في هذه الفترة كان الإسراء والمعراج. وكان محمد ليلة الإسراء في بيت ابنة عمه هند ابنة أبي طالب، وكنيتها أم هانئ. وقد كانت هند تقول: «إنّ رسول الله نام عندي تلك الليلة في بيتي فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أهبّنا رسول الله؛ فلما صلّى الصبح وصلينا معه قال: يا أمّ هانئ لقد صلّيت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين فقلت له: يا نبيّ الله لا تحدّث به الناس فيكذّبوك ويؤذوك. قال: والله لأحدّثّنهموه» .
,
يستند الذين يقولون بأنّ الإسراء والمعراج إنما كانا بروح محمد عليه السلام إلى حديث أم هانئ هذا، وإلى ما كانت تقوله عائشة: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه. وكان معاوية بن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى الرسول قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وهم يستشهدون إلى جانب ذلك كله بقوله تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) «1» .
وفي رأي آخرين أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس كان بالجسد، مستدلّين على ذلك بما ذكر محمد أنه شاهد في البادية أثناء مسراه مما سيأتي خبره، وأن المعراج إلى السماء كان بالروح. ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الإسراء والمعراج كانا جميعا بالجسد. وقد كثرت مناقشات المتكلمين في هذا الخلاف حتى كتبت فيه ألوف الصحف. ولنا في حكمة الإسراء رأي نبديه. ولسنا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق. لكنا قبل أن نبدي هذا الرأي، بل لكي نبديه، يجب أن نروي قصة الإسراء والمعراج على نحو ما جاءت به كتب السيرة.
,
سرد المستشرق در منجم هذه القصة مستخلصة من مختلف كتب السيرة في عبارة طلية رائعة، هذه ترجمتها: «في منتصف ليلة بلغ السكون فيها غاية جلاله، وصمتت فيه طيور الليل وسكتت الضواري، وانقطع خرير الغدران استيقظ محمد على صوت يصيح به: أيها النائم قم. وقام فإذا أمامه الملك جبريل وضّاء الجبين أبيض الوجه كبياض الثلج مرسلا شعره الأشقر، واقفا في ثيابه المزركشة بالدرّ والذهب، ومن حوله أجنحة من كل الألوان ترعش، وفي يده دابة عجيبة هي البراق، ولها أجنحة كأجنحة النّسر انحنت أمام الرسول، فاعتلاها وانطلقت به انطلاق السهم وصفير الرياح، فوق جبال مكة ورمال الصحراء متجهة صوب الشمال. وصحبه الملك في هذه الرحلة، ثم وقف به عند جبل سيناء حيث كلم الله موسى، ثم وقف به مرة أخرى في بيت لحم حيث ولد عيسى، وانطلق بعد ذلك في الهواء
__________
(1) سورة الإسراء آية 60.
في حين حاولت أصوات خفية أن تستوقف النبي الذي رأى في إخلاصه لرسالته أن ليس لغير الله أن يستوقف حيث شاء دابته. وبلغ بيت المقدس، فقيّد محمد دابته وصلى على أطلال هيكل سليمان ومعه إبراهيم وموسى وعيسى. ثم أتى بالمعراج فارتكز على صخرة يعقوب وعليه صعد محمد سراعا إلى السموات، وكانت السماء الأولى من فضة خالصة علقت إليها النجوم بسلاسل من ذهب، وقد قام على كل منها ملك يحرسها حتى لا تعرج الشياطين إلى علو عليها أو يستمع الجن منها إلى أسرار السماء. في هذه السماء ألقى محمد التحية على آدم، وفيها كانت صور الخلق جميعا تسبح بحمد ربها. ولقي محمد في السموات الست الآخرى نوحا وهارون وموسى وإبراهيم وداود وسليمان وإدريس ويحيى وعيسى. ورأى فيها ملك الموت عزرائيل، بلغ من ضخامته أن كان ما بين عينيه مسيرة سبعين ألف يوم، ومن سلطانه أن كانت تحت إمرته مائة ألف فرقة، وكان يسجل في كتاب ضخم أسماء من يولدون ومن يموتون. ورأى ملك الدمع يبكي من خطايا الناس، وملك النقمة ذا الوجه النحاسي المتصرف في عنصر النار والجالس على عرش من لهب. وقد رأى كذلك ملكا ضخما نصفه من نار ونصفه من ثلج وحوله من الملائكة فرقة لا تفتر عن ذكر الله قائلة: اللهم قد جمعت الثلج والنار! وجمعت كل عبادك في طاعة سنتك. وكان في السماء السابعة مقرّ أهل العدل ملك أكبر من الأرض كلها، له سبعون ألف رأس، في كل رأس سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يتكلم كل لسان سبعين ألف لغة، من كل لغة سبعين ألف لهجة، وكلها تسبح بحمد الله وتقدّس له.
