ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه -صلى الله عليه وسلم
__________
بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت, "تنبيه" إيقاظ.
"زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن, "وأظهر تأثيرًا, والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة, ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة, "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت, والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق, والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان, "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف, شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق, فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج", وسبقه إلى معناه الجنيد, وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم.
"المقصد العاشر: الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته" متعلق بإتمامه, "ونقلته إلى حظيرة" بظاء معجمة مشالة "قدسة" أي: الجنة لديه, أي: عنده, وهذا عطف مسبب على سبب -صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره مقرّ الميت, وأصله مصدر قَبَرَه إذا دفنه, وهو هنا بمعنى المقبور فيه, "الشريف" شرفًا ما
وزيارة قبره الشريف, ومسجده المنيف, وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم, والدرجات العليات, وتشريفه بخصائص الزلفى في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين, وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود, وانفراده بالسؤدد في مجمع مجامع الأولين والآخرين, وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة, وتعاليه في يوم المزيد أعلى الحسنى وزيادة.
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول:
اعلم -وصلنى الله وإياك بحبل تأييده, وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان, ويجلب الفجائع
__________
ناله مكان سواه؛ بحيث كان أفضل الباقع بإجماع, "ومسجده المنيف" المرتفع في الشرف على غيره حتى المسجد الحرام أو إلا المسجد الحرام على القولين، "وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات" جمع أوله، أي: بالأمور التي يتقدم وصفه بها على جميع الخلق، ككونه أول من تنشق عنه الأرض, وأول شافع وأول مشفع, وأول من يقرع باب الجنة، وقال شيخنا: أي بفضائل الأمم المتقدمة مع أنبيائهم، أي: إنه جمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، فكان في ذلك المشهد أتَمَّ الناس فضيلة وأكملهم. انتهى.
وتعسفه لا يخفى "الجامعة لمزايا" فضائل "التكريم والدرجات" المراتب "العليات, وتشريفه بخصائص الزلفى" فعلى من أزلف، أي: القربى "في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين, وتحميده بالشفاعة" العظمى العامة "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه لها فيحمده الأولون والآخرون، ولا شكَّ أنه مغاير لها وإن احتوى عليها, "وانفراده بالسؤدد" بضم السين وبالهمز- أي: السيادة، أي: المجد والشرف "في مجمع" بكسر الميم وفتحها- مفرد "مجامع", يطلق على الجمع وعلى موضع الاجتماع كما في المصباح, "الأولين والآخرين, وترقِّيه في جنة عدن" إقامة, "أرقى" أي: أعلى "مدارج" جمع درجة، وفي نسخة: معارج جمع معرج ومعراج, "السعادة" أي: أعلى مراتبها, وتعاليه في يوم المزيد" وهو يوم الجمعة في الجنة.
كما رواه الشافعي كما مرَّ في الجمعة "أعلى معالى الحسنى" الجنة, وزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "وفيه ثلثة فصول".
الفصل الأول: "اعلم وصلني الله وإياك بحبل تأييده, وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده" بسين مهملة "أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان, ويجلب
لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان.
ولما كان الموت مكروهًا بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقَّة العظيمة، لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر.
وأوّل ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعدّ للنقلة إلينا.
وقد قيل: إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو -صلى الله عليه وسلم- بمنى في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل. سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.
__________
الفجائع" أي: الآلام, "لإثارة الأحزان" بسبب فقد رؤيته -عليه الصلاة والسلام, ويلهب نيران الموجدة" الحزن على أكباد ذوي الإيمان, ولما كان الموت مكروهًا بالطبع لما فيه من الشدة والمشقّة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر" بضم الياء وفتح الخاء المعجمة كما في الصحيح من حديث عائشة، ويأتي في المتن: أوَّل ما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة, "فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد, ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا" جماعات, "فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ، لكلّ ما أمر بتبليغه "وما عندنا خير لك من الدنيا" كما قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية "فاستعدّ للنقلة إلينا، وقد قيل: إن هذ السورة آخر سورة نزلت يوم النحر وهو -صلى الله عليه وسلم- بمِنَى في حجة الوداع" ولذا خطب وودَّع الناس كما مَرَّ في الحج.
"وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يومًا" إن كان قائل هذا يقول: نزلت يوم النحر, فلا يستقيم هذا العد إلّا على القول أنه توفي في ثاني ربيع الأول وأوّل يوم منه، أمَّا على قول الجمهور أنه توفي ثاني عشر ربيع الأوّل, فيكون عاش بعدها ثلاثًا وتسعين يومًا, والأقوال الثلاثة مَرَّت للمصنف في آخر المقصد الأول.
"وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليالٍ" بفوقية فمهملة, "وعن مقاتل: سبعًا" بسين قبل الموحدة, "وعن بعضهم: ثلاثًا, ولأبي يعلى" بإسناد ضعيف "من حديث
ولأبي يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجّة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع.
وفي حديث ابن عباس، عند الدارمي: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال: "نعيت إليّ نفسي" فبكت، قال: "لا تبكي، فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت. الحديث.
وروى الطبراني من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمره الآخرة.
وللطبراني أيضًا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "نعيت إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] .
__________
ابن عمر, نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجَّة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع" فركب راحلته واجتمع الناس إليه فخطب, الحديث. وعلى تقدير صحة جميع هذه الأقوال، فيحتمل أن الرواة اختلف وقت سماعهم، فمنهم من سمعها قبل وفاته بإحدى وثمانين, ومنهم بتسع ليالٍ، وهكذا فكل أخبر عن وقت سماعه ظنًّا أنه وقت نزولها.
"وفي حديث ابن عباس عند الدارمي: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال" لها حين جاءته، وفي نسخة: قال بلا واو، أي: فلمَّا جاءته قال: "نعيت إلي نفسي" ببناء نعيت للمجهول, "فبكت" أسفًا عليه, "قال: "لا تبك" وفي نسخة: لا تبكي بالياء للإشباع, "فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت..... الحديث" وهو دالّ للقول بنزولها قبل موته بتسع أو سبع أو ثلاث لما في الصحيح, أنه دعا فاطمة في مرض موته, فسارَّها فبكت, ثُمَّ سارَّها فضحكت, إن فسرنا ما سارَّها به بنزول سورة النصر.
"وروى الطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت -بضم النون- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بشأن ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة" أي: أخذ باجتهاد أشد من الاجتهاد الذي كان يجتهده قبل, "وللطبراني أيضًا من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "نعيت" بفتح النون وتاء الخطاب، أو بضمها مبني للمفعول, "إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية. أي: الدنيا.
وروي في حديث ذكره ابن رجب في "اللطائف" أنه تعبَّد حتى صار كالشن البالي.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام, فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار.
وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم, فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا في
__________
"وروي في حديث ذكره ابن رجب في اللطائف أنه -صلى الله عليه وسلم- تعبَّد حتى صار كالشن" بفتح المعجمة وشد النون- الجلد البالي، فجرد عن بعض معناه فاستعمله في الجلد بلا قيد، فوصفه بقوله: "البالي" والله أعلم بحال هذا الحديث.
فإن المفهوم من الأحاديث الصحيحة أنَّه لم يصل إلى هذه الحالة, وإن زاد في العبادة إلى الغاية, "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعرض" بفتح الياء وكسر الراء- يدارس "القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين" في رمضان, كما في الصحيحين في حديث عائشة عن فاطمة "أسرَّ إلي أن جبريل كان يعراضني القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضني الآن مرتين, ولا أراه إلا حضر أجلي"، وفي رواية للشيخين أيضًا بالجزم, ولفظه: فقالت: سارَّني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت..... الحديث. وهو يرد على قوله أولًا أنَّ أول علمه بانقضاء أجله نزول سورة النصر، فإنها نزلت يوم النحر على أبعد ما قيل, والعرض في رمضان الذي قبله, إلّا أن يقال: الإعلام من سورة النصر ظاهر للأمر بالتسبيح والاستغفار، وقول جبريل له: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] . بخلاف معارضة جبريل, فليس فيها إفصاح بقرب أجله، لكنه فهمه من مخالفة عادته؛ حيث كرره مرتين, أو أنه لما تأخر تحديث فاطمة بهذا حتى مات, لم يعلم منه أنه أوّل ما أعلم به, والذي ظهر الإعلام به أولًا إنما هو سورة النصر "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام, فاعتكف في ذلك العام" الذي قُبِضَ فيه عشرين, وأكْثَرَ من الذكر والاستغفار"؛ لعلمه بانقضاء أجله, والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية, فيكون العشر الوسط منها، ولما عارضه مرتين اعتكف مثلي ما كان يعتكف.
"وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده, أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم" سمته دعاء نظرًا لقوله: "استغفر الله"..... إلخ.
أمتي، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره" ثم تلا هذه السورة. رواه ابن جرير وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه.
وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين؛ كالمودع للأحياء واللأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني لست أخشى
__________
فغلبت أو أرادت بالدعاء ما فيه ثناء على الله, سواء كان فيه طلب أم لا, "فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا" بفتحتين- دليلًا "في أمتي" على وفاتي, "وأني" أي: وأمرني أني "إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره"، ثم تلا هذه السورة" يعني: وقد رأيته.
"رواه ابن جرير" محمد الطبري "وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق" بن الأجدع "عن عائشة نحوه" أي: نحو حديث أم سلمة, "وروى الشيخان من حديث عقبة" بالقاف "ابن عامر" الجهني "قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أُحد" زاد في رواية للشيخين: صلاته على الميت، أي: مثل صلاته، والمراد: إنه دعا لهم بدعاء صلاة الميت؛ كقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} لا أنه صلى عليهم الصلاة المعهودة على الميت؛ للإجماع على أنه لا يصلى على القبر, "بعد ثمان سنين" فيه تجوّز، لأن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق, والوفاة النبوية في ربيع الأول سنة إحدى عشرة, فيكون سبع سنين ودون النصف, فهو من جبر الكسر, "كالمودّع للأحياء والأموات" بصلاته على أهل أُحد، وخرج إليهم كما في رواية في الصحيح: خرج يومًا فصلى على أهل أُحد، ثم انصرف "ثم طلع المنبر" كالمودِّع للأحياء والأموات "فقال: "إني بين أيديكم فرط" بفتح الفاء والراء- المتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها، أي: أنا سابقكم إلى الحوض كالمهييء له لأجلكم, وفيه إشارة إلى قرب وفاته وتقدّمه على أصحابه, "وأنا عليكم شهيد" أشهد بأعمالكم، فكأنه باقٍ معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم, فهو قائم بأمرهم في الدَّارين في حال حياته وموته.
وعند البزار بسند جيد عن ابن مسعود رفعه: "حياتي خير لكم, ومماتي خير لكم, تعرض علي أعمالكم, فما كان من حسن حمدت الله عليه, وما كان من سييء استغفرت الله لكم" , "وإن موعدكم الحوض" يوم القيامة, "وإني" زاد في رواية: والله "لأنظر إليه" نظرًا حقيقيًّا "وأنا في مقامي" بفتح الميم "هذا" الذي أنا قائم فيه، فهو على ظاهره, وكأنه كُشِفَ له عنه في تلك الحالة، قاله الحافظ وغيره، ويقويه رواية في الصحيح: "إني والله لأنظر إلى حوضي الآن"، قال المصنف وغيره: فيه أن الحوض على الحقيقة, وأنه مخلوق موجود الآن, "وإني قد أعطيت
عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها".
وزاد بعضهم: "فتقتتلوا, فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم".
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: "إن عبدًا خيِّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء, وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخَيِّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
__________
مفاتيح خزائن الأرض" فيه إشارة إلى ما فتح لأمته من الملك والخزائن من بعده, "وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي" أي: لا أخاف على جميعكم الإشراك, بل على مجموعكم؛ لأنه قد وقع من بعضهم بعده, "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا" بحذف إحدى التاءين, "فيها" أي: الدنيا بدل اشتمال مما قبله، والمنافسة في الشيء الرغبة فيه وحب الانفراد به, "وزاد بعضهم" أي: الرواة "فتقتتلوا على المنافسة, فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" وقد وقع ما قاله -صلى الله عليه وسلم, ففتحت على أمته بعده الفتوح, وصبّت عليهم الدنيا صبًّا, وتحاسدوا وتقاتلوا, وكان ما كان، ولم يزل الأمر في ازدياد.
"وعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر" قبل موته بخمس كما يأتي، وفي رواية: خطب الناس "فقال: "إن عبدًا خيِّره الله" من التخيير "بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا" زينتها "ما شاء" أن يؤتيه منها، وفي نسخة: زهرة بدون من، لكن الذي في البخاري من، وفي مسلم: بدونها, لكن لم يقل ما شاء, "وبين ما عنده" في الآخرة, "فاختار" ذلك العبد "ما عنده"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله, فديناك بآبائنا وأمهاتنا".
قال أبو سعيد: "فعجبنا له", وفي رواية: لبكائه, وقال الناس" متعجبين من تفديته؛ لأنهم لم يفهموا المناسبة بين الكلامين: "انظروا إلى هذا الشيخ, يخبر رسول الله " بالرفع فاعل يخبر "صلى الله عليه وسلم عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة".
كذا في نسخ، وفي آخرى: من, وهو في الصحيح من زهرة "الدنيا ما شاء, وبين ما عنده, وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا", وللبخاري في الصلاة: فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خُيِّرَ عبدًا بين..... إلخ، وجمع الحافظ، بأنَّ أبا سعيد حدَّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره به فنقل جميع ذلك.
"قال" أبو سعيد: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخَيَّر" بفتح التحتية المشددة والنصب
"إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت إلّا خوخة أبي بكر" رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم.
__________
خبر كان, ولفظة: هو, ضمير فصل، ورواه أبو ذر بالرفع خبر المبتدأ، أعنى: هو, والجملة في موضع نصب خبر كان, "وكان أبو بكر أعلمنا به" أي: بالنبي -صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور, فبكى حزنًا على فراقه, "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:" زاد في رواية للبخاري: "يا أبا بكر لا تبك" , "إن أمَنَّ الناس" بفتح الهمزة والميم وشد النون، أي: أكثرهم مِنَّة, "عليَّ في صحبته وماله أبو بكر" أفعل تفضيل من المنِّ بمعنى العطاء والبذل، يعني: إن أبذل الناس لنفسه وماله لا من المانية التي تفسد الصنيعة، وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المانية، وقال: تقديره: لو توجه لأحد الامتنان علي لتوجّه لأبي بكر والأول أَوْلَى، قاله الحافظ, "ولو كنت متخذًا" وقوله: من أهل الأرض, ليس في الصحيحين في حديث أبي سعيد وإنما في البخاري في حديثه في بعض طرقه "من أمتي"، وفي روايات له بدونها, نعم لفظ من أهل الأرض.
رواه مسلم، لكن من حديث ابن مسعود لا من حديث أي: سعيد, "خليلًا" أرجع إليه في المهمات, وأعتمد عليه في الحاجات, وفي رواية للبخاري: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا"؛ لأنه أهلٌ لذلك لولا المانع، فإن خِلّة الله لا تسع مخالة شيء غيره أصلًا, "ولكن أخوة" بالرفع "الإسلام" جامعة بيني وبينه، ولتمامها: صرت معه لأخ، زاد في راية: ومودته أي: الإسلام.
وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "ولكن أخوة الإسلام أفضل" واستشكل بأن الخلة أفضل من أخوة الإسلام, فإنها تستلزمها وزيادة، وأجيب بأن أفضل بمعنى فاضل، وبأنَّ المراد مودة الإسلام مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من مودته مع غيره, ولا يعكر عليه اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة مع أبي بكر؛ لأن رجحانه عليهم عُلِمَ من غير هذا, وأخوة الإسلام ومودته متقاربة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أكثره وأعظمه "لا يبقى" الذي في البخاري: في أزيد من موضع كمسلم لا يبقين.
قال الحافظ وغيره: بفتح أوله ونون التوكيد الثقيلة, "في المسجد خوخة" بمعجمتين- باب صغير, ونسبة النهي إليها تجوّز؛ لأن عدم بقائها لازم للنهي عن إبقائها, وكأنه قال: لا تبقوها حتى تبقى، وقد رواه بعضهم بضم أوله وهو واضح، وكانوا قد اتخذوا في ديارهم أبوابًا صغارًا إلى المسجد، فأمر -صلى الله عليه وسلم- بسدِّها كلها, "إلا خوخة أبي بكر" إكرامًا له وتنبيهًا على أنه الخليفة بعده, أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب المقالة دون التطرق والتطلع إليها، رجَّحه
ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليالٍ.
وكأنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- فهم الرمز الذي أشار به النبي -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى.
وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنَّه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" , وطفق
__________
التوربشتي بأنه لم يصح عنده أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد, وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة، وردَّه الحافظ بأنه استدلال ضعيف؛ إذ لا يلزم من كونه بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس باتفاق, وأم رومان على القول, بأنها كانت باقية يومئذ.
وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أنَّ دار أبي بكر الذي أذَّن له في إبقاء الخوخة فيها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد, ولم تزل بيده حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض مَن وفد عليه، فباعها لام المؤمنين حفصة بأربعة آلاف درهم.
"رواه البخاري" في موضعٍ "ومسلم" في الفضائل, "ولمسلم من حديث جندب: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" هذا بقية الحديث في مسلم، فليس بالمراد بقول ما مَرَّ من قوله: "إن عبدًا" كما زعم من لم يقف على شيء، قال الحافظ: قد تواردت الأحاديث على نفي الخلة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد.
وأمَّا ما روي عن أُبَيّ بن كعب: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمسٍ دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلّا وقد اتخذ من أمته خليلًا, وإن خليلي أبو بكر, ألا وإن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا".
أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، فمعارض بحديث جندب المذكور، فإن ثبت حديث أُبَيّ أمكن الجمع بينهما بأنها لما برئ من ذلك تواضعًا لربه وإعظامًا له, أذن الله تعالى له فيه في ذلك اليوم لما رأى من تشوّقه إليه, وإكرامًا لأبي بكر بذلك, فلا يتنافى الخبر أن أشار إليه المحب الطبري.
وروي عن أبي أمامة نحو حديث أُبَيّ دون التقييد بالخمس, أخرجه الواحدي في تفسيره, والخبران واهيان, وكأن أبا بكر -رضي الله عنه- فهم الرمز" أي: الإشارة "الذي أشار به -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته, فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى" أسفًا وحزنًا "وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال
يودع الناس، فقالوا: هذا حجة الوداع.
فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى "خما" في طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: "أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حضَّ على التمسك بكتاب الله, ووصَّى بأهل بيته.
قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه -عليه السلام- في آخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور.
وكانت خطبته التي خطب بها المذكور في حديث أبي سعيد الذي قدمته في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر, فاستوى عليه فقال: "والذي نفسي بيده، إني
__________
للناس: "خذوا عني مناسككم" احفظوها واعملوا بها, "فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" , وطفق أي: شرع "يودّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من حجِّه" أي: شرع في الرجوع "إلى المدينة" ليلًا في قوله: "جمع الناس بماء يدعى" يسمَّى "خُمّا" بضم الخاء المعجمة وشد الميم- غدير في طريقه بين مكة والمدينة" على ثلاثة أيام من الجحفة, يقال له: غدير خم, "فخطبهم وقال" بعد أن حمد الله وأثنى عليه، ووعظ, وذكر كما في مسلم: "أيها الناس" الحاضرون أو أعمّ, "إنما أنا بشر" وقوله: "مثلكم" ليست في مسلم, ولا في نقل السيوطي عنه, وعن أحمد وعبد بن حميد، فكأن كتابها سبقه قلمه لحفظ القرآن, "يوشك" يقرب "أن يأتيني رسول ربي" يعني: ملك الموت, "فأجيب" اي: أموت, كنَّى عني بالإجابة إشارةً إلى أنه ينبغي تلقيه بالقبول, كأنه يجيب إليه باختياره, ثم حضَّ على التمسط بكتاب الله" القرآن "ووصَّى بأهل بيته" ومَرَّ الحديث في مقصد المحبة السابع.
