"ثم هاجر المسلمون" الهجرة "الثانية إلى أرض الحبشة" بإذنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية: لما استقبلوهم حين رجعوا بالأذى والشر، فرجع الأولون ومعهم خلق سواهم، "وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم" فقد شك فيه ابن إسحاق، وقال السهيلي: الأصح عند أهل السير كالواقدي وابن عقبة وغيرهما أنه لم يكن فيهم، انتهى. وجزم في الاستيعاب بهجرته،
وثماني عشرة امرأة.
وكان منهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك................
__________
وكلام العيون كما في النور يقتضي اختياره؛ لأنه قال في تعدادهم: وعمار بن ياسر، وفيه خلاف، وقيل: إن أبا موسى كان فيهم، وليس كذلك، ولكنه خرج في طائفة من قومه إلى أرضهم باليمن يريدون المدينة فركبوا البحر فرمتهم الريح إلى الحبشة فأقام هناك حتى قدم مع جعفر، انتهى.
وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود: بعثنا صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم ابن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري ... الحديث.
واستشكل ذكر أبي موسى؛ لأن الذي في الصحيحين عنه: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب قأقمنا معه حتى قدمنا المدينة فوافتنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقال: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان"، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن موسى هاجر أولا إلى مكة، فأسلم، فبعثه صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحققوا استقراره صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار، فليعتمد.
وعلى هذا فقول أبي موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إلى المدينة لا بلغنا مبعثه؛ لأنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك؛ إذ يبعد أيضا أن يخفي عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بالحبشة طالت لتأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يؤذنه صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وذكر ابن مظعون فيهم، وإن كان مذكورا في الأولى؛ لأنهم رجعوا معهم، كما ذكره ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما.
"وثماني عشر امرأة" إحدى عشرة قرشيات وسبع غرباء؛ كما في العيون، فالجملة مائة أو واثنان إن عد عمار وأبو موسى، قال ابن إسحاق: فلما سمعوا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة وحبس سبعة وشهد منهم بدرا أربعة وعشرون. "وكان منهم: عبيد الله" بضم العين "ابن جحش" أخو عبد الله بفتح العين المستشهد بأحد "مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتنصر هناك" روى ابن سعد عنها: رأيت في المنام كان زوجي عبيد الله بأسوأ صورة ففزعت فأصبحت فإذا به قد تنصر فأخبرته بالمنام
ثم مات على دين النصرانية. وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة....
__________
فلم يحفل به وأكب على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين! ففزعت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن فإذا هي جارية يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك: وكلي من يزوجك، فوكلت خالد بن سعيد بن العاصي.. الحديث، "ثم مات على دين النصرانية، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة" رملة على الأصح، وقيل: هند اشتهرت بابنتها حبيبة من عبيد الله المذكور، وهي صحابية ربيبة المصطفى اختلف هل ولدت بمكة أو الحبشة، "بنت أبي سفيان" صخر بن حرب رضي الله عنه "سنة سبع من الهجرة إلى المدينة" متعلق بالهجرة "وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم" وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود، قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فقدما على النجاشي فدخلا عليه وسجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه والآخر على شماله، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: وأين هم؟ قال: هم بأرضك، فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه فدخل فسلم فقالوا: ما لك لا تسجد للملك؟ فقال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قالوا: ولم ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو: فإنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه، قال: فما تقول فيهما؟ قال: نقول كما قال الله تعالى: {رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعرضها ولد، فرفع النجاشي عودا من الأرض، فقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيد على ما تقولون أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه، وقال: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين فردت عليهما؛ وتعجل ابن مسعود فشهد بدرا. وفي رواية: فقال النجاشي: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله، وتوفي النجاشي بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة؛ كما ذكره البيهقي في الدلائل.
"وخرج أبو بكر الصديق" كما في الصحيح عن عائشة: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولا يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر "رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة" ليلحق من سبقه من المهاجرين
حتى بلغ برك الغماد، ورجع في جوار سيد القارة، ابن الدغنة -بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال وتشديد النون-.............
__________
إليها "حتى بلغ برك" بفتح الموحدة وحكى كسرها وسكون الراء فكاف، "الغماد" بكسر المعجمة على المشهور ومن الروايات وجزم ابن خالويه بضمها، وخطأ الكسر، وجوز أبو عبيد وغيره الضم والكسر، والقزاز وغيره الفتح أيضا، وذكره ابن عديس في المثلث، وأغرب من حكى إهمال العين وميم خفيفة فألف فدال مهملة، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وقال الهمداني: في أقصى اليمن، قال الحافظ: والأول أولى، انتهى.
