قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى، فى أشراف من قومه، منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن يزيد، ونعيم ابن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم فى وفد عظيم من بنى تميم.
فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، وإياهم عنى الله سبحانه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، جئناك نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا؛ قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب، فقال:
الحمد لله الذى له علينا الفضل، وهو أهله، الذى جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برؤس الناس، وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك.
أقول هذا لأن تأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخى بنى الحارث بن الخزرج: «قم، فأجب الرجل فى خطبته» . فقام ثابت، فقال:
الحمد لله الذى السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه،
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 186) .
ولم يك شىء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وأتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوى رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم «1» .
فقام الزبرقان بن بدر، فقال «2» :
نحن الكرام فلا حى يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع «3»
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هوانا ثم [متبع] *
فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا [شيع] *
فلا ترانا إلى حى نفاخرهم ... إلا استفادوا وكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنا أبينا وما يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استدعى حسان بن ثابت ليجيب شاعر بنى تميم، قال حسان: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ... على أنف راض من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم
ببيت حريد عزة وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 116، 117) ، الطبرى فى التاريخ (2/ 188: 190) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (6/ 212، 213) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 188- 189) .
(3) البيع: مواضع الصلاة والعبادات، واحدتها بيعة.
(*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «نصطنع» .
(*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «شبعوا» .
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
فلما فرغ الزبرقان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا حسان، فأجب الرجل» ، فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم
سجية تلك منهم غير محدثة ... نفعوا
إن كان فى الناس سباقون بعدهم ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقتهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
أعفة ذكرت فى الوحى عفتهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
لا يبخلون على جار بفضلهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
إذا نصبنا لحى لم ندب لهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
كأنهم فى الوغى والموت مكتنع ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... أسد بحلبة فى أرساغها فدع
فإن فى حربهم فاترك عداوتهم ... ولا يكن همك الأمر الذى منعوا
اكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... شرا يخاض عليه السم والسلع
أهدى لهم مدحتى قلب يوازره ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... فى ما أحب لسان حائك صنع
إن جد بالناس جد القول أو شمع
وذكر ابن هشام «1» عن بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم، أن الزبرقان بن بدر لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى تميم، قام فقال:
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم
بأنا فروع الناس فى كل موطن ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم
وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم
وأن لنا المرباع فى كل غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 191) .
فقام حسان بن ثابت فأجابه، فقال:
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
نصرنا وآوينا النبى محمدا ... على أنف راض من معد وراغم
بحى حريد أصله وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
نصرناه لما حل وسط ديارنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم
جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفىء المغانم
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرهقات الصوارم
ونحن ولدنا من قريش عظميها ... ولدنا نبى الخير من آل هاشم
بنى دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم ان تقسموا فى المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم
قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى، إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.
وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم فى ظهرهم، وكان أصغرهم سنا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم.
وقيس بن عاصم هو الذى ذكره له ذكرا أزرى به فيه، فكان بينهما ما هو معلوم.