"قال الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي: "وكان ابتداء مرضه -عليه السلام- في آخر شهر صفر" يوم الاثنين أو السبت أو الأربعاء كما يأتي, "وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور" يأتي مقابله قريبًا, "وكانت خطبته التي خطب بها المذكورة في حديث أبي سعيد الذي قدمته" آنفًا "في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في المسجد وهو معصوب الرأس بخرقة" من الصداع "حتى أهوى" ارتفع صاعدًا إلى المنبر, فاستوى" جلس "عليه، فقال: "والذي نفسي بيده" قسم كان يقسم به كثيرًا, وفيه الحلف على الأمر المحقق من
لأنظر إلى الحوض في مقامي هذا" ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا" إلخ، ثم هبط عنه, فما رؤي عليه حتى الساعة.
فلمَّا عرَّض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء، ولم يصرّح خفي المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم, فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى, وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر؛ ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته, فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" رضي الله عنه, ثم قال -صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا من أهل الأرض
__________
غير استخلاف لمزيد التأكيد, "إني لأنظر إلى الحوض" نظرًا حقيقيًّا "في مقامي" بفتح الميم "هذا"، ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا إلى آخره" , بقيته: "وزينتها, فاختار الآخرة" فلم يفطن لها غير أبي بكر فذرفت عيناه، فبكى ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأولادنا وأموالنا يا رسول الله, ثم هبط عنه" نزل عن المنبر "فما رؤي عليه" بضم الراء وهمزة مكسورة وفتح الياء, وبكسر الراء ومد الهمزة "حتى الساعة" أي: فما قام عليه بعد في حياته, والمراد بالساعة القيامة، قاله المصنف: فلمَّا عرض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء" في الدنيا, "ولم يصرحّ, خفي المعنى على كثير ممن سمع" كلامه, ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به" زيادة على غيره {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أحد الاثنين, والآخر أبو بكر {إِذْ} بدل من إذ قبله {هُمَا فِي الْغَارِ} ثقب في جبل ثور، "وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم, فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جزعه" ضعف قوته وعدم صبره على ما حلَّ به "وأخذ في مدحه والثناء عليه" عطف مساوٍ "على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر".
وفي رواية في الصحيح أيضًا: "إن من أمَنِّ الناس" فقيل من زائدة على رأي الكسائي فلا خلف، أو يحمل على أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية, لكنه مقدَّم في ذلك, بدليل السياق المتقدم والمتأخر، ويؤيده حديث أبي هريرة عند الترمذي: "ما لأحد عندنا يد إلّا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة"، فدلَّ ذلك على ثبوت يد لغيره, إلّا أن لأبي بكر رجحانًا، وحاصله: إنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه "ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا" زاد في رواية: غير ربي
خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام"، لما كان -صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوفًا, فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح, ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلًا
أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت, إلا خوخة أبي بكر" إشارةً إلى أنَّ أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر -رضي الله عنه، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول: "مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" فولّاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا, أفلا
__________
"لاتخذت أبا بكر خليلًا, ولكن أخوة الإسلام" أي: حاصلة، وتقدَّم أن لفظ: من أهل الأرض, ليس في الصحيحين, ولا أحدهما من حديث أبي سعيد، وإنما في بعض طرقه عند البخاري: من أمتي، وإن لفظ من أهل الأرض إنما رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله" "لما كان -صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أنه يخالل مخلوقًا، فإن الخليل مَنْ جرت محبة خليله منه مجرى الروح, ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل".
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
ومَرَّ الخلاف في مقصد المحبة: هل هي والخلة متساويان, أو المحبة أرفع, أو الخلة, "أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يبقي في المسجد خوخة إلّا" خوخة "سدت" فحذف المستثنى والفعل صفته، لكن لم يقع في الصحيحين بهذا اللفظ, فإنه إنما وقع في بعض طرقه عند البخاري: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر".
أما رواية: خوخة, فليس فيها إلّا سدت, وإنما فيهما كما مَرَّ: "لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره, وذلك من مصالح المسلمين المصلين" فإبقاؤها مصلحة عامّة, "ثم أكَّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول: "مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" والمراجع له عائشة وحفصة كما يأتي, "فولَّاه إمامة الصلاة".
نرضاه لدنيانا.
