يزعم بودلي (1) أن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم بإعدام يهود بني قريظة لأنهم تسببوا بطريق غير مباشر في جرحه.
يشير بودلي هنا إلى الجرح الذي أصاب سعداً أثناء حصار المشركين للمدينة في غزوة الخندق ـ الأحزاب ـ وكون بني قريظة تسببوا في جرحه بطريق غير مباشر فليس ببعيد عن الصواب (2) ، ولكن هل كان هذا سبباً وراء حكمه بإعدامهم؟! من الواضح أن هذا مجرد استنتاج من بودلي ومشايخه، لم تذكره مصادرنا المعتمدة على التحرير، بل ذكرت أن السبب نقضهم العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وأرادوا حرب المسلمين مع الأحزاب (3) . وهو حُكْمٌ حَكَمَ به الله عليهم قبل حكم سعد، وهو ما صرح به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما علق على حكم سعد، إذ قال: "قضيت بحكم الله تعالى" (4) .
وقد دعا سعدٌ الله ـ حين أصيب ـ بأن لا يميته حتى يقر عينيه من بني قريظة، لأنهم نقضوا العهد، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية (5) ، ولعل الذي
__________
(1) الرسول، ص 191.
(2) انظره عند: البخاري /الفتح (5/298/رقم 4101) ؛مسلم (3/1388 ـ 1389/رقم 1768) .
(3) انظر مثلاً: البخاري /الفتح (15/291/رقم 4113) ؛مسلم (4/1979/رقم 2415) ؛ ابن هشام (3/319ـ320) ، من حديث ابن إسحاق، بدون إسناد؛ عبد الرزاق: المصنف (5/368) ؛ مرسلاً، من حديث ابن المسيب، ومراسيله قوية؛ البيهقي: الدلائل (3/404ـ 405) ، من رواية موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً؛ الواقدي: المغازي (2/480ـ483) , (1/457) .
(4) البخاري /الفتح (15/298/رقم 4101) ؛ مسلم (3/1388ـ1389/رقم 1768) .
(5) من رواية أحمد ـ لحديث يزيد ـ كما في الفتح الرباني (21/81ـ82) ، وقال الساعاتي: أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه، ثم قال: وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثيرة وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين: مرة قبل حكمه في بني قريظة، ومرة بعد ذلك كما قلنا أولاً. ومن شواهده رواية أحمد من حديث جابر كما في القتح الرباني (21/283) ، وأشار الساعاتي إلى رواية الترمذي بإسناد حسن صحيح كما قال الترمذي.
حمل بودلي على هذا الزعم، هو الأثر المروي عنه حين أصيب، وواضح بعد إيرادنا له أنه استنتج منه ذلك الزعم.
ويبدو أن بودلي قد تابع درمنجهم في هذا الاستنتاج، إذا يقول درمنجهم (1) : "وكان النبي يعلم أن سعداً الذي جرح في غزوة الخندق جرحاً خطراً، حاقد على اليهود كثيراً لما أدوا إليه من إيقاد تلك الغزوة".
__________
(1) حياة محمد، ص 273.
22 - يزعم بودلي (2) أن أبابكر رضي الله عنه رفض الزواج من حفصة رضي الله عنها، وكذلك عثمان رضي الله عنه، والسبب واحد، وذلك عندما فاتحهما في هذا الأمر والدها عمر رضي الله عنه إثر تأيمها من زوجها خُنَيس بن حذافة السهمي.
فالصواب أن عثمان رضي الله عنه اعتذر عن زواج حفصة رضي الله عنها بحجة عدم حاجته في النساء في تلك الأيام التي توفيت فيها زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وسكت أبو بكر لعلمه أن للرسول صلى الله عليه وسلم رغبة في الاقتران بها لمواساتها، ولم يشأ إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) . أهكذا تكتب حقائق السيرة النبوية؟!
__________
(2) الرسول، ص 155.
(3) انظر البخاري /الفتح (19/211 ـ 213/رقم 1522) ؛أحمد: الفتح الرباني (2/130) ، بإسناد صحيح
23- زعم بودلي (1) أن الهدايا التي أرسلها هرقل - ملك الروم - إلى محمد صلى الله عليه وسلم قد أرضته.
والذي وقفنا عليه في المصادر الأصلية أن هرقل عندما كتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رداً على رسالته إليه، قال: إني مسلم، وبعث إليه بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذب عدو الله، وهو على دين النصرانية"، وقسم الدنانير على المحتاجين (2) .
نعم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل هدايا المشركين من أهل الكتاب ويرد هدية مشركي العرب (3) . فأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قبل هدية هرقل أو قيصر الروم، فلا يستنكر، ولكن الذي يستنكر زعم بودلي بأنها أرضته. ولم يرد نص تاريخي يفيد بأن ذلك قد حدث.
__________
(1) الرسول، ص 223.
(2) ابن حبان: صحيحه، كما في موارد الظمآن، ح1628، بإسناد صحيح، كما قال محقق زاد المعاد (1/121) ، ط. الرسالة؛ أبو عبيد: الأموال، ص 255، بإسناد مرسل صحيح.
(3) انظر في هذا: الشامي: سبل الهدى والرشاد (9/48ـ53) ، وانظر مصادره وتحقيق وتخريج المحقق للروايات الواردة عنده.
