبالسيادة على جميع البشر" لقوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، "وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله" قال عياض: ولأنه بعث إلى الأحمر والأسود، أي: لعموم بعثته.
"قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام" بقوله بعضهم، "من تفخيم فضله وإعلاه قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس" فهو وإن عبر عنه بالبعض المقتضى لإبهامه، معلوم متميز عن سائر من عداه، ومتعين فيه.
قال التفتازاني: في التعبير عنه باللفظ المبهم تنبيه على أنه من الشهرة بحيث لا يذهب الوهم إلى غيره في هذا المعنى، ألا ترى أن التنكير الذي يشعر بالإيهام كثيرًا ما يجعل علمًا على الإعظام والإفخام، فكيف اللفظ الموضوع لذلك، "انتهى" كلام الزمخشري، وقد أحسن فيه، لكنه أساء في قوله بعده، ويجوز أن يريد إبراهيم، أو غيره من أولي العزم من الرسل.
وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] أن مراتب الأنبياء والرسل متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين رد عليهم: وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة.
وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل.
والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما.
__________
وقد قال بعض المحققين: لم يصب الزمخشري في تجويزه، أن المراد بالبعض غيره؛ لأن المستحق للتفضيل على الوجه المذكور هو أفضل الأنبياء بإجماع المسلمين، وتأييده بخبر ابن عباس تذاكرنا فضل الأنبياء، فذكرنا نوحًا، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يحيى بن زكريا" مدفوع بأن المراد؛ أن في كل نبي نوع فضيلة تخصه، فلا وجه لتخصيص بعضهم بالامتياز من تلك الجهة، فالمنفي في قوله: "لا ينبغي" إلخ، الخيرية من جميع الوجوه.
"وقد بنيت هذه الآية، وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، بتخصيص كل منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد بالإسراء، وسليمان بالملك، "أن مراتب الأنبياء والرسل" وفي نسخة: الرسل والأنبياء، أي: الذين ليسوا برسل أو هو عطف عام على خاص، "متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين؛ بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ، و {لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، "رد عليهم" على سبيل الصراحة، وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة" وليس بشيء؛ لأنها بمجردها لا تقتضي فضله عليهم مطلقًا، وكم من فرع فضل أصله لخصوصيات شرف بها على الأصل، بل كثيرًا ما تشرف الأصول بفرعها:
وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان
"وتوقف بعضهم" لتعارض الأدلة عليه، "فقال: السكوت أفضل" لعدم القاطع عند ذا البعض، "والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلئف، أن الرسل أفضل من الأنبياء"؛ لأن الرسالة تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي، كالعلم والعبادة، خلافًا لمن قال: النبي أفضل؛ لأن النبوة الوحي بمعرفته تعالى وصفاته، فهي متعلقة به من طرفيها، والرسالة: الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة به من أحد الطرفين، وأجيب بأنها تستلزم النبوة، فهي مشتملة عليها؛ لأنها كالرسول، وأخص من النبوة التي هي أعم، كالنبي.
قال بعض أهل العلم -فيما حكاه القاضي عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظزهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون في ذاته أفضل وأظهر، وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه، وتحف ولايته واختصاصه، انتهى.
فلا مرية أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع
__________
"وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما، قال بعض أهل العلم" بالكتاب والسنة، "فيما حكاه القاضي عياض" في الشفاء: "والتفضيل المراد لهم هنا" عطف على مقدار وعلى ما تقدم، وهنا إشارة لما ذكر قبله "في الدنيا" متعلق بالتفضيل، "وذلك بثلاثة أحوال" وفي نسخة أوجه، "أن تكون آياته ومعجزاته أظهر" وفي نسخة أبهر، أي: أقوى، وأغلب من بهر ضوء القمر الكواكب عليها، أو هو بمعنى أظهر "وأشهر" كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا حية، "أو تكون" بالنصب "أمته أزكى" أتقى وأطهر لبعدهم عن التلبس بما لا يليق، "وأكثر" من غيرهم، "أو يكون في ذاته أفضل" بزيادة علمه وخصاله المحمودة، "وأظهر" بمعجمة، أي: أشهر، وبمهملة أتقى وأنقى، "وفضله في ذاته" ونفسه "راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته" أي: إكرام الله له بما آثر، ومناقب عظيمة وهبها له، "واختصاصه" بالجر معطوف على مدخول إلى "من كلام" بلا واسطة لموسى والمصطفى، وهو بيان لاختصاصه بمعنى ما خصه به، "أو خلة" لإبراهيم والمصطفى، "أو رؤية" عيانًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، "أو ما شاء الله" أراده لهم غير ما ذكر "من ألطافه" بفتح الهمزة، أي: عطاياه، "وتحف" بفاء، آخره "ولايته" أي: تحف أولاها لهم، هكذا في الشفاء، بالفاء فقط، وفسرها شارحها بما ذكر.