وعورض هذا بما رواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: استأذن أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة. الحديث، وسنده حسن أو صحيح، وبين برك الغماد وبين يوم أو يومين تباين كثير، وجمع بأنها لم تعن المكان المخصوص بل مكانا بعيدا، فإنها تقال فيما تباعد كسعفان وهجر وحوض الثعلب، أو أرادت حتى بلغ أقصى المعمور من مكة، فإن برك الغماد فسرت بذلك أو حديث الصحيح فيه زيادة، فيؤخذ بها. "ورجع في جوار سيد القارة" بقاف وراء خفيفة قبيلة مشهورة من بني الهون بضم الهاء والتخفيف، ابن خزيمة من مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش ويضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
"ابن الدغنة" قال في النور: لا أعلم له إسلاما، "بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون" كما نسبه الحافظ للرواة، وقال: قال الأصيلي: قرأه لنا المروزي بفتح الغين والصواب الكسر. "وبضم الدال والغين وتشديد النون" عند أهل اللغة وبه رواه أبو ذر في الصحيح، ولذا قال النووي: روي بهما في الصحيح، وفي الفتح: ثبت بالتخفيف والتشديد من طريق وهي أمه، وقيل أم أبيه، وقيل: دايته، وقيل: لاسترخاء كان في لسانه، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه: فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد حكى السهيلي أنه مالك، وقول الكرماني سماه ابن إسحاق ربيعة بن ربيع وهم، فالذي ذكره ابن إسحاق شخص غير هذا سلمي، وهذا من القارة وأيضا إنما ذكره في غزوة حنين وأنه صحابي ولم يذكر في قصة الهجرة وكان رجوعه بطلب ابن الدغنة، ففي الصحيح خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في
يعبد ربه في داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا............
__________
الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا تخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك "يعبد ربه في داره" ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
قال الحافظ: ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك، "وابتنى" لفظ عائشة: ثم بدا لأبي بكر فابتنى "مسجدا بفناء داره" بكسر الفاء وخفة النون والمد، أي: أمامها، "وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن" أي: ما نزل منه كله أو بعضه، "فيتقصف" بتحتية ففوقية فقاف فصاد مهملة ثقيلة مفتوحتين، أي: يزدحم "عليه نساء المشركين وأبناؤهم" حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، قال الحافظ: وأطلق يتقصف مبالغة، يعني لأنهم لم يصلوا إلى هذه الحالة. وفي رواية المستملي والمروزي: ينقذف بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فقاف مفتوحة فذال معجمة مكسورة ففاء.
قال الخطابي: ولا معنى له والمحفوظ الأول، إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وفي رواية الكشميهني والجرجاني: فينقصف بنون ساكنة بدل الفوقية وكسر الصاد أي: يسقط، "ويعجبون منه وكان أبو بكر رجلا بكاء" بشد الكاف: كثير البكاء، "لا يملك عينيه" قال الحافظ: أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه "إذا قرأ القرآن" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك أو شرطية والجزاء مقدر، "فأفزع ذلك" أي: أخاف ما فعله أبو بكر "أشراف قريش من المشركين" لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى الإسلام.
قال في الرواية: فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، "فقالوا" إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة
إنا قد خسينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك.
فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله الحديث رواه البخاري.
ثم قام رجال في نقض الصحيفة،.............
__________
والقراءة فيه، و"إنا قد خشينا أن يفتن" بفتح أوله أبو بكر "نساءنا وأبناءنا" بالنصب مفعول كذا رواه أبو ذر، ورواه الباقون يفتن بضم أوله: نساؤنا بالرفع على البناء للمجهول، قال الحافظ. "فانهه" عن ذلك "فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله" بفتح السين وسكون اللام بلا همز نسب هذا الحافظ للكشميهني وصدر بقوله: فسأله بالهمز "أن يرد إليك ذمتك" أمانك له، "فإنا قد كرهنا أن نخفرك" بضم النون وسكون المعجمة وكسر الفاء، يقال: خفره إذا حفظه وأخفره إذا غدر، أي: نغدرك.