24- زعم بودلي (4) أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من القبائل غير المسلمة الخروج معه إلى عمرة الحديبية.
يلحظ الناظر في الروايات المتعلقة بهذا الشأن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استنفر العرب ومن حول المدينة من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه مخافة أن
__________
(4) الرسول، ص 224.
تعرض له قريش بحرب عن البيت الحرام. ولم تذكر الروايات أن الذين استنفرهم كانوا غير مسلمين (1) . وفي رواية الواقدي (2) أنه كان يمر بالأعراب فيما بين مكة والمدينة، فيستنفرهم، فيتشاغلون عنه بأموالهم وأبنائهم وذراريهم، ثم ذَكَرهم، وهم: بنو بكر ومزينة وجهينة. وواضح من هذه الرواية، إذا سلمنا بصحتها، وهي ليست بصحيحة عند المحدثين؛ لأن إسنادها غير متصل، ومن رواية الواقدي المتروك مع سعة علمه، يستنتج منها أنه كان يعني المسلمين منهم، وذلك بدليل أن الرواية ذاتها تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أصبح بالروحاء، لقي بها جماعة من بني نهد، معهم نعم وشاء، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا له وانقطعوا من الإسلام، وعندما أهدوا إليه لبناً لم يقبله منهم، وقال: "لا أقبل هدية مشرك"، وابتاع منهم (3) . فكيف يجوز عقلاً أن يرفض هديتهم ويقبل خروجهم معه؟ وقد بينا في مكان سابق من هذا البحث أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض في كل المناسبات أن يستعين بالمشركين في الحرب، وكان مستعداً للحرب إذا فرضت عليه في تلك السفرة.
ثم إن الروايات تشير إلى أن من خرج معه من الأعراب كانوا قليلين. وأوضح دليل على أن كل من خرج معه من المدينة أو لحق به من الأعراب كانوا مسلمين هو ما جاء في خبر بيعة الرضوان. فقد جاء في القرآن الكريم
__________
(1) انظر مثلاً: ابن هشام (3/427) ، بدون إسناد؛ ابن سعد (2/95) ، بدون إسناد، وعنده أنه استنفر أصحابه، الواقدي (2/572) ، من حديث جمع غفير من شيوخه، وعنده استنفر أصحابه إلى العمرة.
(2) المغازي، (2/574) .
(3) المصدر نفسه (2/575) .
أن الله سبحانه وتعالى قد رضي عنهم لاستعدادهم للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومنازلة قريش بالسيف حتى الموت، ماعدا الجد بن قيس لنفاقه، حين حبسوا عثمان بن عفان رضي الله عنه في مكة (1) ، فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18] . ورضي عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووعدهم الجنة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها" (2) ، وقال عنهم: "إنهم خير أهل الأرض" (3) ؛ فما دام الاستثناء قد جاء للجد بن قيس فقط لنفاقه، فمن باب أولى أن يأتي استثناء للكفار إن كانوا فعلاً في أصحابه من أهل الحديبية.
ولو كان الأعراب الذين استنفرهم من الكفار ما عاتبهم الله سبحانه وتعالى وكشف عن نياتهم وحقيقة مواقفهم من الاستنفار، إذ قال: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح:11] . فمن يطلب الاستغفار لتقصير منه؟ لابد أن يكون من المسلمين.
__________
(1) البخاري /الفتح (16/24/رقم 4169) ؛مسلم (3/1483/رقم 1856) ، واستثناء الجد بن قيس من روايته.
(2) مسلم (4/1942/رقم 2496) .
(3) البخاري /الفتح (16/17/رقم 4154) .
25- يذكر بودلي (1) أن هاجر طردت من خيام إبراهيم عليه السلام بتحريض من سارة، وهامت على وجهها في الصحراء.
إن قصة هاجر كما تروي مصادرنا ليست كما ذكر، نعم تقول مصادرنا إن الغيرة اشتدت بسارة عندما ولدت هاجر إسماعيل عليه السلام، فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء (2) . ولذا هربت هاجر مع زوجها إبراهيم عليه السلام (3) ، ولم تطرد كما يدعي بودلي. وسار بها في الصحراء إلى أن وصل مكان بئر زمزم الحالية بمكة، وليس بها يومئذ أحد، لا ماء ولا طعام، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم رجع إلى موطنه، فتبعته وهي تقول حينها مراراً: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ وهو لا يلتفت إليها، وأخيراً قالت له: آالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت إلى حيث أنزلها. فانطلق حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرى، استقبل بوجهه البيت الحرام، ثم دعا ربه قائلاً: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ
__________
(1) الرسول، ص 17.
(2) الطبري: التاريخ (1/253ـ254) .
(3) البخاري /الفتح (13/141 ـ152/رقم 3364، 3365) .
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] . ثم كان ما كان من بقية القصة ومجيء إبراهيم عليه الصلاة والسلام مرتين أخريين إليها، وبنى الكعبة بمساعدة ابنه إسماعيل بأمر الله سبحانه وتعالى في رواية طويلة عند البخاري (1) ، وغيره.
وكان الأمر كله بتدبير الله، لا بتدبير البشر، لحكمة أرادها ويعلمها، ولكن لا يريد أن يعلمها أمثال بودلي.
