«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ «مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ «قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ «يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ «الشَّاكِرِينَ.»
(القرآن الكريم، السورة 3، الآية 143)
منذ أن عاد الرسول من حجة الوداع، بعد ان بشّر بإكمال الدين وأدّى رسالته الأخيرة، وهو يتوقع كل لحظة أن يلقى وجه ربّه.
وفي أواخر صفر، من السنة الحادية عشرة للهجرة، اعتل ومرض.
وكان قد أمر قبل ذلك بتجهيز جيش [عرم] إلى تخوم الشام، تحت إمرة اسامة بن زيد، الذي استشهد أبوه في ذلك الموطن نفسه، في مؤتة. وعلى الرغم من مرض الرسول دفع الراية بنفسه إلى أسامة،
وانضوى رجال عظام من مثل ابي بكر وعمر تحت لوائه كجنود عاديين. وإنما قصد بذلك إلى ان يؤكد، عشية مفارقته الحياة الأرضية، مبدأ المساواة بين البشر. وعسكر الجيش [في الجرف] خارج المدينة، ولكن اشتداد المرض بالرسول حال دون مسيره. ودعا الرسول نساءه واستأذنهن أن يمرّض في بيت عائشة فأذنّ له في الانتقال.
وحتى آخر لحظة من لحظات حياته لزمت عائشة فراشه ومرّضته. ولم ينقطع، وهو في مرضته هذه، عن الشخوص إلى المسجد ليصلي بالناس جريا على مألوف عادته، ولكنه استشعر أنه اضعف من ان يقدر على الكلام. وذات يوم طلب إلى ازواجه ان يرقن عليه [سبع قرب] قبل أن يوفق للخروج إلى الناس، وان يعصبن رأسه. وبعد ان صلى بالناس خاطب المصلين قائلا: «ان عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عند الله.» وفي الحال أدرك أبو بكر أن الرسول كان يشير إلى نهايته الوشيكة، فلم يتمالك عن البكاء [وقال: «بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا!» ] وعندئذ أمر الرسول أن تقفل جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلا باب أبي بكر.
ثم سأل المهاجرين أن يستوصوا بالأنصار خيرا.
وفي اليوم التالي ازداد الرسول ضعفا. وحين اذّن بلال للصلاة حاول ان ينهض ويتوضأ، ولكنه ألفى نفسه عاجزا عن ذلك. عندئذ قال: «مروا ابا بكر فليصلّ بالناس.» فاعتذرت عائشة عن أبيها قائلة ان ابا بكر رجل رقيق القلب، وخليق به ان ينفجر بالبكاء وهو يرتل القرآن. وإلى هذا فقد كان ضعيف الصوت. ولكن الرسول كرر قوله: «مروا ابا بكر فليصلّ بالناس!» وكرة أخرى اعتذرت عائشة عن أبيها، ولكن الرسول أصرّ على رأيه، وهكذا صلى ابو بكر بالناس. وذات يوم أحسّ بشيء من الراحة فأزاح ستارة بيته جانبا وخرج إلى المسجد. وكان [ابو بكر] ساعتئذ يصلي
بالناس، فلم يكد الرسول يرى اليهم حتى غمر البشر وجهه. لقد رأى بأم عينه بأي ورع بالغ سجد اولئك الذين عهد اليه في هدايتهم.
لله، حتى في غيابه هو. والحق أن هذا المشهد أوقع في نفسه سعادة غير يسيرة. ولكن قوّته خانته، فتعيّن عليه ان يرتدّ على آثاره. وإنما حدث ذلك يوم الاثنين، ولقد أوهم المسلمين. أن الرسول في سبيله إلى الشفاء. وهكذا استأنفوا أعمالهم المختلفة، فمضى أبو بكر لزيارة أسرته في السّنح [بأطراف المدينة] . ولكن صحة الرسول ما لبثت ان ساءت من جديد فراحت عائشة تسعفه [واضعة رأسه في حجرها] . وفي غضون ذلك دخل الحجرة أحد أنسبائها وفي يده سواك. فنظر الرسول اليه نظرا دل على انه يريده [فأخذته عائشة من قريبها ومضغته له حتى لان وأعطته اياه] فاستاك به جيدا. وفجأة تغيّر حاله، ودخل في النزع الأخير. وكانت آخر كلماته التي نطق بها في صلاته الخاشعة المهموسة «بل الرفيق الأعلى من الجنة!» [فقالت له عائشة:
خيّرت فاخترت والذي بعثك بالحق.] لقد أدّى واجباته نحو رفاقه الأرضيين فانقلب الآن إلى صدر رفيقه الأعلى المفعم محبة وحنانا.