«وبينما هو يتأمل هذا الخلق الغريب إذا به ارتفع إلى قمّة سدرة المنتهى، تقوم إلى يمين العرش وتظلّ ملايين الملايين من الأرواح الملائكية. وبعد أن تخطى في أقل من لمح البصر بحارا شاسعة ومناطق ضياء يعشى وظلمة قاتمة وملايين الحجب من ظلمات ونار وماء وهواء وفضاء، يفصل بين كل واحد منها وما بعده مسيرة خمسمائة عام، تخطّى حجب الجمال والكمال والسر والجلا والوحدة، قامت وراءها سبعون ألف فرقة من الملائكة سجّدا لا يتحركون ولا يؤذن لهم فينطقون. ثم أحسّ بنفسه يرتفع إلى حيث المولى جلّ شأنه، فأخذه الدّهش وإذا الأرض والسماء مجتمعتان لا يكاد يراهما، وكأنما ابتلعهما الفناء فلم ير منهما إلا حجم سمسمة في مزرعة واسعة. وكذلك يجب أن يكون الإنسان في حضرة ملك العالم.
«ثم كان في حضرة العرش وكان منه قاب قوسين أو أدنى، يشهد الله بعين بصيرته، ويرى أشياء يعجز اللسان عن التعبير عنها وتفوق كل ما يحيط به فهم الإنسان. ومدّ العليّ العظيم يدا على صدر محمد والآخرى على كتفه، فأحسّ النبيّ كأنه أثلّج إلى فقاره، ثم بسكينة راضية وفناء في الله مستطاب.
«وبعد حديث لم تحترم كتب الأثر المدققة قدسيته أمر الله عبده أن يصلي كل مسلم خمسين صلاة في كل يوم. فلما عاد محمد يهبط السماء لقي موسى؛ فقال ابن عمران له:
«كيف ترجو أن يقوم أتباعك بخمسين صلاة في كل يوم؟! لقد بلوت الناس قبلك، وحاولت مع بني إسرائيل كل ما يدخل في الطوق محاولته، فصدّقني وعد إلى ربنا واطلب إليه أن ينقص الصلوات.
«وعاد محمد فنقص عدد الصلوات إلى أربعين وجدها موسى فوق الطاقة، وجعل يردّ خليفته في النبوّة إلى الله مرّات عدّة حتى انتهت الصلوات إلى خمس.
«وذهب جبريل بالنبي فزار الجنّة التي أعدّت للمتقين بعد البعث. ثم عاد محمد على المعراج إلى الأرض، ففكّ البراق وامتطاه وعاد من بيت المقدس إلى مكة على الدابة المجنّحة» .
هذه رواية المستشرق در منجم عن قصة الإسراء والمعراج. وأنت تقع على ما قصّه منثورا في كثير من كتب
السيرة، وإن كنت تجد فيها جميعا خلافا بزيادة أو نقص في بعض نواحيها. من ذلك مثلا ما روى ابن هشام على لسان النبيّ عليه السلام بعد أن لقي آدم في السماء الأولى أنه قال: «ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل، وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار «1» ، يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة مال اليتامى ظلما، ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قطّ بسبيل آل فرعون يمرّون عليهم كالإبل المهيومة «2» حتى يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحوّلوا عن مكانهم ذلك. قلت:
من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الرّبا. ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جانبه غثّ منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيّب. قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله من النساء ويذهبون إلى ما حرّم الله عليهم منهن. ثم رأيت نساء معلّقات بثديّهن، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم ... ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء، فسألتها لمن أنت؟ - وقد أعجبتني حين رأيتها- فقالت: لزيد بن حارثة. فبشّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة» .