__________
(1) المصدر والمكان نفسه.
26- يزعم بودلي (2) أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمَّ الناس في صلاة شكر في اليوم الذي انتهت فيه معركة أحد.
الذي حدث أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فرغ من دفن شهداء غزوة أحد، ركب فرسه ومعه أصحابه، فلما كانوا بأصل أحد، قال: "اصطفوا حتى أُثني علي ربي عز وجل"، فاصطف الرجال خلفه صفوفاً، خلفهم النساء، فأخذ في الدعاء للمسلمين والدعاء على المشركين (3) .
ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى يوماً صلاة شكر جماعة، لا يوم أحد ولا غيره، بل الثابت سجود الشكر، وفي غير هذا الموطن. ولم نقف على أصل لصلاة شكر جماعية كما يفعل في بعض البلاد الإسلامية اليوم.
__________
(2) الرسول، ص 167.
(3) انظر الرواية عند: أحمد: المسند (3/424) ، ط. المكتب الإسلامي، وانظر الدعاء بتمامه عند الحاكم: المستدرك (3/23) ، وصححه ووافقه الذهبي، ابن كثير: البداية النهاية (4/44- 45) ، وهي رواية أحمد، وقال: رواه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، الواقدي: المغازي (1/314) بمثل متن رواية أحمد ولكن لم يسندها، وانظر المجمع (6/124- 125) ، وقال: رواه أحمد والبزار.. ورجال أحمد رجال الصحيح.
27- يذكر بودلي (1) أن مسطح بن أثاثة كان صديقاً لأبي بكر.
الذي ثبت في الصحيح أنه كان قريباً لأبي بكر (2) ؛ وحدد ابن إسحاق (3) هذه القرابة، فروى أنه ابن بنت خالته. ولا يستبعد أن يكون القريب صديقاً، ولكن لم نقف على رواية تفيد بأنه كان صديق أبي بكر.
__________
(1) الرسول ص 200.
(2) في حديث عائشة الطويل عند البخاري في قصة الإفك، الفتح (18/86/رقم 4750) .
(3) ابن هشام (3/414) ، والراجح عندي أنه بإسناد أول خبر الإفك، وهو حسن لذاته، وإن لم يكن كذلك فله شواهد من حديث البخاري المشار إليه آنفاً وغيره.
28- يزعم بودلي (4) أن حسان بن ثابت رضي الله عنه أحب مارية القبطية رضي الله عنها، ولذا وهب له الرسول صلى الله عليه وسلم سيرين أختها.
لم تذكر مصادرنا هذا الزعم. بل الذي تذكره أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصلته هدية المقوقس، حاكم مصر حينها، وفيها مارية وأختها سيرين، تسرَّى بمارية، وأهدى أختها سيرين إلى صاحبه حسان بن ثابت رضي الله عنه (5) وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم منح حساناً سيرين عوضاً له عن الضربة التي ضربه إياها صفوان ابن المعطل عندما هجاه (6) .
__________
(4) الرسول، ص 237.
(5) ذكر هذا ابن كثير في البداية (5/340-341) ، بإسناد حسن لغيره، ومن شواهده: رواية البراز بإسناد حسن، كما قال ابن حجر في الإصابة (4/405/ ترجمة مارية) ، وفيها إهداء المقوقس جاريتين أختين، اتخذ إحداهما ووهب الأخرى؛ ابن هشام (1/247) ، موقوف على ابن لهيعة، وهو ضعيف، وليس فيه ذكر لأختها سيرين، ابن سعد: الطبقات (1/260-261) ، من حديث الواقدي، وفيه التصريح باسم الجاريتين، ولم يذكر إهداء سيرين لحسان، ابن كثير: البداية (5/342) ، من رواية أبي نعيم، بإسناد ضعيف، وذكر مارية فقط.
(6) ابن هشام (3/423ـ424) ، من حديث ابن إسحاق بإسناد ضعيف للانقطاع.
29- يزعم بودلي (1) أن من أسباب فتح خيبر أن محمداً شاء أن يعوض خيبة الأمل التي فرضها على أصحابه في الحديبية، ورغبته في استخدام جيشه الجديد.
لم نقف على هذا الزعم في المصادر التي بين أيدينا، بل ذكرت ما ذكره بودلي (2) في مكان آخر في هذا الصدد، وهو أن يهود خيبر ظلوا يؤلفون خطراً أمنياً لدولة الإسلام الناشئة، وبخاصة عندما نزل بعض كبار زعماء بني النضير بخيبر، بعد إجلائهم عن المدينة: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وحيي بن أخطب. فلما نزلوها دان لهم أهلها. نزلوها بأحقادهم القديمة ضد المسلمين، ولذا كانوا يتحينون الفرص للانتقام، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب المشركة مطية ذلول للوصول إلى هدفهم، فحملوهم على غزوة الخندق، وسعوا في إقناع بني قريظة للانضمام إليهم والغدر بالمسلمين. وقد وجد حيي بن أخطب داخل حصن بني قريظة حين حاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرج، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل أخزاك الله؟ "، قال: قد ظهرت عليَّ، وما ألوم نفسي فيك، فأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقتل (3) .
وكانت هدنة صلح الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا المصدر الخطير، ووعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا فتحوا خيبر، كما أشارت الآية الكريمة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
__________
(1) الرسول، ص 241.