وإنما كانت وفاته يوم الاثنين في الثاني من شهر ربيع الأول، وعمره ثلاث وستون، صلى الله عليه وسلّم أزكى ما تكون الصلاة وأطيب ما يكون التسليم!
وانتشر نبأ وفاة الرسول انتشار النار في الهشيم، فتدفق الناس على المسجد أفواجا أفواجا. وخيّل إلى عمر ان النبأ مجرد اشاعة أطلقها بعض المنافقين الاشرار. ألم يكن الرسول معهم في المسجد منذ فترة يسيرة ليس غير؟ ألم يبد وقد اتخذ سبيله إلى الشفاء؟ وهكذا خاطب عمر الناس وأصرّ على ان الرسول لم يمت. وأعلن، وقد شهر سيفه، انه سوف يقطع رأس كل من يزعم ان الرسول قد مات. وكان القوم كلهم يصيخون إلى عمر عند ما برز ابو بكر وقصد لتوّه إلى بيت
عائشة. وهناك كشف عن وجه الرسول، فاستيقن من أن النبأ الفاجع كان صحيحا. [ثم انه أخذ رأس الرسول بين يديه] وانشأ يقبّل صديقه الراحل ويصيح: «بأبي أنت وأمي! أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا!» وخرج ابو بكر إلى المسجد وارتقى المنبر، وراح يخاطب القوم قائلا: «أيها الناس، من كان يعبد محمدا فأن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فأن الله حي لا يموت!»
والحق أن إطلاق هذه الكلمات في جو الاهتياج السائد آنذاك كان يقتضي شجاعة أدبية بالغة. كان عمر واقفا هناك شاهرا سيفه ليضرب به رأس كل من يجرؤ على القول إن محمدا قد مات. ولكن المسلمين، وقد نشّئوا في ظل سلطان الرسول العظيم، كانوا قد وهبوا أنفسهم لعبادة الاله الواحد. ولو لم يكن الأيمان بوحدانية الله الخالصة قد ملك عليهم وجدانهم كله اذن لأنكروا أعظم الانكار كلمات ابي بكر الجريئة تلك. ثم ان أبا بكر راح يتلو الآية القرآنية التي توجّنا بها هذا الفصل:
«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.» *
إن رسالة النبي، إبلاغ مشيئة الله إلى الجنس البشري، قد أدّيت.
واذن فأن وفاته لا يمكن ان تعني ان خللا قد ألمّ بالدين. فلا داعي البتة إلى الاسراف في الحزن والأسى. ألم يمت الرسل من قبله في غير ما استثناء؟ إن محمدا أيضا ميّت، ولا بدّ له من ان يلقى مصير البشر المشترك. فليس في مستطاع الانبياء ان يزعموا انهم مستثنون من قانون الطبيعة الساري على الناس جميعا على حد سواء. ولو أن أيا
__________
(*) السورة 3، الآية 143.
من الانبياء السالفين نجا من الموت اذن لكان ثمة ما يبرّر للمسلمين حزنهم وأساهم. ولكن جميع اسلافه من الانبياء قضوا نحبهم، فلم يكن في وفاة محمد أيّ شيء استثنائي. لقد كان لكلمة ابي بكر اثر جد ملطّف في نفوس الجماعة، فاذا بهذه الآية القرآنية على كل شفة ولسان. لقد حملت العزاء إلى قلوب المسلمين المكلومة في ذلك الرزء الفادح. فاستسلموا، في بشر، لمشيئة الله. انه لا مناص لكل امرئ نبيا كان أو غير نبيّ، ان يغادر هذا المثوى الأرضي، عاجلا أم آجلا. والله وحده، لا أحد غيره، هو الحي الذي لا يموت. وعلى أية حال، فأن انسحاب الرسول من الدنيا، بعد اداء رسالته أتمّ ما يكون الأداء، حادثة فريدة في تاريخ العالم.