وقال شيخنا: كان المراد بها ما ميز به تعالى ولايته عن ولاية غيره من الخواص والمزايا التي لم تثبت لغيره.
وفي بعض نسخ المصنف: وتحقق ولايته بقافين، أي: ثبوتها بلا ريبة ولا تردد، لكثرة الأدلة المثبتة لها، "واختصاصه" بما اختصهم به من قرة أعين لا يعلمها إلا هو. "انتهى".
"فلا مرية" "بالكسر"، لا شك "أن آيات نبينا ومعجزاته أظهر وأبهر" بموحدة، أغلب، "وأكثر وأبقى" بالموحدة، "وأقوى" أشد، "ومنصبه" حسبه وشرفه "أعلى، ودولته أعظم وأوفر، وذاته أفضل وأظهر" بالمهملة، "وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر".
الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين، وتأمل حديث الشفاعة في المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة"، رواه ابن ماجه، وفي حديث أنس عند الترمذي: "أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر".
لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف.
__________
فقد جمعت فيه الأحوال الثلاثة وزيادة، "فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين" إنسًا وملكًا، "وتأمل حديث الشفاعة" إضافة لأدنى ملابسة لذكرها فيه "في المحشر" "بفتح الشين وكسرها"، "وانتهائها إليه" بعد تنصل رؤساء الأنبياء منها " "وانفراده هناك بالسؤدد" أي: السيادة، "كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد" يكون جمعًا، وواحدًا، والمراد الأول "آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة" أي: أول من يعجل أحياؤه، مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني.
"وفي حديث أنس عند الترمذي" مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا، إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي" "وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي" إخبار بما منحه من السودد والإكرام، وتحدث بمزيد الفضل والإنعام "ولا فخر" حال مؤكدة، أي أقول ذلك غير مفتخر به فخر تكبر، أتى به دفعًا لتوهم إرادة الافتخار به.
قال القرطبي: إنما قال ذلك؛ لأنه مما أمر بتبليغه لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، وليرغب في الدخول في دينه، ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظيم محبته في قلوب متبعيه، فتكثر أعمالهم وتطيب أحوالهم، ويحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع.
"لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف" تبع التفتازاني في شرح العقائد، وقد تعقب بأن المراد سيد جنس الآدميين، فلا يخرج آدم؛ لأن المراد من ولد آدم كافة البشر، بدليل قوله في حديث أبي هريرة: "أنا سيد الناس"، وقوله في حديث أبي سعيد: آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي، وقد لوح المصنف بعد قليل بمعنى هذا التعقب بقوله، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم، وبأن دخول آدم أولوي؛ لأن في ولده من هو أفضل منه، وبأن ذلك من الأسلوب العربي على
واستدل الشيخ سعد الدين التفتازاني لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه.
واستدل له الفخر الرازي -في المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا فيكون تاركًا للأمر، وإذا
__________
حد {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، لدخول داود لزومًا، أو قصدًا، وعبر عنه بذلك لإرادة التنصيص على دخول آله معه.
