بعد تلكم الأحداث المؤلمة والصعبة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، من وفاة عمه ثم زوجته خديجة-رضي الله عنها-، وما حدث له صلى الله عليه وسلم في الطائف، ثم ما أعقب ذلك من أذى قريش الذي لم ينفك عنه منذ جهر بالدعوة إلى الله في مكة، وكأن الله -عز وجل- أراد أن يكافأ رسوله صلى الله عليه وسلم ويسرِّي عنه بآيات من آياته الكبرى، ألا وهي رحلة الإسراء والمعراج، لثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب عنه ما ألمَّ به من حزن وأسى بعد أن لاقى من إعراض قومه عن دعوته صلى الله عليه وسلم وأذاهم ما لاقاه.
واختلف في تعيين زمن الإسراء والمعراج على أقوال شتى:
1- فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة،[اختاره الطبري].
2- وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، [رجح ذلك النووي والقرطبي].
3- وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة،[اختاره العلامة المنصورفوري].
4- وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة.
5- وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.
6- وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في .ربيع الأول سنة 13 من النبوة.
وردت الأقوال الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة الإسراء .
أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدًا. [الرحيق المختوم، بتصرف]
وقد فصَّل لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أحداث تلك الرحلة المباركة تفصيلا دقيقا كأنها أمامنا رأي العين، وليس من وصف أدق لأحداث تلك الليلة من وصفه هو صلى الله عليه وسلم فيما ترويه الروايات الصحيحة عنه حيث يقول: «فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي [ أي: فُتِح فيه فتحة]وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ [أي: غطى صدري ولأم شقه]فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ» (رواه البخاري).
ويقول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «ثُمَّ أُتِيتُ بِدابَّةٍ أَبْيَضَ يُقالُ لَهُ: الْبُراقُ فَوْقَ الْحِمارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَي طَرْفِهِ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبطُ بِهِ الْأَنْبِياءُ، قالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ. (فَصَلَّيْتُ بالنبيين والمرسلين إمامًا [انظر: الإسراء والمعراج للألباني])، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجاءَنِي جِبْرِيلُ -عليه السلام- بِإناءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِناءٍ مِنْ لَبَنٍ، فاخْترتُ اللَّبَنَ، فَقالَ جِبْرِيلُ-عليه السلام-: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ» (رواه مسلم).
إلى هنا انتهت رحلة الإسراء من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف بأرض فلسطين، والإسراء والمعراج حادثتان متلازمتان ومترادفتان وهما ثابتتان بنص القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، فأما الإسراء فهو ثابت في مفتتح سورة الإسراء، قال تعالى: (سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١) [الإسراء: 1] ،وأما المعراج- وهو الانتقال بالرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى السماوات، لتصل به إلى سدرة المنتهى وليطلّع بحواسه ودون شك على آيات الله الكبرى-فقد ذكر القرآن الكريم قصته وثمرته، قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)) [النجم:13-18] فتعليل الإسراء- كما نصّت الاية- أنّ الله يريد أن يري عبده بعض آياته. ثم أوضحت آيات المعراج أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام شهد- بالفعل- بعض هذه الآيات الكبرى[فقه السيرة للغزالي،بتصرف] .كما بينت السنة النبوية المعراج؛ حيث بدأت رحلة المعراج إلى السماوات العلا، يقول صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَلَمّا جِئْتُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، قالَ جِبْرِيلُ لِخازِنِ السَّماءِ: افْتَح، قالَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جِبرِيلُ، قالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قالَ: نعَمْ، فَلَمّا فَتَحَ علَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا فَإِذا رَجُلٌ قاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ [جمع سواد، وهو الشخص].وَعَلَي يَسارِهِ أَسْودِةٌ، إِذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذا نَظَرَ قِبَلَ يَسارِهِ بَكَى، فَقالَ: مَرحَبًا بِالنَّبِي الصّالِحِ، والابْنِ الصّالِحِ، قُلْتُ لِجِبرِيلَ: مَنْ هَذا؟ قال: هذا آدم وَهَذهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينهِ وَشِمالِهِ نَسَمُ [جمع نسمة، وهي النفس أو الروح]. بنيهِ فأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، والْأَسْوِدةُ الَّتِي عَنْ شِمالِهِ أَهْلُ النّارِ فَإذا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذا نَظَرَ قِبَلَ شِمالِهِ بَكَي، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الثّانِيَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصتُ إِذا يَحيىَ وَعِيسَى وَهُما ابْنا الْخالَةِ قالَ: هَذا يَحيىَ وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِما فَسَلَّمْتُ فَردا ثُمَّ قالا: مرحبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ، والنَّبِي الصّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ فاستَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمّا خَلَصتُ إِذا يُوسُفُ، قالَ: هَذا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الرّابِعَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جِبرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعَم، قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَفُتِحَ فَلَمّا خَلَصتُ إِلي إِدرِيسَ قالَ: هَذا إدرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الْخامِسَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَلَمّا خَلَصتُ فإذا هارُونُ قالَ: هَذا هارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ، والنَّبِي الصّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ السّادِسَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرْسِلَ إِلَيهِ؟ قالَ: نَعم، قالَ: مَرحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ، فَلَمّا خَلَصتُ فَإذا مُوسَى قالَ: هَذا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قالَ: مَرحَبًا بِالْأَخِ، الصّالِحِ والنَّبِيِ الصّالِحِ، فَلَمّا تَجاوَزْتُ بَكَي قِيلَ لَهُ: ما يبْكِيكَ؟ قالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي، يدخلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أكثَرُ مِمَّنْ يَدخُلُها مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّماءِ السّابِعَةِ فاسْتَفْتَحَ جِبرِيلُ قِيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جبريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: مَرحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاءَ فَلَمّا خَلَصتُ فَإذا إِبْراهِيمُ قالَ: هَذا أَبُوكَ فَسَلِّم عَلَيْهِ قالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ قالَ: مَرحَبًا بِالِابْنِ الصّالِحِ والنَّبِي الصّالِحِ ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَ سِدرَةُ الْمُنْتَهَى[شجرة ينتهي إليها علم الملائكة ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم]. فَإذا نَبْقُها [حملها وثمرها]. مِثْلُ قِلَالِ[القلال بالكسر جمع قلة بالضم، وهي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل: القلال وكانت معروفة عند المخاطبين فلذلك وقع التمثيل بها]. هَجَرَ[بلدة] وَإِذا وَرَقُها مِثْلُ آذانِ الْفِيَلَةِ قالَ: هَذهِ سِدرَةُ الْمُنْتَهَى وإِذا أَرْبَعَةُ أَنْهارٍ نَهْرانِ باطِنانِ وَنَهْرانِ ظاهِرانِ فَقُلْتُ: ما هَذانِ يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: أَمّا الْباطِنانِ فَنَهْرانِ في الْجَنة، وَأَمّا الظّاهِرانِ فالنِّيلُ والْفُراتُ ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثمَّ أُتِيتُ بِإناءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِناءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِناءٍ مِنْ عَسَلٍ، فأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْها وَأُمَّتُكَ ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَواتُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقالَ: بِما أُمِرْتَ؟ قالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُل يَوْمٍ، قالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي واللهِ قَدْ جَرَّبْتُ النّاسَ قَبْلَكَ وَعالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ الْمُعالَجَةِ، فارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقالَ: مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقالَ: مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقالَ: مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فأُمِرتُ بِعَشْرِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقالَ: مِثْلَه فَرَجَعْتُ فأُمِرتُ بِخَمْسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقالَ: بِمَ أُمرْتَ؟ قُلْتُ أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ قالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النّاسَ قَبْلَكَ وَعالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ الْمُعالَجَةِ فارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْألْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قالَ سأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قالَ فَلَمّا جاوَزْتُ نادَى مُنادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبادِي» (رواه البخاري).
وبنهاية تلك الرحلة المباركة فرضت الصلوات الخمس على المسلمين. فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، هاب أن يُحدِّث قومه بما كان من أمر الإسراء والمعراج وعرف أنهم مكذِّبوه، فجلس -صلوات ربي وسلامه عليه- مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ عَدُوُّ الله أبو جَهْلٍ، فَجاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقالَ لَهُ كالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كانَ مِنْ شَيءٍ؟! فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعَمْ»، قالَ: ما هُوَ؟ قالَ: «إِنهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ»، قالَ: «إلى أَيْنَ؟» قالَ: «إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» قالَ: «ثُمَّ أَصبَحتَ بَيْنَ ظَهْرانَيْنا؟!» قالَ: «نَعَمْ». قالَ: «فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذا دَعا قَوْمَهُ إِلَيْه»، قالَ: «أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُم ما حَدَّثْتَنِي؟!» فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَم» فَقالَ: «هَيّا مَعْشَرَ بني كَعْبِ بن لُؤَيٍّ! حتى» قالَ: «فانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجالِسُ، وَجاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِما». قالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِما حَدَّثْتَنِي. فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي أُسْرِيَ بِي اللَّيلَةَ». قالُوا: «إلى أَيْنَ؟» قال: «إِلَي بَيْتِ الْمَقْدِسِ». قالُوا: «ثُمَّ أَصبَحتَ بَيْنَ ظَهْرانَيْنا؟» قالَ: «نَعَمْ». قالَ: «فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ واضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ متَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ؛ زَعَمَ!» قالُوا: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سافَرَ إلى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ». فَقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فَذَهبتُ أَنْعَتُ، فَما زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ»، قالَ: «فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنا أَنْظُرُ؛ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دارِ عِقالٍ - أَوْ عُقَيْلٍ- فَنَعَتُّهُ وَأَنا أَنْظُرُ إِلَيهِ». قالَ: «وَكانَ مَعَ هَذا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْه». قالَ: «فَقالَ الْقَوْمُ: أَمّا النَّعْتُ؛ فَواللهِ لَقَد أَصابَ» (رواه أحمد).
وقد وقع الإسراء والمعراج في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، ومن الأدلة على أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معا: قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فكلمة «عبد» تطلق ويراد بها الإنسان الكامل جسدا وروحا. بالإضافة إلى استعظام مشركي قريش للإسراء والمعراج، وتعجبهم للخبر وسرعة تكذيبهم له، إذ لو كانت المسألة مسألة رؤيا، لما تعجبوا أو استنكروا، ولما سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيت المقدس وصفاته وأبوابه وسواريه. -ومن الدلالات والعبر المستفادة من الإسراء والمعراج: أن جاءت ضيافة الإسراء والمعراج بعد المعاناة التي عاناها النبي صلى الله عليه وسلم تكريما من الله تعالى له، وتجديدا لعزيمته وثباته، فإذا كان أهل الأرض قد تخلوا عنك فإن السماء تفتح لك أبوابها. وتبدل ضعفه إلى قوة، وقلة الحيلة إلى حسن التدبير، والهوان على الناس إلى إكرام من الله تبارك وتعالى.[الرحيق المختوم، بتصرف]