__________
"ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا" أي: الصلاة؛ لأنها عماد الدين, "أفلا نرضاه لدنيانا", وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه الخلافة، لا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمَّهم إلّا أبو بكر، قاله الخطابي وابن بطال وغيرهما, وجاء في سد الأبواب أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب، فلأحمد والنسائي بإسنادٍ قوي عن سعد بن أبي وقاص: أمر -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي.
زاد الطبراني في الأوسط برجال ثقاتٍ فقالوا: يا رسول الله, سددت أبوابنا، فقال: "ما سددتها, ولكن الله سدها"، ولأحمد والنسائي والحاكم برجال ثقاتٍ عن زيد بن أرقم: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال -صلى الله عليه وسلم: "سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي"، فتكلم ناس في ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما سدت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته".
وعند أحمد والنسائي برجالٍ ثقات عن ابن عباس: أمر -صلى الله عليه وسلم- بأبواب المسجد فسدت غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب, ليس له طريق غيره، وللطبراني عن جابر بن سمرة: "أمَرَّ -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مَرَّ فيه وهو جنب", ولأحمد بإسناد حسن عن ابن عمر: لقد أعطي علي ثلاث خصال، لأن تكون لي واحدة منهن أحبَّ إلي من حمر النعم، زوَّجه -صلى الله عليه وسلم- ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر، وهذه أحاديث يقوي بعضها بعضًا, وكل طريق منها صالح للحجة فضلًا عن جموعها.
وأوردها ابن الجوزي في الموضوعات, وأعلها بما لا يقدح, وبمخالفتها للأحاديث الصحيحة في باب أبي بكر، وزعم أنها من وضع الرافضة, قابلوا بها الحديث الصحيح، فأخطأ في ذلك خطأ شنيعًا فاحشًا، فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة, مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، كما أشار إليه البزار بما دلَّ عليه حديث أبي سعيد عند الترمذي, أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبًا غيري وغيرك" , والمعنى: إن باب علي كان إلى جهة المسجد, ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدِّه، ويؤيده ما أخرجه إسماعيل القاضي عن المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن لأحد أن يمرَّ في المسجد وهو جنب إلّا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد، ومحصّل الجمع أنه أمر بسد الأبواب مرتين، ففي الأولى استثنى باب علي لما ذكر، وفي الأخرى باب أبي بكر، لكن إنما يتمّ بحمل باب علي على الباب الحقيقي وباب أبي بكر على المجازي، أي: الخوخة -كما في بعض طرقه, وكأنهم لما أمروا بسدها سدوها وأحدثوا خوخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأمروا بعد ذلك بسدها، فهذا لا بأس به في الجمع، وبه جمع الطحاوي والكلاباذي, وصرَّح بأن بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد, وخوخة إلى داخل المسجد, وبيت علي لم يكن له باب إلّا من
وكان ابتداء مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة، كما ثبت في رواية معمر عن الزهري، وفي سيرة أبي معشر: كان في بيت زينب بنت جحش، وفي سيرة سليمان التيمي: كان في بيت ريحانة، والأوّل هو المعتمد.
وذكر الخطابي أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا -كما مَرَّ, وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما في الروضة، وصدَّر بالثاني، وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح.
وفي البخاري قالت عائشة: لما ثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم, واشتدَّ به وجعه, استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي فأذِنَّ له، فخرج وهو بين رجلين تخطّ رجلاه في
__________
داخل المسجد. انتهى، ملخصًا من فتح الباري.
"وكان ابتداء" اشتداد "مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة, كما ثبت في رواية معمر عن الزهري" عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة: أوّل ما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة. الحديث في الصحيحين، وأما ابتداؤه الحقيقيّ فكان في بيت عائشة كما يأتي "وفي سيرة أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن، "كان في بيت زينب بنت جحش, وفي سيرة سليمان التيمي, كان في بيت ريحانة, والأوّل" بيت ميمونة "هو المعتمد" كما قال الحافظ؛ لأنه الذي في الصحيحين مسندًا.