وأنت واجد في غير ابن هشام من كتب السيرة وفي كتب التفسير أمورا أخرى غير هذه. ومن حق المؤرخ أن يسائل عن مبلغ التدقيق والتمحيص في أمر ذلك كله، وما يمكن أن يسند منه إلى النبيّ بسند صحيح؛ وما يمكن أن يكون من خيال المتصوّفة وغيرهم. وإذا لم يكن المجال ها هنا متسعا للحكم في ذلك أو لاستقصائه، وإذا لم يكن هاهنا مجال القول في المعراج أو الإسراء أكانا بالجسم، أم كان المعراج بالروح والإسراء بالجسم، أم كان المعراج والإسراء جميعا بالروح، فمما لا شك فيه أن لكل رأي من هذه الآراء سندا عند المتكلمين، وأنه لا جناح على من يقول بواحد دون غيره من هذه الآراء. فمن شاء أن يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح فله من السند ما قدّمنا وما تكرر في القرآن وعلى لسان الرسول: (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)
«3» ، وأن كتاب الله هو وحده معجزة محمد، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) «4» .
ولصاحب هذا الرأي أكثر من غيره أن يسأل عن حكمة الإسراء والمعراج ما هي؟ وهنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه ولا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق.
,
ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الرّوحيّة معنى سام غاية السمو. معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخطب حظّ غير قليل. فهذا الروح القويّ قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها. لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيّا محدودا بحدود قوانا المحسّة والمدبّرة، والعاقلة. تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة.
__________
(1) الأفهار. جمع فهر (بكسر فسكون) وهو من الأحجار بما يملأ الكف.
(2) المهيومة التي بها هيام، وهو داء يأخذ الإبل في رؤسها مثل الجنون.
(3) سورة الكهف آية 110.
(4) سورة النساء آية 48.
وليس يستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتّبعوا محمدا من عجز عن متابعته في سمو فكرته وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال؛ فلا عجب في ذلك ولا عيب فيه. والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات. وبلوغنا الحقيقة معرّض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها. وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرّفوا الفيل ما هو، فقال أحدهم: إنه حبل طويل لأنه صادف ذنبه، وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة لأنه صادف رجله، وقال ثالث: إنه مدبب كالرمح لأنه صادف سنه، وقال رابع: إنه مستدير ملتو كثير الحركة لأنه صادف خرطومه- فإن هذا المثل، مقرونا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمد كنه وحدة الكون والوجود وتصويره في الإسراء والمعراج حيث يتصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان. إذ يطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديما. وبين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج؛ إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرات الجسم، بل كالذّرات العالقة به من غير أن يتأثر بها نظامه. أين الواحدة من هذه الذرات من حياة هذا الجسم من نبض قلبه وإشراق روحه وضياء ذهنه وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدّا، لأنها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟
والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سمّوا وجمالا وجلالا. فهو تصوير قويّ للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده. فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلم الله موسى تكليما، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الروحيّ ضمّت الصلاة فيه محمدا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قويّ لوحدة الحياة الدينية على أنها من قوام وحد الكون في موره الدائم إلى الكمال.
والعلم في عصرنا الحاضر يقرّ هذا الإسراء بالرّوح، ويقرّ المعراج بالروح؛ فحيث تتقابل القوى السليمة يشعّ ضياء الحقيقة؛ كما أن تقابل قوى الكون في صورة معيّنة قد طوّع «لماركوني» ؛ إذ سلّط تيارا كهربيّا خاصّا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية، أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا. وفي عصرنا هذا يقرّ العلم نظريات قراءة الأفكار ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقرّ انتقال الأصوات على الأثير بالراديو، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال. وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشّف لعلمنا كل يوم عن جديد. فإذا بلغ روح من القوّة ومن السلطان ما بلغت نفس محمد، فأسرى به الله ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، كان ذلك مما يقرّ العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها، والتي تصور الوحدة الروحية ووحدة الكون في نفس محمد تصويرا صريحا، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السموّ بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه ومكان العالم كله منها.