قال في الرواية: ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، قال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له "فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك" بكسر الجيم وضمها وراء "وأرضى بجوار الله" عز وجل، أي: بحمايته، "الحديث، رواه البخاري" في باب الهجرة إلى المدينة مطولا وليس في بقيته غرض يتعلق بما هنا، فإنما أراد المصنف إفادة أن ما ذكره قطعة منه، ورواه البخاري أيضا في مواضع مختصرا، قال الحافظ: وفيه من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها، قال: وفي موافقة ابن الدغنة في وصف الصديق لخديجة فيما وصفت به النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل الصديق واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال، انتهى.
ونحوه في النور، وزاد: وفي الحديث: كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان، فسبقته إلى النبوة، وقد خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من طينة واحدة، "ثم" في السنة العاشرة أو التاسعة "قام رجال في نقض الصحيفة" التي كتبت على بني هاشم والمطلب أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري أسلم بعد ذلك -رضي الله عنه، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، وكان يصلهم في الشعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما فعلمت قريش، فمشوا إليه حين أصبح فكلموه، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم،
فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط،..........
__________
فانصرفوا عنه ثم رد الثانية، فأدخل عليهم حملا أو حملين فغالظته قريش وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه رجل وصل أهل رحمه أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل لكان أحسن بنا، ثم مشى هشام إلى زهير بن أبي أمية وأسلم بعد وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ فقال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع فإنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال: أنا معك. فقال: ابغنا ثالثا ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي، فقالا له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد، فقالا: إنما أنا واحد، فقالا: أنا معك، فقال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري القاضي ابن هشام، فقال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود فقعدوا ليلا بأعلى مكة وتعاقدوا على ذلك، فلما جلسوا في الحجر تكلموا في ذلك وأنكروه، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة ومزقوها وأبطلوا حكمها، وهذا ملخص ما ذكر ابن إسحاق.
"فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة" بفتح الهمز والراء والضاد المعجمة: دويبة صغيرة كالعدسة تأكل الخشيب، "أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط" فيما ذكر ابن هشام، وأما ابن إسحاق وابن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك، وهو أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما يها من الظلم والقطيعة.
قال البرهان، ما حاصله: وهذا أثبت من الأول فعلى تقدير تساوي الروايتين يجمع بأنهم كتبوا نسختين فأبقت في إحداهما ذكر الله وفي الأخرى خلافه، وعلقوا إحداهما في الكعبة والأخرى عندهم، فأكلت من بعضها اسم الله ومن بعضها ما عداه لئلا يجتمع اسم الله مع ظلمهم، انتهى.
قال في الرواية: فذكر صلى الله عليه وسلم ذلك لعمه، فقال: أربك أخبرك بهذا، قال: "نعم"، قال: لا، والثواقب ما كذبتني قط، فانطلق في عصابة من بني هشام والمطلب حتى أتوا المسجد فأنكر قريش ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم تذكر في صحيفتكم فائتوا بها لعل أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أنه صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم فوضعوها بينهم، وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بعث
فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام. وكان ذلك في السنة العاشرة.
__________
على صحيفتكم دابة فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان كما قال فأفيقوا فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوها فوجدوها كما قال -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، والجمع بين هذا وبين ما مر من سعي رجال في نقضها باحتمال أنهم لما جلسوا في الحجر وتكالموا وافق قدوم أبي طالب وقومه عليهم بهذا الخبر، فزادهم ذلك رغبة فيما هم فيه.
"فلما أنزلت لتمزق" اللام للعاقبة "وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام" لا للتعليل فلا يرد أنها لم تنزل وقت سؤال أبي طالب لتمزق بل لينظر ما فيها فقط، وإن القائمين في نقضها لم يستندوا إلى أخباره -صلى الله عليه وسلم. وأجاب شيخنا: بأن إنزالها لتمزق كان بفعل المجتهدين لإنزالها لا لسؤال أبي طالب. "وكان ذلك في السنة العاشرة" من النبوة بناء على ما صدر به فيه ما مر أن إقامتهم بالشعب ثلاث سنين، أما على قول ابن سعد سنتين، فيكون في التاسعة، والله أعلم.
وفاة خديجة وأبي طالب:
ولما أتت عليه -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب.
وقيل: مات في شوال من السنة العاشرة.
وقال ابن الجزار: قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين.