"وذكر الخطابي أنه ابتدأ به" المرض, "يوم الاثنين، وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد" شيخ الحاكم أبي عبد الله "يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا" وهو المشهور "كما مَرَّ، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما" أي: القولين "في الروضة, وصدَّر بالثاني" الذي هو اثنا عشر, "وقيل: عشرة أيام, وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه, وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح" عنه، وجمع شيخنا بجواز اختلاف أحواله في ابتداء مرضه، فذكر كلّ منهم اليوم الذي علم بحصول ما رآه من حاله وشدة مرضه التي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة: كانت سبعة أيام على ما يأتي, وما زاد عليها قبل اشتداده الذي انقطع به -صلى الله عليه وسلم.
"وفي البخاري" ومسلم "قالت عائشة: لما ثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم, واشتد به وجعه" عطف تفسير, يقال: ثقل مرضه إذا اشتدَّ وركضت أعضاؤه عن الحركة، قال عياض: العرب تسمي كل مرض وجعًا "استأذن أزواجه في أن يمرَّض" بضم أوله وفتح الميم وشد الراء "في بيتي, فأذِنَّ -بفتح الهمزة وكسر المعجمة وشد النون- أي: الأزواج له -صلى الله عليه وسلم.
الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة فقال لي عبد الله ابن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب. الحديث.
وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العبّاس ورجل آخر.
وفي أخرى: بين رجلين أحدهما أسامة. وعند الدارقطني: أسامة والفضل، وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو ثم موحدة, قيل: وهو اسم أمة، وقيل: هو عبد, وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان.
__________
قال الكرماني: وروي -بضم الهمزة وكسر الذال وخفة النون- مبني للمجهول "فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض" أي: لا يقدر على تمكينها منها لشدة مرضه, "بين عباس بن عبد المطلب" عمه "وبين رجل آخر، قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها- ابن عتبة -بضمها وإسكان الفوقية- راوي الحديث عن عائشة "فأخبرت عبد الله" ابن عباس مستفهمًا للعرض عليه "بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة".
وفي رواية للشيخين: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدَّثتني عائشة عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: هات, فعرضت عليه حديثها, فما أنكر منه شيئًا، غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس, "قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب" زاد الإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب له نفسًا بخير، وعند ابن إسحاق: ولكن لا تقدر أن تذكره بخير. انتهى.
وذلك لما جبل عليه الطبع البشري، فلا إزراء في ذلك عليها ولا على علي -رضي الله عنهما...... "الحديث".
"وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس" أكبر ولده "ورجل آخر" هو علي -كما في بقية هذه الرواية أيضًا.
"وفي " رواية "أخرى" لغير مسلم كما في شروحه "بين رجلين، أحدهما أسامة بن زيد "وعند الدارقطني أسامة والفضل" بن عباس "وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو، ثم موحدة- كما ضبط ابن ماكولا, "قيل: وهو اسم أمة" واحدة الإماء "وقيل: هو عبد " أسود ذكر, وبه جزم سيف، ويؤيده رواية ابن خزيمة: فخرج بين بريرة ورجل آخر, فوهم من ذكر نوبة في النساء الصحابيات، قاله الحافظ.
"وعند ابن سعد" محمد "من وجه آخر بين الفضل وثوبان" بمثلثة مولاه -صلى الله عليه وسلم, "وجمعوا
وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدّد، فتعدد من اتكأ عليه.
وعن عائشة -رضي الله عنها، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور في بيوتكنّ، فإن شئتنّ أذنتنّ لي" رواه أحمد.
وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدا؟ " يريد يوم عائشة, حرصًا على أن يكون في بيت عائشة.
وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري: إن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك, فقالت لهنَّ: إنه يشق عليه الاختلاف.
وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة, أن دخوله -عليه الصلاة والسلام- بيتها كان يوم الإثنين، وموته يوم الإثنين الذي يليه.
وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين أكون أنا غدًا"،
__________
بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأنَّ خروجه تعدَّد، فتعدد من اتكأ عليه" وهو أَوْلَى ممن قال: تناوبوا في صلاة واحدة، هذا بقية ما ذكره الحافظ هنا في الوفاة.
"وعن عائشة -رضي الله عنها, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور" أطوف عليكن "في بيوتكنّ، فإن شئتن أذنتنَّ لي" في أن أكون في بيت عائشة "رواه أحمد" وفيه مزيد لطفه وحسن عشرته، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بأنه لا يستط