"واستدل الشيخ سعد الدين" مسعود بن عمر بن عبد الله "التفتازاني" الشافعي، قال الحافظ في الدرر الكامنة: ولد سنة ست عشرة وسبعمائة، وأخذ عن القطب والعضد، وتقدم في الفنون، واشتهر ذكره وطار صيته، وله تصانيف انتفع بها الناس، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، "لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام" عى جميع الأنبياء، "بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه" وهذا إنما ذكره التفتازاني سندًا للإجماع على فضل المصطفى، وتعقب، بأنه لا يصح سندًا له؛ لأن خيريتهم في الدنيا بزيادة نفعهم، للغير لحديث: "خير الناس أنفعهم للناس"، وهذا هو الظاهر لحديث البخاري، عن أبي هريرة، قال في الناس: "ناس يأتون بهم والسلاسل في أعناقهم حتى يدخلون الإسلام"، وخيريتهم في الآخرة، بكثرة ثوابه لحديث البخاري: "لكم الأجر مرتين"، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء"، والسر في ذلك؛ أنهم صدقوا الأنبياء كلهم بخلاف جميع الأمم، فإنما صدق كل منهم نبيه ومن قبله، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله لهرقل: "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين".
قال الكرماني وغيره: مرة للإيمان بنبيهم، ومرة للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والخيرية بأحد هذين المعنيين للأمة لا تدل على أفضلية رسولهم. انتهى، وفيه تأمل.
"واستدل له الفخر الرازي في المعالم" أي: معالم التنزيل، اسم تفسيره، "بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة" في سورة الأنعام، "ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى} هم {اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ} طريقهم التوحيد والصبر، {اقْتَدِهِ} "بهاء السكت" وقفًا ووصلًا وفي قراءة بحذفها وصلًا، "فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا
أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى.
وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلا
__________
فيكون تاركًا للأمر" وهو محال، "وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة، فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم"؛ لأن الواحد إذا فعل مثل فعل الجماعة كان أفضل منهم، قيل عليه: لا شك أنه أفضل من كل واحد منهم، ومن الجميع أيضًا، لكن في هذا الدليل خفاء؛ لأنه لا يلزم من إتيانه بكل ما أتى به كل واحد منهم إلا مساواته للمجموع، لا أفضليته عليهم، وكأنه الداعي للعز بن عبد السلام على قوله: "إنه أفضل من كل واحد منهم، لا من جميعهم، فتمالأ جماعة من علماء عصره على تكفيره، فعصمه الله، بل قد يتوقف في المساواة أيضًا؛ لأنك لو أنعمت على أربعة فأعطيت واحدًا دينارًا، وآخر دينارين، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، لزاد صاحب الأربعة على كل واحد دون جميع ما لغيره، ولو أعطيته ستة لساواهم، ولو أعطيته عشرة زاد عليهم، فينبغي أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ساواهم في العمل، وزاد عليهم، بأنه أعلم منهم بالله، وأكثر من جميعهم خصائص ومعجزات، وهذا التفضيل في القرب والمنزلة، وهو أكثر ثوابًا، وأمته أكثر من جميع الأمم، وأجرهم له إلى يوم القيامة، ولو كانت للناس مساكن بعضها فوق بعض، لكان الذي فوق الأخير أعلى من الجميع، وفي آية تلك الرسل إيماء لهذا، حيث أبهم وعبر برفع الدرجات دون أن يسميه، ويقول: إنه أعظم وأفضل. انتهى.
"وبأن دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة، وصلت إلى أكثر بلاد العالم، بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى" استدلال الرازي.
"وقد روى الترمذي" وقال: حسن صحيح، وأحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم "عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم مجموع له الناس، فيظهر سودده لكل أحد عيانًا ووصف نفسه بالسودد، المطلئق المفيد، للعموم في المقام الخطابي، فيفيد سيادته على جميع أولاد آدم حتى أولي العزم واحتياجهم إليه، وتخصيص ولد
تحت لوائي.
وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا -عند البخاري-: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم.
وروى البيهقي في فضائل الصحابة، أنه ظهر علي بن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب" فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟ قال: "أنا سيد العالمين وهو سيد العرب"، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
__________
آدم ليس للاحتراز، فهو أفضل حتى من خواص الملائكة بإجماع من يعتد به، "ولا فخر" بل إنما قلته شكرًا، كقول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس في الدنيا، وإن كان فيه فخرًا الدارين، أولًا افتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الرتبة، "وبيدي لواء" بالكسر والمد، علم "الحمد" والعلم في العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء، يعرف به قدره وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلائق أعطى أعظم الألوية، لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي ولا وجه لحمله على لواء المال والكمال، "ولا فخر" لي بذلك فخر تكبرًا، ولا فخر بالعطاء، بل بالمعطي، "وما من نبي" يومئذ "آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي".