__________
,
"ثم هاجر المسلمون" الهجرة "الثانية إلى أرض الحبشة" بإذنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية: لما استقبلوهم حين رجعوا بالأذى والشر، فرجع الأولون ومعهم خلق سواهم، "وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم" فقد شك فيه ابن إسحاق، وقال السهيلي: الأصح عند أهل السير كالواقدي وابن عقبة وغيرهما أنه لم يكن فيهم، انتهى. وجزم في الاستيعاب بهجرته،
وثماني عشرة امرأة.
وكان منهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك................
__________
وكلام العيون كما في النور يقتضي اختياره؛ لأنه قال في تعدادهم: وعمار بن ياسر، وفيه خلاف، وقيل: إن أبا موسى كان فيهم، وليس كذلك، ولكنه خرج في طائفة من قومه إلى أرضهم باليمن يريدون المدينة فركبوا البحر فرمتهم الريح إلى الحبشة فأقام هناك حتى قدم مع جعفر، انتهى.
وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود: بعثنا صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم ابن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري ... الحديث.
واستشكل ذكر أبي موسى؛ لأن الذي في الصحيحين عنه: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب قأقمنا معه حتى قدمنا المدينة فوافتنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقال: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان"، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن موسى هاجر أولا إلى مكة، فأسلم، فبعثه صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحققوا استقراره صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار، فليعتمد.
وعلى هذا فقول أبي موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إلى المدينة لا بلغنا مبعثه؛ لأنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك؛ إذ يبعد أيضا أن يخفي عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بالحبشة طالت لتأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يؤذنه صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وذكر ابن مظعون فيهم، وإن كان مذكورا في الأولى؛ لأنهم رجعوا معهم، كما ذكره ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما.
"وثماني عشر امرأة" إحدى عشرة قرشيات وسبع غرباء؛ كما في العيون، فالجملة مائة أو واثنان إن عد عمار وأبو موسى، قال ابن إسحاق: فلما سمعوا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة وحبس سبعة وشهد منهم بدرا أربعة وعشرون. "وكان منهم: عبيد الله" بضم العين "ابن جحش" أخو عبد الله بفتح العين المستشهد بأحد "مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتنصر هناك" روى ابن سعد عنها: رأيت في المنام كان زوجي عبيد الله بأسوأ صورة ففزعت فأصبحت فإذا به قد تنصر فأخبرته بالمنام
ثم مات على دين النصرانية. وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة....
__________
فلم يحفل به وأكب على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين! ففزعت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن فإذا هي جارية يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك: وكلي من يزوجك، فوكلت خالد بن سعيد بن العاصي.. الحديث، "ثم مات على دين النصرانية، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة" رملة على الأصح، وقيل: هند اشتهرت بابنتها حبيبة من عبيد الله المذكور، وهي صحابية ربيبة المصطفى اختلف هل ولدت بمكة أو الحبشة، "بنت أبي سفيان" صخر بن حرب رضي الله عنه "سنة سبع من الهجرة إلى المدينة" متعلق بالهجرة "وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم" وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود، قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فقدما على النجاشي فدخلا عليه وسجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه والآخر على شماله، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: وأين هم؟ قال: هم بأرضك، فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه فدخل فسلم فقالوا: ما لك لا تسجد للملك؟ فقال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قالوا: ولم ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو: فإنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه، قال: فما تقول فيهما؟ قال: نقول كما قال الله تعالى: {رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعرضها ولد، فرفع النجاشي عودا من الأرض، فقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيد على ما تقولون أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه، وقال: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين فردت عليهما؛ وتعجل ابن مسعود فشهد بدرا. وفي رواية: فقال النجاشي: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله، وتوفي النجاشي بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة؛ كما ذكره البيهقي في الدلائل.
"وخرج أبو بكر الصديق" كما في الصحيح عن عائشة: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولا يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر "رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة" ليلحق من سبقه من المهاجرين
حتى بلغ برك الغماد، ورجع في جوار سيد القارة، ابن الدغنة -بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال وتشديد النون-.............
__________
إليها "حتى بلغ برك" بفتح الموحدة وحكى كسرها وسكون الراء فكاف، "الغماد" بكسر المعجمة على المشهور ومن الروايات وجزم ابن خالويه بضمها، وخطأ الكسر، وجوز أبو عبيد وغيره الضم والكسر، والقزاز وغيره الفتح أيضا، وذكره ابن عديس في المثلث، وأغرب من حكى إهمال العين وميم خفيفة فألف فدال مهملة، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وقال الهمداني: في أقصى اليمن، قال الحافظ: والأول أولى، انتهى.
