وحكم سعد أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسّم الأموال، وأقرّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القضاء الحازم قائلا لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «1» .
وحفرت الخنادق بسوق المدينة لتنفيذ هذا الحكم، وسيق إليها مقاتلة اليهود أرسالا- طائفة بعد أخرى-؛ ليدفعوا ثمن خيانتهم وغدرهم.
قال اليهود لسيدهم كعب وهم يساقون لمصارعهم: ما تراه يصنع بنا؟
فقال: أفي كلّ موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنّه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو- والله- القتل.
أجل! هو القتل! وإنّما تقع تبعات الحكم به على من تعرّض له بسوء صنيعه، وبما أسلف من نيّات خبيثة لم يسعفها الحظ فتحقق، ولو قد تحققت لكان ألوف المسلمين هلكى تحت أقدام الأحزاب المنسابة من كل ناحية، يحرضهم ويؤازرهم أولئك اليهود.
وربّما كانت مغامرات نفر من طلاب الزعامة سببا في هذه الكارثة التي
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه ابن إسحاق، وعنه ابن هشام: 2/ 197، عن علقمة بن وقّاص الليثي مرسلا؛ ولكن أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري دون قوله: «من فوق سبع سموات» ، فهذا ضعيف.
حلّت ببني قريظة، ولو أنّ حييّ بن أخطب وأضرابه سكنوا في جوار الإسلام، وعاشوا على ما أوتوا من مغانم، ما تعرّضوا ولا تعرّض قومهم لهذا القصاص الخطير.
لكنّ الشعوب تدفع من دمها ثمنا فادحا لأخطاء قادتها.
وفي عصرنا هذا دفع الروس والألمان وغيرهم من الشعوب أثمانا باهظة لأثرة الساسة المخدوعين.
ولذلك ينعى القران على أولئك الرؤساء مطامعهم ومظالمهم التي يحملها غيرهم قبلهم:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) [إبراهيم] .
لقد جيء بحييّ ليلقى جزاءه، وحييّ- كما علمت- جرثومة هذه الفتن.
فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس! لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر، وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه!.
وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنّه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتّى أبلغ النّفس عذرها ... وقلقل يبغي العزّ كلّ مقلقل
والحقّ أنّ من مشركي قريش ومن رجال يهود أناسا واجهوا الموت بثبات.
ولن تعدم المبادئ الباطلة والنحل الهازلة أتباعا يفتدونها بالأرواح والأموال، غير أن شيئا من هذا لا يجعل الباطل حقا ولا الجور عدلا.
إن موقف اليهود من الإسلام بالأمس هو موقفهم من المسلمين اليوم.
فألوف من إخواننا ذبحهم اليهود في صمت وهم يحتلون فلسطين.
والغريب أن اليهود تركوا من نصب لهم المجازر في أقطار أوربة، وجبنوا عن مواجهتهم بشرّ!! واستضعفوا المسلمين الذين لم يسيئوا إليهم من اثني عشر قرنا، فنكلوا بهم على النحو المخزي الفاضح، الذي لا يزال قائما في فلسطين ... تشهده وتؤيده وتسانده دول الغرب.
وفي طرد الأحزاب ودحر بني قريظة نزلت الايات: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) [الأحزاب] .
فقد المسلمون في هذا الصراع مع المشركين أولا، ومع أهل الكتاب ثانيا، عددا يسيرا من رجالهم منهم سعد بن معاذ؛ أجاب الله دعوته، فمات شهيدا من جراحته التي أصابته يوم الأحزاب، بعد أن شفى الله غيظه من يهود بني قريظة، وبعد أن تبين فشل قريش في هجومها على المدينة، وانقلابها لتغزى في عقر دارها، لا لتغزو الاخرين.
,
انفضت حشود الأحزاب حول المدينة، وعادت المطيّ بها من حيث أتت تذرع رحاب الصحراء، وليست تحمل معها إلا الفشل والخيبة، وبقي يهود بني قريظة واحدهم، أو بقوا وبقيت غدرتهم، التي فضحت طواياهم، فأصبحوا وأمسوا أشبه بالمجرم الذي ثبتت إدانته، فهو يرقب- بوجه كالح- قصاص العدالة منه.
وكانت مشاعر التغيّظ في أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها، إنّهم هم الذين استخرجوا العرب استخراجا، واستقدموهم إلى دار الهجرة ليجتاحوها من أقطارها، ويستأصلوا المسلمين فيها.
إن جراحات المسلمين لطردهم من ديارهم، ومطاردتهم في عقيدتهم، واستباحة أموالهم ودمائهم لكلّ ناهب ومغتال، لمّا تندمل بعد، بل لن تندمل أبدا، فكيف ساغ لأولئك الخونة من بني إسرائيل أن يرسموا بأنفسهم الخطة لإهلاك الإسلام وأبنائه على هذا النحو الذليل؟.
ثم ما الذي يجعل بني قريظة خاصة- وهم لم يروا في جوار محمد صلى الله عليه وسلم إلا البر والوفاء- يستديرون بأسلحتهم منضمين إلى أعداء الإسلام، كي يشركوهم في قتل المسلمين وسلبهم؟.
وها قد دخل في حصونهم حيي بن أخطب رأس العصابة التي طافت بمكة ونجد، تحرّض الأحزاب على الله ورسوله، وتزعم أنّ الوثنية أفضل من التوحيد!!.