(2) المرجع نفسه، ص 241، ولعله تابع هنا شيخه إميل درمنجهم.
(3) الهيثمي: المجمع (6/138ـ139) ، وقال الهيثمي: في الصحيح بعضه عن عائشة متصل الإسناد؛ عروة بن الزبير: المغازي، ص 187ـ188، جمع: الأعظمي.
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: 18ـ21] . ومما ورد في تفسير: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} ، ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر ومكة وسائر البلاد عليهم (1) . وقال مجاهد في تفسير قوله: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} يعني فتح خيبر (2) ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أن المقصود من قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} هي خيبر (3) .
لو استفاد بودلي من مثل هذه الروايات والمصادر والتفاسير، لما زعم ما زعم وتخرص، واستنتج استنتاجات خاطئة. ويكثر مثل هذا في كتابات المستشرقين حتى الذين يوصفون بالاعتدال، أمثال بروكلمان (4) ، فاسمعه يقول: " كان على محمد أن يعوض خسارة أحد التي أصابت مجده العسكري من طريق آخر، ففكر في القضاء على اليهود، فهاجم بني النضير لسبب واهٍ ".
__________
(1) انظر، ابن كثير: التفسير (7/322) ، وفيه بقية التفاسير.
(2) المصدر والمكان نفسيهما، وفيه بقية التفاسير.
(3) المصدر نفسه (7/323) ، وفيه بقية التفاسير.
(4) تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 52. وللرد على هذا الزعم، انظر: د. مهدي: رزق الله أحمد: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ط1، ط2، أحداث خيبر.
أما المتعصبون منهم فقد بالغوا في مزاعمهم، خاصة إذا كان الأمر يتعلق باليهود.
ومثال ذلك قول يوليوس فلهاوزن (1) : ".. أما اليهود فقد حاول محمد أن يظهرهم بمظهر المعاندين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كل الجماعات اليهودية أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد التمس لذلك أسباباً واهية"، وقول مرغليوت (2) : "عاش محمد هذه السنين الست بعد هجرته إلى اللصوصية والسلب والنهب، ولكن نهب أهل مكة قد يسوغه طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه، وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة، فقد كان هناك - على أي حال - سبب ما، حقيقياً كان أم مصطنعاً، يدعو إلى انتقامه منهم، إلا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد، لم يرتكب أهلها في حقه ولا في حق أتباعه خطأً يعتبر تعدياً منهم جميعاً، لأن قتل أحدهم رسول محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام. وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي طرأ على سياسة محمد. ففي أيامه الأولى بالمدينة، أعلن معاملة اليهود كمعاملة المسلمين، لكن الآن ـ بعد السنة السادسة للهجرة ـ أصبح يخالف تماماً موقفه ذلك، فقد أصبح مجرد القول بأن جماعة ما غير مسلمة يعد كافياً لشن الغارة عليها. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثرت على نفس محمد والتي دفعته إلى شن غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس
__________
(1) الدولة العربية وسقوطها، ص 15ـ16؛ وانظر الرد عليه عند: د. مهدي: السيرة النبوية..
(2) (محمد وظهور الإسلام) Margolliuth: Mohammed and the RISE of ,pp.) Islam (London,.
الإسكندر من قبل ونابليون من بعد.. إن استيلاء محمد على خيبر يبين لنا إلى أي حد أصبح الإسلام خطراً على العالم".
تضمن كلام مرغليوت هذا عدة مغالطات، رددنا على معظمها خلال ردنا على مزاعم وافتراءات ومغالطات بودلي. وإذا كانت هناك نقطة أخرى تستحق الوقوف عندها مرة أخرى فهي إيحاؤه وإيماءاته بأن سبب غزوة خيبر كان قتل أحدهم رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم لقبض ما فرض عليهم من مال.
قلت: وهذا خطأ وافتراء عظيم على الحقيقة التاريخية، التي لا نشك أن مرغليوت يعرفها، ولكن التعصب يصم ويعمي. فالصواب والثابت تاريخياً، وفي الصحيحين (1) بصفة خاصة، أنَّ قَتْلَ أحد يهود خيبر رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن سهيل - كما سبق ذكره في ردنا على بودلي، كان بعد غزوة فتح خيبر، وليس قبلها، ومن هنا يتضح لنا التدليس الذي يمارسه المتعصبون من المستشرقين على القراء، والتحريف المتعمد لحقائق السيرة النبوية بصفة خاصة والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بصفة عامة.
وعلى القارئ أن يتأمل تخبط المستشرقين عند تناول سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فمرغليوت يزعم أن سبب فتح خيبر قتل أحد يهودها رسول محمد صلى الله عليه وسلم، ويأتي من بعده بودلي ليقول إن محمداً أراد تعويض خيبة الأمل التي فرضها على أصحابه في الحديبية، ومن قبلهما يزعم فلهاوزن أن القضاء على اليهود، أو طردهم من الحجاز كان لأسباب واهية.
__________
(1) انظر البخاري /الفتح 22/340/رقم 6142، 6143، مسلم (3/1291- 1295/رقم 1669) ، ورواه غيرهما، اكتفينا برواية الصحيحين للاختصار.