,
لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني؛ لذلك ما لبثوا حين حدثهم محمد بأمر إسرائه أن وقفوا عند الصور المادية من أمر هذا الإسراء وإمكانه أو عدم إمكانه، ثم ساور أتباعه والذين صدقوه أنفسهم بعض الريب فيما يقوله. وقال كثيرون: هذا والله الأمر البين. والله إنّ العير لتطّرد «1» شهرا من مكة
__________
(1) أي تتابع سيرها من غير انقطاع.
إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة! وارتدّ كثير ممّن أسلم. وذهب من أخذتهم الريبة في الأمر إلى أبي بكر وحدّثوه حديث محمد؛ فقال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. قالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس. قال أبو بكر: والله لئن كان قد قاله لقد صدق، إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. وجاء أبو بكر إلى النبيّ واستمع إليه يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبيّ صفة المسجد قال له أبو بكر: صدقت يا رسول الله. ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
ويدلّل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشا لمّا سمعت بأمر إسرائه سألته وسأله الذين آمنوا به عن آية ذلك، فإنهم لم يسمعوا بشيء من مثله؛ فوصف لهم عيرا مرّ بها في الطريق، فضلّت دابّة من العير فدلّهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش في ذلك فصدّقت العيران ما روى محمد عنهما. وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدّث عن أشياء واقعة في جهات نائية. ما بالك بروح يجمع الحياة الروحية في الكون كله ويستطيع بما حباه الله من قوة أن يتّصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده؟
الفصل التّاسع بيعتا العقبة
رد القبائل لمحمد ردا غير جميل- بشائر الفوز من ناحية يثرب- صلات اليهود بالأوس والخزرج- إسلام بعض اليثربيين- وقعة بعاث- بيعة العقبة الصغرى- مصعب بن عمير- عودة مع الحاج إلى مكة بعد عام- المسلمون من يثرب- بيعة العقبة الكبرى- أنباؤها عند قريش- ائتمار قريش بمحمد كي تقتله- إذن محمد لمسلمي مكة في الهجرة إلى يثرب.
,
لم تدرك قريش معنى الإسراء، ولم يدرك كثير ممن أسلموا معناه الذي قدّمنا، لذلك انصرف جماعة من هؤلاء عن متابعة محمد بعد أن اتبعوه زمنا طويلا. ولذلك ازدادت مساآت قريش لمحمد وللمسلمين حتى ضاقوا بها ذرعا. ولم يبق لمحمد رجاء في نصرة القبائل إيّاه بعد إذ ردّته ثقيف من الطائف بشرّ جواب، وبعد إذ ردّته كندة وكلب وبنو عامر وبنو حنيفة لمّا عرض نفسه عليهم في موسم الحج. وشعر محمد بعد ذلك كله بأنه لم يبق له مطمع في أن يهدي إلى الحق من قريش أحدا. ورأت غير قريش، من القبائل التي تجاور مكة والتي تجيء من مختلف أنحاء بلاد العرب حاجّة إليها، ما صار إليه من عزلة، وما أحاطته به قريش من عداوة تجعل كل نصير له عدوّا لها وعونا عليها، فإزدادت إعراضا عنه. ومع اعتزاز محمد بحمزة وعمر، ومع طمأنينته إلى أن قريشا لن تنال منه أكثر مما نالت لمنعته بقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب، لقد رأى رسالة ربه تقف في دائرة من اتبعه إلى يومئذ ممن يوشكون لقلتهم ولضعفهم أن يبيدوا أو أن يفتنوا عن دينهم إذا لم يأتهم نصر الله والفتح. وتطاولت الأيام بمحمد وهو يزداد بين قومه عزلة وقريش تزداد عليه حقدا. فهل ضعضعت هذه العزلة من نفسه أو أوهنت له عزما؟!