لذلك، ما إن وثق المسلمون من منصرف الأحزاب عن المدينة حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنا فأذّن في الناس: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة» «1» .
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه ابن هشام: 2/ 194- 195، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري به مرسلا، وقد أخرجه البخاري: 7/ 327؛ ومسلم: 5/ 162، وغيرهما من حديث ابن عمر به، دون قوله: «من كان سامعا مطيعا» .
والأذان للقتال في هذه الضحوة المشرقة بالظفر والنجاة قرع مسامع المسلمين نديّا جليا، فهم في غمرة من الشعور بتأييد الله وملائكته لهم، أين هم اليوم مما كانوا عليه بالأمس القريب؟ إنّهم مدينون بحياتهم وكرامتهم للعناية العليا واحدها ...
أمّا خصومهم، فإنّ قوى الكون المسخّر بإذن الله هي التي فضّت جموعهم وفلّت حدودهم. فلا غرو إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين- محدّثا عن الرّوح الأمين-: «ما وضعت الملائكة السّلاح بعد.. إنّ الله يأمرك يا محمّد بالمسير إلى بني قريظة، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم» «1» .
وقد صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر، وشدّد على المسلمين أن يسارعوا في إنفاذه.
روى البيهقي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «عزمت عليكم ألاتصلّوا العصر حتى تأتوا بني قريظة» ، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إنّ رسول الله لم يرد أن تدعوا الصلاة، فصلّوا. وقالت طائفة: والله إنا لفي عزيمة رسول الله، وما علينا من إثم، فصلّت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنّف رسول الله واحدا من الفريقين «2» .
وذلك يمثّل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر ما دامت عن اجتهاد بريء سليم، والنّاس غالبا أحد رجلين: رجل يقف عند حدود النصوص الظاهرة لا يعدوها، ورجل يتبيّن حكمتها ويستكشف غايتها، ثم يتصرّف في نطاق ما وعى من حكمتها وغايتها، ولو خالف الظاهر القريب.
وكلا الفريقين يشفع له إيمانه واحتسابه؛ سواء أصاب الحق أو ندّ عنه.
ومن العلماء من أهدر الوقت المعيّن للصلاة بعذر القتال، وذلك مذهب البخاري وغيره، وهذا- عندي- أدنى إلى الصواب. فإنّ ترتيب الواجبات المنوطة بأعناق العباد من أهمّ ما يحدّد رسالة المسلم في الحياة، بل إنّه لا يفهم دينه فهما صحيحا إلا إذا فقه هذا الترتيب المطلوب.
__________
(1) هو من حديث الزهري المتقدم. لكنّ أمر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير ثابت في صحيح البخاري: 7/ 327؛ والمسند: 6/ 56، 131، 141، 280؛ من حديث عائشة.
(2) حديث صحيح، رواه البيهقي في (دلائل النبوة) من حديث عبيد الله بن كعب، وحديث عائشة؛ وأخرجه عنها الحاكم: 3/ 34- 35، وصحّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
إنّ الإسلام تعاليم وأعمال شتى، فيها الفرائض وفيها النوافل.
ولا بدّ أن نعلم أنّ الله لا يقبل نافلة حتى تؤدّى الفريضة، فالرجل الذي يستكثر من أعمال التطوع في الوقت الذي يهمل فيه فرائض لازمة رجل ضالّ.
والفرائض المطلوبة لحفظ الإيمان كالأغذية المطلوبة لحفظ الجسم.
وكما أنّ الجسم لا يقوم بالمواد النشوية واحدها، أو الزلالية واحدها، بل لا بد من استكمال جمل منوعة من الغذاء، وإلا تعرض الجسم لعلل قد تنهكه أو تقتله؛ فكذلك الدين؛ إنه لا قيام له في كيان الفرد أو في صفوف الجماعة إلّا بجملة من الفرائض الملونة، تصون حياته، وتضمن عافيته ونماءه.
وعلى المسلم أن يقسّم وقته، وأن ينظّمه على هذه الفرائض المطلوبة، فلا يشغله واجب عن واجب، وبالأحرى لا تشغله نافلة عن واجب!.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مباغتة بني قريظة قبل أن يستكملوا عدتهم ويقوّوا حصونهم، هو الواجب الأول في تلك الساعة، فلا ينبغي أن ينشغل المسلم عنه ولو بالصلاة.
فحدود وقت الصلاة تذوب أمام ضرورات القتال.
وتستطيع- على ضوء هذا الإرشاد النبوي- أن تحكم على مسالك المسلمين اليوم؛ إنّ المدرس الذي ينشغل عن تعليم تلامذته، والتاجر الذي ينشغل عن تثمير ثروته، والموظّف الذي ينشغل عن أداء عمله، لا يقبل الله من أحدهم عذرا أبدا في تضييع هذه الفرائض، ولو كان أحدهم قد عاقه عن واجبه أنه صلّى مئة ركعة، أو قرأ ألف اية، أو عدّ أسماء الله الحسنى سبعين ألف مرة، كما يفعل جهّال المتصوفة؛ ذلك أنّه انشغال عن الفرائض المطلوبة بنوافل لم تطلب، وتعطيل لأمة يستحيل أن تنهض إلا إذا أجهدت نفسها في محاربة جهلها وفقرها وفوضاها.
والجهاد العام فريضة لا يغضّ من قدرها شيء، ولا يزاحمها على وقتها عبادة كما رأيت.