وهكذا يتضح من دراسة أسباب فتح خيبر أن ما ذكره بودلي مجرد استنتاج خاطئ تابع فيه أساتذته المغرضين.
30- يزعم بودلي (1) أن باقي اليهود طردوا جميعاً من خيبر بعد فتحها على يد المسلمين، ما عدا صفية بنت حيي بن أخطب زعيم القبيلة.
إن هذا خطأ تاريخي واضح، لأن الثابت في مصادر السيرة أن صلحاً تم بين الطرفين: المسلمين واليهود، كان من بنوده حقهم في البقاء على أرضهم مقابل شطر ما يخرج منها (2) ، وأن للمسلمين إخراجهم متى شاؤوا. وقد أخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته - إلى تيماء وأريحاء (3) - عندما تكرر منهم الاعتداء على المسلمين. فقد تآمروا في المرة الأولى على قتل عبد الله بن سهل، وأنكروا ذلك، فوداه الرسول صلى الله عليه وسلم من مال المسلمين (4) . واعتدوا في المرة الثانية على عبد الله بن عمر، حين فدعوا يديه في خلافة أبيه عمر رضي الله عنه (5) .
ولو تابع بودلي شيخه درمنجهم (6) لما وقع في هذا الخطأ التاريخي.
__________
(1) الرسول، ص 245
(2) البخاري (رقم 4248) ، مسلم (رقم 1551) .
(3) البخاري (رقم 3152) ، مسلم (برقم 1551) .
(4) البخاري (6142) ؛ مسلم (1669) .
(5) أحمد: المسند (1/90/ح90) ، بإسناد وصححه شاكر؛ ابن هشام (3/495) ، من حديث ابن إسحاق بإسناد حسن لذاته، والفدع: عِوَج في المفاصل وأكثر ما يكون في رسغ اليد.
(6) حياة محمد، ص 342
31- يزعم بودلي (1) أن زيد بن حارثة ضحى بنفسه لدرجة أنه أعطى زوجته زينب بنت جحش صديقه وسيده محمداً، ولذا ذرفت عينا محمد الدمع عليه عندما مات؛ تقديراً لهذا الجميل.
يستند بودلي في هذا الزعم إلى روايات الضعفاء والمتروكين الذين لا يحتج بهم في مسائل الحلال والحرام والعقيدة، ولاسيما رواية الواقدي المتروك في سبب زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من ابنة عمته زينب بنت جحش.
وخلاصة رواية الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم إلى منزل متبناه وربيبه زيد بن حارثة، زوج زينب بنت جحش، فلم يجده، وقامت إليه زينب فُضُلاً [أي في ثيات مهنتها بالبيت] ، فرآها فأعجبته، فأعرض عنها، ورفض طلبها في الدخول إلى دارها في غياب زوجها، وولى وهو يهمهم بشيء لم تفهم منه إلا قوله: "سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب". وعندما عاد زيد إلى داره أخبرته بما حدث، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مما قال: ".. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك" وتقول الرواية: إن زيداً لم يستطع إلى زينب سبيلاً بعد ذلك اليوم، فأخذ يتردد على الرسول صلى الله عليه وسلم فيخبره ويبدي إليه رغبته في طلاقها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له كل مرة: "أمسك عليك زوجك، أو احبس عليك زوجتك"، وعندما لم يطق ذلك فارقها واعتزلها، وعندما انقضت عدتها
__________
(1) الرسول، ص 257.
أوحى الله لنبيه بأن يتزوجها (1) .
من الواضح أن بودلي أخذ هذه الرواية من مشايخه، وعلى رأسهم درمنجهم، الذي يقول بعد إيراده الرواية: "بيد أن زيداً أدرك أن الكلام لا يعبر عن الفكر، وأن محمداً أخفى ميله عن مجاملة وعن خوف من العيب، فأصر زيد على حل عقدة النكاح، متعللاً بأنه أضحى كارهاً لزينب، فطلقها بعد بضعة أيام، ومن يدري ماذا كان يدور في خلد هذه المرأة؟ " (2) .
لقد طعن العلماء المحققون في هذه الرواية لعلل ذكروها، وهي: الإرسال، لأنها موقوفة على محمد بن يحيى بن حبان، وهو تابعي توفي عام 121هـ (3) ، وفي سندها الواقدي، الذي ضعفه جمع من رجال الجرح والتعديل، منهم زكريا الساجي والبخاري وأحمد وابن المبارك وابن نمير وابن معين (4) ، وفي إسنادها عبد الله بن عامر الأسلمي الذي ضعفه العلماء: أحمد وأبو زرعة وأبو عاصم والنسائي وابن معين والبخاري، وقال عنه ابن حبان: كان يقلب الأسانيد والمتون ويرفع المراسيل (5) .
ومن كان هذا حاله عند العلماء فلا يصح الاحتجاج به في أمر يتعلق
__________
(1) انظرها عند ابن سعد (8/101ـ102) ، بتصرف، الطبري: التاريخ (2/562ـ563) ، وهي رواية الواقدي التي عند ابن سعد.
(2) إميل درمنجهم: حياة محمد، ص 301.
(3) ابن حجر: تهذيب التهذيب (9/508) .
(4) ابن حجر: المصدر نفسه (9/363) ؛ الذهبي: ميزان الاعتدال (3/662ـ666) .