قال الطيبي: آدم فمن سواه اعتراض بين النفي والاستثناء، وآدم بالرفع يدل، أو بيان من محله، ومن موصولة، وسواه صلته، وصح؛ لأنه ظرف، وآثر الفاء التفصيلية في، فمن للتريب على منوال الأمثل فالأمثل، وبقية هذا الحديث: "وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أو شافع ولا فخر".
"وفي حديث أبي هريرة، مرفوعًا عند البخاري" ومسلم والترمذي وأحمد": "أنا سيد الناس يوم القيامة" وهل تدرون مم ذلك؟، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فذكر حديث الشفاعة بطوله، "وهذا" المذكور من حديثي أبي سعيد وأبي هريرة، "يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده، بل أفضل من الأنبياء" إضراب انتقالي لدفع توهم، أن المراد بأولاده من عد الأنبياء، "بل أفضل الخلق كلهم"؛ لأنه من ناس، إذا تحرك، فشمل الملائكة حتى أمين الوحي بإجماع حتى من المعتزلة، وجهل الزمخشري مذهبه، كما حققه جماعة من المحققين.
"وروى البيهقي في فضائل الصحابة؛ أنه ظهر على ابن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟، قال: "أنا سيد
وقد روى هذا الحديث -أيضًا- الحاكم في صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب"، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.
وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين بن علوان -وهما ضعيفان- عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت: فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال": وذكره.
وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهي -وهو ضعيف أيضًا- عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب" فقالت عائشة: ألست سيد العرب"؟ وذكره.
__________
العالمين، وهو سيد العرب، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء" والملائكة؛ لأن العالم ما سوى الله.
"وقد روى هذا الحديث أيضًا الحاكم في صحيحه" المستدرك من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، "عن ابن عباس" مرفوعًا، "لكن بلفظ: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب".
"وقال" الحاكم: "إنه صحيح ولم يخرجاه" أي: البخاري ومسلم، مع أن إسناده على شرطهما، "وله شاهد من حديث عروة" بن الزبير، "عن" خالته "عائشة، وساقه" أي: رواه الحاكم، "من طريق أحمند بن عبيد بن ناصح" أبي جعفر النحوي، يعرف بأبي عصيدة، قيل: إن أبا داود حكى عنه، مات بعد السبعين ومائتين.
"قال: حدثنا الحسين بن علوان، وهما ضعيفان" لكن اقتصر في التقريب على أن أحمد بن عبيد، لين الحديث، "عن هشام بن عروة، عن أبيه، عائشة" مرفوعًا "بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت" عائشة: "فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟، فقال: وذكره، وكذا أورده" الحاكم "من حديث عمر بن موسى الوجيهي" بفتح الواو وكسر الجيم، نسبة إلى وجيه، "وهو ضعيف أيضًا عن أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي، "عن جابر، مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟، وذكره" ورواه أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي، رفعه: "ادع سيد العرب"، يعني عليًا، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب؟، فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب".
قال شيخنا: وكلها ضعيفة، بل جنح الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع. انتهى.
ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه، وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه، وكذلك العبد إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور، فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير عجب ولا فخر، بل هو فرح بفضل الله
__________
"قال شيخنا" السخاوي: "وكله ضعيفة، بل جنح": مال "الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع" انتهى، ولم يتبين لي ذلك، إذ ليس فيها وضاع ولا كذاب ولا متهم، والحاكم إنما أورد حديث عائشة من الطريقين، وإن كان فيهما ضعف، شاهد الحديث ابن عباس الذي صححه؛ لأن زواته من رجال الصحيح.
"ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه والفخر ادعاء العظم والمباهاة، "حاشاه من ذلك" إذ هو سيد المتواضعين، "وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه" لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11] ، "وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه"، وليعتقدوا فضله على من سواه.
قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه، لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد، فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه صلى الله عليه سولم مشافهة حصل له العلم به، كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التوتر المعنوي، لكثرة أخبار الآحاد به.