الفصل الثّلاثون أزواج النبيّ
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ «كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها «فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ «سَراحاً جَمِيلًا.»
(القرآن الكريم، السورة 33، الآية 28)
تزوّج الرسول، أول ما تزوج، وهو في الخامسة والعشرين. وكانت خديجة، زوجته الأولى، آنذاك أرملة في الأربعين. وباستثناء ابنه ابراهيم كان أولاد الرسول جميعا من زوجه خديجة. ولقد التحقت بالرفيق الأعلى قبل ثلاث سنوات من الهجرة. وكان الرسول، يوم وفاتها، في الخمسين من عمره. وهكذا يكون الزوجان قد عاشا معا خمسة وعشرين عاما كاملة. وعلى الرغم من ان العادة جرت في بلاد العرب بأن يتخذ الرجل لنفسه عدة زوجات، فأن الرسول لم يفئ- حتى بلوغه سن الخمسين- إلى أيما زوجة غير خديجة.
ومنذ البدء كانت خديجة سنادا للرسول كبيرا. ومن هنا أصابته وفاتها بصدمة قاسية. وكان لا يفتأ، منذ ذلك الحين، يذكرها ويتحدث عن ذكرياته السعيدة معها. واحتراما لذكراها كان يبعث بالهدايا، بعد وفاتها، إلى صديقاتها. وبعد فترة يسيرة زوّجه ابو بكر ابنته عائشة. وإذ كانت عائشة صغيرة السن، آنذاك، فقد لزمت بيت أبيها إلى ما بعد الهجرة بسبعة أشهر أو ثمانية عندما شخصت هي أيضا إلى المدينة وعاشت مع النبي. ومن بين نساء النبي جميعا كانت هي وحدها عذراء لم يسبق لها الزواج من رجل آخر.
وبعد خطبته لعائشة تزوج الرسول في مكة سودة [بنت زمعة] ، وهي أرملة متقدمة في السنّ. وكانت سودة قد هاجرت مع زوجها إلى الحبشة. حتى إذا عادا منها توفي زوجها [السّكران بن عمرو بن عبد شمس] في بعض الطريق، مخلّفا اياها في بلاء عظيم، وإذ كانت الجماعة الاسلامية صغيرة في تلك الفترة فلم يكن في امكانها أن تجد مفزعا لائقا إلا في رحاب الرسول. وهكذا سألته أن يتزوجها فقبل.
وخلّفت حفصة بنت عمر ارملة بعد معركة بدر، إذ استشهد زوجها خنيس في الميدان. وعرض عمر على ابي بكر ثم على عثمان أن يتزوجا بنته. وهذا يظهر فقدان الرجال المؤهلين للزواج، بين الجماعة الاسلامية، في تلك الفترة. ولكن كلا من الرجلين اعتذر عن ذلك، ولعل هذا كان بسبب من حدّة يسيرة كانت في مزاج حفصة. وأخيرا تزوجها الرسول في السنة الثالثة للهجرة. وفي السنة نفسها استشهد عبد الله بن جحش في أحد، فتزوج الرسول الكريم أرملته زينب أيضا. وبعد عام واحد، عند وفاة ابي سلمة، ضمّ الرسول زوجته امّ سلمة إلى أهله.