وعورض هذا بما رواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: استأذن أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة. الحديث، وسنده حسن أو صحيح، وبين برك الغماد وبين يوم أو يومين تباين كثير، وجمع بأنها لم تعن المكان المخصوص بل مكانا بعيدا، فإنها تقال فيما تباعد كسعفان وهجر وحوض الثعلب، أو أرادت حتى بلغ أقصى المعمور من مكة، فإن برك الغماد فسرت بذلك أو حديث الصحيح فيه زيادة، فيؤخذ بها. "ورجع في جوار سيد القارة" بقاف وراء خفيفة قبيلة مشهورة من بني الهون بضم الهاء والتخفيف، ابن خزيمة من مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش ويضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
"ابن الدغنة" قال في النور: لا أعلم له إسلاما، "بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون" كما نسبه الحافظ للرواة، وقال: قال الأصيلي: قرأه لنا المروزي بفتح الغين والصواب الكسر. "وبضم الدال والغين وتشديد النون" عند أهل اللغة وبه رواه أبو ذر في الصحيح، ولذا قال النووي: روي بهما في الصحيح، وفي الفتح: ثبت بالتخفيف والتشديد من طريق وهي أمه، وقيل أم أبيه، وقيل: دايته، وقيل: لاسترخاء كان في لسانه، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه: فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد حكى السهيلي أنه مالك، وقول الكرماني سماه ابن إسحاق ربيعة بن ربيع وهم، فالذي ذكره ابن إسحاق شخص غير هذا سلمي، وهذا من القارة وأيضا إنما ذكره في غزوة حنين وأنه صحابي ولم يذكر في قصة الهجرة وكان رجوعه بطلب ابن الدغنة، ففي الصحيح خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في
يعبد ربه في داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا............
__________
الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا تخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك "يعبد ربه في داره" ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
قال الحافظ: ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك، "وابتنى" لفظ عائشة: ثم بدا لأبي بكر فابتنى "مسجدا بفناء داره" بكسر الفاء وخفة النون والمد، أي: أمامها، "وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن" أي: ما نزل منه كله أو بعضه، "فيتقصف" بتحتية ففوقية فقاف فصاد مهملة ثقيلة مفتوحتين، أي: يزدحم "عليه نساء المشركين وأبناؤهم" حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، قال الحافظ: وأطلق يتقصف مبالغة، يعني لأنهم لم يصلوا إلى هذه الحالة. وفي رواية المستملي والمروزي: ينقذف بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فقاف مفتوحة فذال معجمة مكسورة ففاء.
قال الخطابي: ولا معنى له والمحفوظ الأول، إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وفي رواية الكشميهني والجرجاني: فينقصف بنون ساكنة بدل الفوقية وكسر الصاد أي: يسقط، "ويعجبون منه وكان أبو بكر رجلا بكاء" بشد الكاف: كثير البكاء، "لا يملك عينيه" قال الحافظ: أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه "إذا قرأ القرآن" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك أو شرطية والجزاء مقدر، "فأفزع ذلك" أي: أخاف ما فعله أبو بكر "أشراف قريش من المشركين" لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى الإسلام.
قال في الرواية: فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، "فقالوا" إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة
إنا قد خسينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك.
فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله الحديث رواه البخاري.
ثم قام رجال في نقض الصحيفة،.............
__________
والقراءة فيه، و"إنا قد خشينا أن يفتن" بفتح أوله أبو بكر "نساءنا وأبناءنا" بالنصب مفعول كذا رواه أبو ذر، ورواه الباقون يفتن بضم أوله: نساؤنا بالرفع على البناء للمجهول، قال الحافظ. "فانهه" عن ذلك "فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله" بفتح السين وسكون اللام بلا همز نسب هذا الحافظ للكشميهني وصدر بقوله: فسأله بالهمز "أن يرد إليك ذمتك" أمانك له، "فإنا قد كرهنا أن نخفرك" بضم النون وسكون المعجمة وكسر الفاء، يقال: خفره إذا حفظه وأخفره إذا غدر، أي: نغدرك.