(5) ابن حجر: تهذيب التهذيب (5/275ـ279) .
بعصمة الأنبياء (1) .
والرواية الثانية التي يستند إليها بودلي وأمثاله للطعن في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، رواية الطبري التي تتلخص في أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج يوماً يريد زيداً، فعندما وقف على بابه رفعت الريح ستر الشعر الذي كان على الباب، فرأى زينب حاسرة في حجرتها، فوقعت في قلبه. فلما وقع ذلك كُرِّهت إلى الآخر، قال: فجاء فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك! أرابك منها شيء؟! فقال: لا والله يا رسول الله، ما رابني منها شيء، ولا رأيت إلا خيراً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، فذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] ، تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها (2) .
وقد طعن العلماء في هذه الرواية كذلك لأسباب ذكروها، وهي: لأن في إسنادها عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، ولكنه مدلس ومتساهل (3) ، ولم يصرح بالتحديث في هذه الرواية، ولذا فهي ضعيفة، ولأن في إسنادها عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، الذي ضعفه أحمد وابن المديني، وتكلم
__________
(1) انظر: د. زاهر عواض الألمعي: مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ـ رواية تحليلية، وهو عمدتنا في هذه الدراسة ـ جزاه الله خيراً.
(2) الطبري: التاريخ (2/563ـ564) .
(3) انظر أقوال العلماء فيه عند ابن حجر: تهذيب التهذيب (6/83ـ84) .
فيه غير واحد من العلماء (1) ، ولأن إسنادها منقطع، لم يرفع إلى أحد من الصحابة.
والرواية الأولى المقبولة عند العلماء هي الرواية التي أوردها الطبري (2) ، من حديث علي بن الحسين، قال: كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها، قال: "اتق الله وأمسك عليك زوجك"، قال الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} .
ورجال إسناد هذه الرواية ثقات، ماعدا علي بن زيد بن جدعان، فقد ضعف، قال ابن حجر (3) : " إلا أن الترمذي الحكيم قد أطنب في تحسينها، وقال: إنها من جواهر العلم المكنون ". قلت: ويقوي هذا الإسناد رواية ابن أبي حاتم من طريق السدي، التي قال عنها ابن حجر (4) عند تعليقه على رواية علي بن الحسين وقول الترمذي عليها، قال:.. وكأنه لم يقف - أي الترمذي - على تفسير السدي الذي أوردته، وهو أوضح سياقاً وأصح إسناداً إليه، لضعف علي بن زيد بن جدعان ". ولفظ السدي: "بلغنا أن هذه الآية - أي الآية 37 من سورة الأحزاب - نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن
__________
(1) انظر تهذيب التهذيب (6/178) .
(2) في تفسيره، ج22، مجلد 22ـ25، ص 13، ط. الحلبي، 1373هـ.
(3) ابن حجر: الفتح (18/140/ك. التفسير /ب. قوله: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه..".
(4) المصدر نفسه.
??
يزوجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بعدُ بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوَّجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه، فكان يستحيي أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه وأن يتقي الله. وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا: تزوج امرأة ابنه. وكان قد تبنى زيداً".
وهذه الرواية هي الثانية المقبولة عند العلماء في سبب زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وما عدا ذلك فهي روايات ساقطة يجب الإعراض عنها كما قال ابن حجر (1) : "وردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد".
إن سبب زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش هو إرادة الله تعالى إبطال عادة التبني التي كانت سائدة في الجاهلية. فزيد كان متبنى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودُعي بزيد بن محمد. وأقوى وسيلة لإبطال هذه العادة أن يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من مطلقة متبناه (2) . قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (الأحزاب:5] . وقال: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] .
وواضح أن بودلي اعتمد على آرفنج (1) ودرمنجهم (2) في هذه الفرية المتداولة في كتب المستشرقين، كما سبق ذكره.
أما ما ورد من أخبار عن ذرف الرسول صلى الله عليه وسلم الدمع على زيد عندما بلغه خبر استشهاده يوم مؤتة، فلم يكن بسبب تنازل زيد له عن زوجته زينب، بل هو أمر طبعي، لأنه كان حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم له: "يا زيد أنت مولاي ومني وإليَّ وأحب القوم إليَّ" (3) ، وسبق أن ذكرنا رواية البخاري في هذا الصدد. ولم يذرف الدمع عليه وحده حين مات، بل ثبت في الصحيح (4) أنه ذرف الدمع على قادة سرية مؤتة الثلاثة الذين أنبأه الله بخبر استشهادهم واحداً تلو الآخر. وذرفت عيناه عندما جاء إلى بيت جعفر وطلب من زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن تأتيه بأبناء جعفر، فأتته بهم، فشمهم، وذرفت عيناه (5) ؛ وذرفت عيناه عندما جاء كذلك إلى بيت زيد، وقابلته ابنة زيد تجهش بالبكاء (6) .
__________
(1) حياة محمد، ص 177ـ179.
(2) حياة محمد، ص 300ـ303.
(3) ابن سعد (3/44) ، بإسناد حسن كما قال ابن حجر في الإصابة (1/564) ، وقال: هو عند أحمد مطول.
(4) البخاري /الفتح (16/100ـ101/رقم 4262، 4263) .