"وكذلك العبد" أي: عبد من عباد الله الكاملين، "إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور" وفي نسخة: السرور والنور أولى، "فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل: الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل" مطر شديد "فطل" مطر خفيف، والمعنى أنه يزكو وينمو، كثر المطر، أو قل، "وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير
وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها:
من أنت مولاه حاشًا ... علاه أن يتلاشى
والله يا ر وح قلبي ... لا مات من بك عاشا
قوم لهم أنت ساق ... لا يرجعون عطاشا
لا قص دهر جناحًا ... له وفاؤك راشا
بك النعيم مقيم ... لمن وهبت انتعاشا
ومن بحولك يقوى ... لن يضعف الدهر جاشا
عبد له بك عز ... فكيف لا يتحاشى
حاشا وفاؤك يرمي ... من أنت مولاه حاشا
__________
عجب ولا فخر، بل هو فحر بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة، {فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار" كائن "على ظاهره" بحسب اللفظ "والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف": هو من أشهده الحق نفسه، وظهرت عليه الأحوال والمعرفة حاله، هكذا ذكره الشيخ، فالعالم عنده أعلى مقامًا من العارف خلافًا للأكثرين، وقد قرر ذلك في الفتوحات ومواقع النجوم "الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها: من أنت مولاه" ناصره ومعينه "حاشا، علاه" رفعته "أن يتلاشى" يخس بعد رفعته، "والله يا روح" حياة "قلبي، لا مات من بك عاشا" بل يحيا حياة طيبة، "قوم لهم أنت ساق، لا يرجعون عطاشًا" بل غاية من الري "لا قص" بمهملة ثقيلة "دهر جناحًا، له وفاتك راشا" أصلح حاله ونفعه، "بك النعيم مقيم، لمن وهبت انتعاشًا" أي: رفعة وجبرًا وذكرًا حسنًا.
قال المجد: نعشه الله، كمنعه ورفعه، كأنعشه ونعشه، وفلانًا جبره بعد فقره، والميت ذكره ذكرًا حسنًا، "ومن بحولك" قوتك "يقوي، لن يضعف الدهر" بالنصب "جاشا" أي نفسًا.
قال المجد: الجأش نفس الإنسان، وقد لا يهمز "عبد له بك عز" قوة ومنعة، "فكيف لا يتحاشى" يكرم ويعظم "حاشا وفاؤك يرمي، من أنت مولاه حاشا" أي: تنزيها له أن يفعل
فإن قلت: ما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .
__________
ذلك "فإن قلت: ما الجمع بين" كل من "هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [البقرة: 253] الآية، {لقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] الآية، فإن كلًا منهما صريح في التفضيل وعدم التفريق في قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] الآية، دال على التسوية، كجملة أحاديث، كما قال: "وبين قوله تعالى" خطايا للمؤمنين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم} من الصحف العشر، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أولاد يعقوب، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} من التوراة، {وَعِيسَى} من الإنجيل، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} من الكتب والآيات، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كاليهود والنصارى، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] وأورد أن بين إنما تقع على اثنين، كجلست بين زيد وعمرو، وأحد في الآية مفرد؛ لأنه بمعنى واحد لا بعينه، فكيف صح دخول بين عليه، وأجيب بأ، هـ باعتبار معطوف حذف لظهوره، أي: بين أحد منهم وبين غيره، وفيه دلالة صريحة على تحقيق عدم التفريق بين كل فرد منهم وبين من عداهم، كائنًا من كان، بخلاف ما لو قيل: لا نفرق بينهم، وأجاب الكشاف؛ بأن أحد في معنى الجماعة بحسب الوضع.
قال التفتازاني: لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل، أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد اللذي هو أول العدد في مثل: {قُلْ هُوَ اللَّه} [الإخلاص: 1] ، قال: وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي على ما سبق إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم، لا نفرق بين رسول من الرسل، إلا بتقدير عطف، أي: رسول ورسول، وقال في: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، من زعم أن معنى الجمع في أحد أنه نكرة في سياق النفي، فقد سها، وإنما معناه ما ذكر في كتب اللغة؛ أنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، فحين أضيف بين إليه، أو أعيد ضمير جميع إليه، أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل عليه الكلام، فمعنى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ} ، بين جمع من الرسل، ومعنى، "فما منكم من جماعة"، ومعنى: {لَسْتُنَّ كَأَحَد} [الأحزاب: 32] الآية، كجماعة من جماعات النساء، انتهى.