قال في الرواية: ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، قال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له "فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك" بكسر الجيم وضمها وراء "وأرضى بجوار الله" عز وجل، أي: بحمايته، "الحديث، رواه البخاري" في باب الهجرة إلى المدينة مطولا وليس في بقيته غرض يتعلق بما هنا، فإنما أراد المصنف إفادة أن ما ذكره قطعة منه، ورواه البخاري أيضا في مواضع مختصرا، قال الحافظ: وفيه من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها، قال: وفي موافقة ابن الدغنة في وصف الصديق لخديجة فيما وصفت به النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل الصديق واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال، انتهى.
ونحوه في النور، وزاد: وفي الحديث: كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان، فسبقته إلى النبوة، وقد خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من طينة واحدة، "ثم" في السنة العاشرة أو التاسعة "قام رجال في نقض الصحيفة" التي كتبت على بني هاشم والمطلب أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري أسلم بعد ذلك -رضي الله عنه، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، وكان يصلهم في الشعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما فعلمت قريش، فمشوا إليه حين أصبح فكلموه، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم،
فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط،..........
__________
فانصرفوا عنه ثم رد الثانية، فأدخل عليهم حملا أو حملين فغالظته قريش وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه رجل وصل أهل رحمه أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل لكان أحسن بنا، ثم مشى هشام إلى زهير بن أبي أمية وأسلم بعد وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ فقال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع فإنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال: أنا معك. فقال: ابغنا ثالثا ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي، فقالا له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد، فقالا: إنما أنا واحد، فقالا: أنا معك، فقال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري القاضي ابن هشام، فقال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود فقعدوا ليلا بأعلى مكة وتعاقدوا على ذلك، فلما جلسوا في الحجر تكلموا في ذلك وأنكروه، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة ومزقوها وأبطلوا حكمها، وهذا ملخص ما ذكر ابن إسحاق.
"فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة" بفتح الهمز والراء والضاد المعجمة: دويبة صغيرة كالعدسة تأكل الخشيب، "أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط" فيما ذكر ابن هشام، وأما ابن إسحاق وابن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك، وهو أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما يها من الظلم والقطيعة.
قال البرهان، ما حاصله: وهذا أثبت من الأول فعلى تقدير تساوي الروايتين يجمع بأنهم كتبوا نسختين فأبقت في إحداهما ذكر الله وفي الأخرى خلافه، وعلقوا إحداهما في الكعبة والأخرى عندهم، فأكلت من بعضها اسم الله ومن بعضها ما عداه لئلا يجتمع اسم الله مع ظلمهم، انتهى.
قال في الرواية: فذكر صلى الله عليه وسلم ذلك لعمه، فقال: أربك أخبرك بهذا، قال: "نعم"، قال: لا، والثواقب ما كذبتني قط، فانطلق في عصابة من بني هشام والمطلب حتى أتوا المسجد فأنكر قريش ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم تذكر في صحيفتكم فائتوا بها لعل أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أنه صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم فوضعوها بينهم، وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بعث
فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام. وكان ذلك في السنة العاشرة.
__________
على صحيفتكم دابة فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان كما قال فأفيقوا فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوها فوجدوها كما قال -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، والجمع بين هذا وبين ما مر من سعي رجال في نقضها باحتمال أنهم لما جلسوا في الحجر وتكالموا وافق قدوم أبي طالب وقومه عليهم بهذا الخبر، فزادهم ذلك رغبة فيما هم فيه.
"فلما أنزلت لتمزق" اللام للعاقبة "وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام" لا للتعليل فلا يرد أنها لم تنزل وقت سؤال أبي طالب لتمزق بل لينظر ما فيها فقط، وإن القائمين في نقضها لم يستندوا إلى أخباره -صلى الله عليه وسلم. وأجاب شيخنا: بأن إنزالها لتمزق كان بفعل المجتهدين لإنزالها لا لسؤال أبي طالب. "وكان ذلك في السنة العاشرة" من النبوة بناء على ما صدر به فيه ما مر أن إقامتهم بالشعب ثلاث سنين، أما على قول ابن سعد سنتين، فيكون في التاسعة، والله أعلم.
وفاة خديجة وأبي طالب:
ولما أتت عليه -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب.
وقيل: مات في شوال من السنة العاشرة.
وقال ابن الجزار: قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين.
__________