(5) من رواية الإمام أحمد وابن ماجه كما ذكر الشامي في السبيل (6/241) .
(6) ابن سعد: الطبقات (3/47) ، بإسناد صحيح، رجاله ثقات.
32- يزعم بودلي (1) أن جعفر بن أبي طالب دفن في احتفال عسكري عندما مات، وسار الجيش كله في جنازته، وخطب محمد عليه.. وذرفت عينا محمد الدمع عليه.
هذا الزعم باطل، إذ لم يرد في مصادر السيرة الموثوقة، والذي تذكره المصادر أن جعفراً استشهد في معركة مؤتة، وهي بالشام، دون دمشق، واستشهد معه القائدان الآخران: زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، ونعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب"، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" (2) .
ومن المعروف شرعاً أن الشهداء وقتلى المعارك الجهادية يدفنون حيث استشهدوا أو صرعوا، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في شهداء وقتلى بدر (3) وأحد (4) وحنين (5) وفتح مكة (6) وغيرها (7) .
__________
(1) الرسول، ص 257
(2) البخاري /الفتح (16/100ـ101/رقم 4262، 4263) .
(3) انظر، د. مهدي أحمد: السيرة النبوية، ط2، (1/446) .
(4) ابن ماجه (1/486/ك. الجنائز/ب. ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، وقال السمهودي: وفاء الوفا (3/941) : " رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم، فجاءنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا بدفن القتلى في مصارعهم، فرددناهم، وليحمل على من يبلغوا به المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم ") .
(5) ابن هشام (4/346ـ347) ، من حديث ابن إسحاق بدون إسناد، وفيه استشهاد عروة بن مسعود ودفنه مع شهداء حصار الطائف حسب وصيته.
(6) انظر السيرة لمهدي أحمد.
(7) روى أحمد من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادفنوا القتلى في مصارعهم" المسند (3/308، 398، ورواه غيره كأبي داود (2/108/ك. الجنائز/ب. في الميت يحمل من أرض إلى أرض وكراهة ذلك، النسائي: المجتبى 41/65/ الجنائز / أين يدفن الشهيد) .
وفي رواية للواقدي (1) : "لما التقى الناس بمؤتة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معركتهم، فقال: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة، وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا! فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلى الدنيا! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة،.."، وذكر حال جعفر وابن رواحة عندما تسلما الراية واستشهدا، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي على كل واحد منهم ويدعو له، ويطلب من المسلمين الاستغفار له، ويشهد له بالشهادة والجنة.
والصلاة المشار إليها هنا هي الدعاء، لأن الشهيد لا يستحب الصلاة عليه غائباً أو حاضراً (2) .
ويؤكد هذا رواية عند النسائي والبيهقي عن أبي قتادة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع الناس وصعد المنبر، فأخبرهم باستشهاد القواد الثلاثة واحداً تلو الآخر، ثم أخذ يستغفر لهم (3) ، وليس فيها ذكر الصلاة.
فلعل بودلي وأمثاله استنتجوا من مثل هذه الرواية أن الصلاة عليهم كانت حاضرة، وهي ليست كذلك، وإنما كانت صلاة غائب بالدعاء.
__________
(1) المغازي (2/762) .
(2) انظر: ابن قدامة: المغني (3/442) ، ط2، تحقيق د. التركي.
(3) أورد ذلك الشامي في السبل (6/242) ، وانظره عند الواقدي (2/761) .
ومن السنة كذلك التعجيل بدفن الميت (1) . ومما يؤكد أن المسلمين عملوا بدفنهم في مكان مصرعهم، ما رواه سعيد بن منصور (2) ، من حديث سعيد ابن أبي هلال، الذي نصه: "وبلغني أنهم - أي المسلمين يوم مؤتة - دفنوا يومئذ زيداً وجعفراً وابن رواحة في حفرة واحدة". وقد روى البخاري قصة استشهاد القواد الثلاثة يوم مؤتة بإسناد متصل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه - أحد من شارك في المعركة - وهو إسناد سعيد بن منصور نفسه، ولكن بدون الزيادة المذكورة بلاغاً عند ابن منصور. والبلاغ من أقسام الضعيف عند علماء الحديث، ولكن يشهد لصحة بلاغ سعيد بن أبي هلال ما ثبت في السنة من دفن الشهداء في مكان استشهادهم، جماعةً، وما تؤكده آثار المقابر بالمدينة المنورة، إذ ليس بينها مقابر هؤلاء القادة الثلاثة، ولم يرد خبر يعارض ما ذكرناه.
لم يكن بودلي وحده من بين المستشرقين ممن تخبط في مسألة مكان دفن شهداء مؤتة، فها هو شيخه درمنجهم (3) يزعم أن المسلمين عندما رجعوا من سرية مؤتة حملوا معهم إلى المدينة جثمان جعفر بن أبي طالب. ولعل هذا الزعم هو مصدر بودلي، فزاد عليه ما زاد كعادة بعض المستشرقين.
__________
(1) انظر كتب الفقه، أبواب دفن الميت، أبي داود: السنن (2/178/ك. الجنائز) .
(2) السنن (2/297ـ298/رقم 2835) ، وانظر: ابن حجر: الفتح (16/98/ رقم 4260) ، وقد أشار إلى رواية سعيد بن أبي هلال عند ابن منصور، ولم ينكرها.
