وفي صحيح البخارى انه لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة الى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة وانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أو في رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر اليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يتمالك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بنى عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الاول قيل لثنتي عشرة منه وقيل لثمان وذلك في شهر أيلول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صامتا فطفق من جاء من الانصار ممن لم يكن ير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك فلبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع عشر ليلة وقيل ثلاثا وقيل خمسا وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيل وكان مربدا تهامة وبينها وبين المدينة ثمانية وسبعون ميلا (أوس بن حجر) بضم المهملة واسكان المعجمة (على حمل له اسمه الرداح أو الرداء) الذي في السيرة لابن هشام على جمل له يقال له ابن الرداء (ثنية الغائر) بالغين المعجمة ويروى بالمهملة الثنية في الاصل كل عقبة في الجبل مسلوكة والغائر جبل بالمدينة وأورده ياقوت بالعين المهملة والمعجمة روايتان (ركوبة) بفتح أوله وبعد الواو باء موحدة وهى ثنية بين مكة والمدينة عند العرج صعبة. قال ياقوت سلكها النبى صلى الله عليه وآله وسلم عند مهاجرته الى المدينة قرب جبل ورقان (بطن ريم) بكسر الراء قال ياقوت وهمز ثانيه وسكونه وقيل بالياء مهموزة واد قرب المدينة يصب فيه ورقان ثم قال وقيل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة (ثم قدموا قباء) بالضم وهي مساكن بنى عمرو بن عوف من الانصار وألفه واو يمد ويقصر ويصرف ولا يصرف وأنكر البكري فيه القصر ولم يحك فيه القالى سوي المد وكذا في ابن هشام وأهل قباء يقولون ان مسجدهم هو الذي أسس على التقوى كما سيذكره الؤلف قريبا (يزول بهم السراب) السراب ما تراه نصف النهار في المفازة كأنه ماء وليس بماء ويزول يتحرك (مربدا) المربد بكسر الميم موضع تجعل فيه الابل والغنم وموضع للتمر ينشف فيه
لكلثوم بن الهدم وورد في فضله أحاديث كثيرة وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأتيه في كل اثنين وخميس راكبا وماشيا ويصلى فيه وأثنى الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أهله بالطهارة وهو أوّل مسجد بني في الاسلام قيل وكان نزوله بقباء على كلثوم بن الهدم وقيل على سعد بن خيثمة وسار من قباء يوم الخميس وقيل يوم الجمعة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف فصلاها في بطن وادى رانوناء وكانت أوّل جمعة صلاها بالمدينة. قلت واتخذ موضع مصلاه مسجدا وسمى مسجد الجمعة وهو مسجد عتبان بن مالك الذى شكى الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه يحول بينه وبينه السيل ولما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء كان كلما حاذى أومر على دار من دون الانصار اعترضوه ولزموا بزمام ناقته يقولون هلم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى القوة والمنعة فيقول لهم خلوا سبيلها فانها مأمورة وقد أرخى لها زمامها وما يحركها وهى تنظر يمينا وشمالا والناس كنفتيها حتى بركت حيث بركت على باب مسجده ثم ثارت وهو عليها فسارت حتى بركت على باب أبى أيوب الانصاري ثم التفتت يمينا وشمالا ثم ثارت وبركت في مبركها الاول والقت جرانها بالارض وأرزمت فنزل عنها وقال هذا المنزل ان شاء الله تعالى فاحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته فاختار الله له (كلثوم بن الهدم) بكسر الهاء وسكون الدال بن امريء القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف بن مالك بن الاوس الأوسي الانصاري أوّل من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم مات بعده أسعد بن زرارة (سعد بن خيثمة) بن الحارث تقدم نسبه وذكره واختلف أصحاب المغازي على أيهما نزل صلى الله عليه وسلم قال ابن اسحاق نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم وكان اذا خرج منه جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة وكان يقال له بيت العزاب (عبان) بكسر أوله وقيل بالضم (ابن مالك) ابن عمرو بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الانصاري الخزرجي السالمى قال ابن حجر بدرى عند الجمهور ولم يذكره ابن اسحاق فيهم وحديثه في الصحيحين وانه كان امام قومه بنى سالم وذكر ابن سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم آخي بينه وبين عمر ابن الخطاب مات في خلافة معاوية وقد كبر (كنفتيها) الكنف بفتحتين الجانب واكتنفه القوم كانوا منه يمنة ويسرة (جرانها) بكسر الجيم مقدم عنق البعير من مذبحه الى منحره فاذا برك البعير ومد عنقه على الارض قيل القى جرانه بالارض (أبو ايوب) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار أبو أيوب الانصاري النجاري معروف باسمه وكنيته وامه هند بنت سعيد بن عمرو من بنى الحارث بن الخزرج وأبو أيوب هذا من السابقين شهد العقبة وبدرا وما بعدهما قال ابن حجر نزل عليه النبى
ما كان يختاره. فقد كان يحب النزول على بني النجار لنسبه فيهم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال خير دور الانصار دار بني النجار فهم أوسط دور الانصار وأخوال عبد المطلب ولم يزل صلى الله عليه وآله وسلم في منزل أبى أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه قيل كانت اقامته عنده شهرا ولما اطمأن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم اشتد سرور الانصار به وأظهروا الاسف على ما فاتهم من نصره ففي ذلك يقول أبو قيس صرمة بن أبى أنس احد بنى عدي بن النجار
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقي صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم يلق من يؤوى ولم يرداعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأن به الثوى ... وكان له عونا من الله باديا
يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى اذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الاموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم ان الله لا شئ غيره ... ونعلم ان الله أفضل هاديا
نعادي الذى عادى من الناس كلهم ... جميعا وان كان الحبيب المصافيا
فو الله ما ندرى الفتى كيف يتقى ... اذا هو لم يجعل له الله واقيا
صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة فاقام عنده حتى بني بيوته ومسجده وآخى بينه وبين مصعب بن عمير وشهد الفتوح وداوم الغزو واستخلفه علي المدينة لما خرج الي العراق ثم لحق به بعد وشهد معه قتال الخوارج ولزم الجهاد إلى ان توفي في غزاة القسطنطينية سنة خمسين وقيل احدي وخمسين وقيل غير ذلك وكان أمير الجيش يزيد بن معاوية ودفن أبو أيوب خارج القسطنطينية في قرية معروفة به وعليه جامع مكلف وللاتراك فيه عناية وقد أفردت مناقبه وسيرته بالتأليف (صرمة) بكسر الصاد المهملة (ابن أبي أنس) وقيل ابن أنس ويقال ابن قيس بن مالك بن عدى بن عامر بن غانم بن عدى بن النجار أبو قيس الأوسى مشهور بكنيته أنشد أبياته الآتية ابن اسحاق في المغازي لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأمن بها هو وأصحابه قال المرزباني في معجم الشعراء عاش أبو قيس عشرين ومائة سنة وقال ابن اسحاق وهو الذي نزلت فيه وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر وقوله (ثوي) أي مكث (بضع عشرة حجة) الحجة العام أخرج الحاكم من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال قلت لعروة كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال عشر سنين قلت فابن عباس يقول لبث بضع عشرة
ولا تحمل النخل المقيمة ربها ... اذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا
وكان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية وهم بالنصرانية واعتزل من الجاهلية ودخل بيتا له واتخذه مسجدا وقال أعبد رب ابراهيم وقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو شيخ كبير فأسلم وحسن اسلامه وله أشعار حسان من محاسنها قوله.
يقول أبو قيس وأصبح غاديا ... ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
وأوصيكم بالله والبر والتقى ... واعراضكم والبر بالله أوّل
وان قومكم سادوا فلا تحسدونهم ... وان كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وان نزلت احدى الدواهي بقومكم ... فأنفسكم دور العشيرة فاجعلوا
وان ناب غرم فادح فارفدوهم ... وما حملوكم في الملمات فاحملوا
وان انتم أمعرتم فتعففوا ... وان كان فضل الخير فيكم فافضلوا
[