والحديث الثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودي وقال: أي خبيث، وعلى محمد؟
__________
"والحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: استب" أي: سب "رجل من المسلمين" قال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق، أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه، وابن أبي الدنيا في كتاب البعث، ويعكر عليه أن في رواية للشيخين من حديث أبي هريرة أيضًا، وأبي سعيد؛ أنه من الأنصار، إلا أن كان المراد، المعنى الأعم، فإن الصديق من أنصاره صلى الله عليه وسلم، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم، قاله الحافظ في الفتح، زاد في المقدمة: أو يحمل، على تعدد القصة، لكن لم يسم من اليهود غير واحد.
"ورجل من اليهود" أي: سب كل منهما الآخر بمعنى غيره، قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا اليهودي، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص، وهو "بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين" وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر في لطمه إياه قصة أخرى في نزوله قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] ، "فقال اليهودي في قسمه" أي: حلفه.
وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين, وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم وجه اليهودي.
وفي رواية لهما أيضًا: بينما يهودي يعرض سلعته أعطى فيها شيئًا كرهه، فقال: "لا، والذي اصطفى موسى على العالمين" وفي رواية لهما على البش، فقال ذلك ردًا على المسلم فيما قاله، وأكده بالقسم، "فرفع المسلم يده" عند ذلك، أي: سماعه قوله، لما فهمه من عموم لفظ العالمين، أو البشر، فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أنه أفضل، وقد جاء ذلك مبينًا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال له: أي خبيث أعلى محمد، نفدل على أن لطمه عقوبة له على كذبه عنده، قاله الحافظ. "فلطم اليهودي" وفي رواية لهما: فلطم وجه اليهودي وقال: أتقول هذا ورسول الله بين أظهرنا. وفي رواية للإمام أحمد: فلطم عين اليهودي، وقوله: "وقال: أي خبيث" "بفتح الهمزة وسكون الياء" حرف نداء، "وعلى محمد" هذه الجملة أدخلها المصنف في حديث أبي هريرة، وليست منه، فقد أخرجه مسلم في الفضائل، والبخاري في الخصومات، والرقاق، والتوحيد وأحاديث الأنبياء مختصرًا ومطولًا، وليس فيه هذه الجملة، إنما هي عنده في مواضع عن أبي سعيد، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي
فجاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى على المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء".
وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء".
وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم مرفوعًا ما ينبغي لعبد أن يقول: "أنا خير من يونس بن متى".
وحديث أبي هريرة عند الشيخين، من قال: "أنا خير من يونس بن متى فقد
__________
فقال: ضرب وجهي رجل من الأنصار، فقال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث أعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال: "لا تخيروا بين الأنبياء" الحديث، وأخرجه مسلم بنحوه.
وقد صرح الحافظ، كما رأيت؛ بأن هذه الجملة من حديث أبي سعيد، "فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى" ضمنه معنى اعترض، فعده بقوله: "على المسلم" وهذا نقل بالمعنى، وإلا فلم تقع هذه اللفظة في الصحيحين، لا في حديث أبي هريرة، ولا في حديث أبي سعيد.
ولفظ البخاري في الأشخاص في حديث أبي هريرة: فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بما كان من أمره وأمر المسلم، وكذلك في أولى روايته في أحاديث الأنبياء.
ولفظه في الثانية: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي؟، فقال: "لم لطمت وجهه"، فذكره، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، وكذا أخرجه مسلم في الفضائل باللفظين من طريق، "فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء".
"وفي رواية" لهما: "لا تفضلوا بين الأنبياء" وفي رواية: "لا تخبروني على موسى"، "وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري" في التفسير والتوحيد والخصومات، "ومسلم" في الفضائل: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء" بأن تقولوا" فلان خير من فلان"، "وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم" أيضًا في الفضائل، "مرفوعًا: "ما ينبغي" ما يصح، ولا يجوز "لعبد" من عباد الله، "أن يقول: أنا خير من يونس" يحتمل أن يكون رجوع أنا إلى القائل، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ في التفسير: والأول أولى، لكنه قال في أحاديث الأنبياء: حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني: "لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا".. إلخ، يؤيد رجوعها للنبي صلى الله عليه وسلم، وللطبراني في
كذب".
أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: في
__________
حديث ابن عباس: "ما ينبغي لأحد"، وللطحاوي، أنه سبح الله في الظلمات، فأشار إلى جهة الخيرية، انتهى.
"ابن متى" بفتح الميم، والفوقية الثقيلة، وألف مقصورة، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، ورده الحافظ بقوله في بقية هذا الحديث، ونسبه إلى أبيه، ففيه رد على من زعم أنه اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري، وتبعه ابن الأثير في الكامل، والذي في الصحيح أصح، وقيل: سبب قوله ونسبه إلى أبيه؛ أنه كان في الأصل يونس ابن فلان، فنسبه الراوي، وكنى عنه بفلان، وذلك سبب نسبته إلى أمه، فقال الذي نسي يونس بن متى، وهي أمه، ثم اعتذر، فقال: ونسبه، أي: شيخه إلى أبيه، أي: سماعًا، فنسيته، ولا يخفى بعد هذا التأويل، وتكلفه. انتهى، بل يرده ما في الثعلبي عن عطاء: سألت كعب الأحبار عن متى، فقال: هو أبو يونس، واسم أمه برورة، أي: صديقة بارة قانتة، وهي من ولد هارون. انتهى.
فقول السيوطي: التأويل عندي أقوى، وإن استبعده الحافظ، فيه نظر.
قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس.
"وحديث أبي هريرة عند الشيخين: " من قال أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب" هذا لفظ البخاري في التفسير مختصرًا بلا واو أوله، فزيادتها في نسخ خطأ، ولم يخرجه مسلم بهذا اللفظ.
وقد أحسن السيوطي: فعزاه في الزوائد للبخاري، والترمذي وابن ماجه.
نعم أخرجه مسلم والبخاري في آخر الحديث السابق، بلفظ: "ولا أقول: إن أحد أفضل من يونس بن متى"، ورواه البخاري أيضًا مختصرًا، بلفظ: "لا ينبغي للعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يعني الله: لا ينبغي لعبد لي، وقال ابن المثى: لعبدي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، ومسلم رواه عن شيوخه ابن أبي شيبة، وابن بشار ومحمد بن المثنى، فلذا بين اختلاف لفظهم، فالأولان بلام، والثالث بدونها، والإضافة لياء المتكلم.
"أجاب العلماء؛ بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، يعني في الإيمان، بما
الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم في هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض.
وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة.
فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة، ونكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا، قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقيم.
__________
أنزل إليهم، والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه" عطف عام على خاص، على أن الرسول أخص من النبي، ومرادف على تساويهما، وإن كلا منهما إنسان أوحى إليه بشرع، وأمر بتبليغه، أو المعنى التصديق بأن منهم رسلًا وأنبياء ليسوا برسل، "والتسوية بينهم في هذا" المذكور من الإيمان بما أنزل إلخ، "لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض" كما هو نص الآيتين بسبب خواص ترجع من قامت به على غيره بالنظر، لتلك الخصوصية.
"وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة" سبعة أو ثمانية، "فقال بعضهم: أن" مخففة من الثقيلة، "نعتقد" بالرفع، أي: إنا نعتقد "أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة" وجاز حذف اللام مما دخلت عليه لظهور المراد، كقوله: إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة، ولكن عدم الفصل بينها وبين الفعل الغير الناسخ نادر، والمضارع أندر من الماضي، كما في: أن يزينك لنفسك وأن يشينك لهيه، ويحتمل قراءته بفتح الهمزة، "ونكف" نمتنع "عن الخوض في تفصيل" تبيين "التفصيل بآرائنا"؛ لأنه هجوم على عظيم.
"قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا" المجردة عن فهم كتاب، أو سنة، "فصحيح"، وبهذا الإيراد إن هذا عين ما قاله ذلك البعض، فكيف يجعله احتمالًا فيه.
"وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله، وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو رأى أيضًا، لكن في فهم الدليل من غير أن تكون دلالته عليه قطعية، "فسقيم" أي: ضعيف؛ لأن الأخبا,