(3) حياة محمد، ص 346. وهكذا فعمدة بودلي هو درمنجهم في كثير من المسائل، وليس مصادر الإسلام الموثوقة. وهذه الثقة العمياء في شيخه وتقريراته، هي التي أفسدت عليه كتابه، وجعلته مشحوناً بالمزاعم والأخطاء التي يعرفها صغار طلاب العلم.
إن دفن الموتى من العظماء في مواكب واحتفالات عسكرية موسيقية من عادات أهل زماننا المعاصر. وكأني ببودلي قد أسقط مفاهيم زمانه على أحداث زمان عصر النبوة، وذلك بعد تخيله ما يمكن أن يحدث بعد موت أولئك العظماء. والإسقاط ظاهرة عند المستشرقين.
33- يزعم بودلي (1) أن أغلبية المسلمين تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
وهذا زعم باطل، والعكس هو الصحيح. ففي رواية لمسلم (2) أنهم يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم ديوان حافظ، وفي رواية أخرى له: المسلمون مع رسول الله كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد بذلك الديوان (3) . وقال ابن حجر (4) :"وللحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفاً؛ بهذا العدد جزم ابن إسحاق"، وفي روايتين للواقدي (5) : أنهم كانوا ثلاثين ألفاً، ونقل ابن حجر (6) عن أبي زرعة الرازي أنهم كانوا أربعين ألفاً. وعند ابن أبي خيثمة (7)
__________
(1) الرسول، ص 276.
(2) صحيحه (4/2129/رقم 2769) .
(3) المصدر نفسه (4/2121/رقم 2769) .
(4) الفتح (16/242) . قلت: ولا توجد رواية ابن إسحاق في المطبوع المتداول بين أيدينا. انظر في هذا: السندي: الذهب المسبوك في مرويات غزوة تبوك، ص 178.
(5) المغازي (3/996) ، بإسناد متصل، و (3/1002) ، بإسناد له عن شيوخه، وهما عند ابن سعد في الطبقات (2/166) ، من رواية شيخه الواقدي.
(6) الفتح (16/242) .
(7) تاريخه، ج5، ص 123.
من حديث أبي زرعة الرازي أنهم كانوا سبعين ألفاً.
والمشهور أن جيش تبوك كان ثلاثين ألفاً، وهو ما اتفق عليه أئمة المغازي والسير: ابن إسحاق وابن سعد والواقدي، ولا يعارض ما جاء في الصحيح؛ لأنَّ رواية مسلم لم تجزم بعدد معين، بل قالت إنهم كانوا كثيرين، يزيدون على العشرة آلاف.
وقد اختار درمنجهم (1) أحد مراجع بودلي الأساسية ـ الرواية المتفق عليها عند أهل المغازي والسير.
فهل مثل هذا العدد يعد أقلية مقارنة بعدد القادرين على حمل السلاح من الصحابة من أهل المدينة وما حولها؟!
ثم إن المصادر تشير إلى أن من تخلف عن تبوك عدد من الأعراب والمنافقين، وعدد قليل جداً من الصحابة المؤمنين من أهل الأعذار الشرعية، وثلاثة ممن لم يكن لهم عذر عن التخلف في الجهاد، وهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع. وقد أشار القرآن الكريم إليهم في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118] .
وروى البخاري (2) ومسلم (3) قصتهم من حديث كعب بن مالك
__________
(1) حياة محمد، ص 346.
(2) الفتح (16/241ـ252/رقم 4418) .
(3) صحيحه (4/ 2120ـ 2128/رقم 2769) .
الطويل. وجاء في حديث كعب أن الذين تخلفوا كانوا بضعة وثمانين رجلاً، اعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم عن تخلفهم، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووَكَلَ سرائرهم إلى الله، ويتطابق هذا العدد مع ما ذكره الواقدي (1) ، وزاد الواقدي بأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضاً اثنين وثمانين رجلاً من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي بن سلول - زعيم المنافقين - ومن تابعه من قومه كانوا من غير هؤلاء.
يبدو أن بودلي وغيره استند في زعمه بأن أغلبية المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك إلى ما ذكره الواقدي (2) من أن عدد الذين تابعوا عبد الله بن أبي من قومه في عدم الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا عدداً كثيراً، وروى هو وابن سعد (3) وابن إسحاق (4) أن ابن أبي خرج حتى وصل جبل ذياب بالمدينة ومعه حلفاؤه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكر ابن أبي بأقل العسكرين، فلما سار الرسول صلى الله عليه وسلم تخلف عنه فيمن تخلف من المنافقين. وكل هذا لم يثبت بطرق صحيحة. فقد روى ابن إسحاق والواقدي وابن سعد هذه الجزئية بصيغة التمريض، مما يدل على عدم قبولهم لهذه الرواية. ولهم أن يشكوا فيها، وبخاصة ذكر اليهود بهذا العدد الذي لا يتفق مع منطق الأحداث التاريخية التي وقعت بين اليهود والمسلمين. فالمشهور الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج يهود بني
__________
(1) المغازي (3/995) .
(2) الطبقات (2/165) ، مكن حديث الواقدي.
(3) المصدر والمكان نفسه.
(4) ابن هشام (4/219) ،