وكانت زينب بنت عمة الرسول اميمة بنت عبد المطلب. فاقترح
الرسول على أخيها ان يزوّجها زيدا، مولاه المعتق. ولكن كلا من الأخ والأخت نفر من ذلك لأن زيدا لم يكن غير عبد عتيق فليس في استطاعته، بوصفه ذاك، وفقا لمفهوم الجاهليين للمكانة الاجتماعية، ان يتزوج امرأة كريمة المحتد مثل زينب. لقد رغبا إلى الرسول نفسه أن يتزوجها. ولكنّهما ما لبثا ان نزلا عند إلحاح الرسول الذي كان تواقا إلى الغاء التمييز الزائف بين الطبقات. وعلى أية حال، فأن ذلك الزواج لم يكن سعيدا. فنشأ الخلاف بين الرجل وامرأته وساءت العلاقة حتى نقطة الافتراق. وبعد أن أخفقت جميع الجهود الرامية إلى التوفيق بينهما لم يبق غير سبيل واحد: الطلاق. وهكذا تم الفراق بينهما آخر الأمر. وفي ما بعد بنى الرسول نفسه بزينب، إذ كانت هذه هي رغبة السيدة ورغبة أنسبائها. وكان الرسول قد استشعر أنه ملزم، معنويا، بالنزول عند رغبتهم بعد أن رأى ان الزواج الذي كان هو الساعي إلى عقده بين زينب وزيد قد أخفق. وإنما تم زواج الرسول من زينب في السنة الخامسة للهجرة.
وفي السنة نفسها، اثر معركة بني المصطلق، وقع في أيدي المسلمين عدد كبير من الأسرى والأسيرات. وكانت بينهم جويرية وهي بنت زعيم عربي هو الحارث [بن ابي ضرار] . ووفد الحارث على الرسول ليفتدي ابنته، فاعتنق الاسلام مع ولديه. وكان زوج جويرية قد قضى نحبه، وهكذا رغب الحارث إلى الرسول في الزواج من جويرية، فقبل. وكان من نتائج هذا الزواج ان اطلق المسلمون سراح اسرى بني المصطلق جميعا، وعددهم نحو من مئة أسرة. لقد قالوا ان القبيلة التي شرّفها الرسول بالإصهار اليها يجب أن لا تظلّ في الأسر.
وبين المهاجرين إلى الحبشة، كانت بنت ابي سفيان ام حبيبة أيضا. وكان زوجها عبيد الله [بن جحش] قد دخل في النصرانية
هناك. وعند وفاته، وكانت ام حبيبة لا تزال في الحبشة، تزوجها الرسول. ولقد وفدت على المدينة في السنة السابعة للهجرة.
وفي معركة خيبر، في السنة السابعة للهجرة، كانت صفيّة [بنت حييّ بن أخطب النّضيرية] احد زعماء اليهود، بين السبايا. وكان زوجها قد صرع في المعركة. وكان اليهود مصدر متاعب للمسلمين لا نهاية لها. وحسب الرسول ان إصهاره اليهم قد يضع حدا لأذاهم مرة وإلى الأبد. وهكذا أمست صفيّة إحدى زوجات الرسول.
وفي تلك السنة ذاتها انضمت إلى البيت النبوي مارية القبطية التي أهداها المقوقس إلى الرسول. ولقد وضعت ولدا سمّي ابراهيم. وفي السنة نفسها عرضت أرملة أخرى هي ميمونة، [خالة خالد بن الوليد] على الرسول ان يا بني بها، ففعل. وتوفيت خديجة وزينب والرسول على قيد الحياة، حتى إذا التحق بالرفيق الأعلى خلّف وراءه تسع أزواج.
هذه الحقائق تقودنا إلى استنتاجات ثلاثة: أولها أن أزواج الرسول، ما عدا عائشة، كنّ كلهنّ أرامل أو مطلّقات. وثانيها أن الرسول لم يتخذ، حتى بلوغه الثالثة والخمسين، غير زوجة واحدة. وثالثها ان خمسا من أزواجه كنّ أرامل بائسات مات عنهن أزواج مسلمون فهو ملزم، أدبيا، بأن يدخلهن في كنفه، بينا كانت ثلاث منهن ينتمين إلى قبائل عدوّة، وكنّ ذوات أثر فعال في توثيق العلاقات بين المسلمين وتلك القبائل.
إننا نقع على تعدّد الزوجات في حيوات كثير من الشخصيات الدينية العظيمة. فأبراهيم، الذي يتمتع بأجلال أكثر من نصف الجنس البشري، لم يقتصر على زوجة واحدة. وكذلك فعل يعقوب، وموسى، وداود.
ويروى عن سليمان انه قد أسرف فاتخذ من الزوجات مئات. وكان هؤلاء هم أسلاف يسوع. أما يسوع نفسه فلم يتزوج حتى امرأة
واحدة، كما تظهر الأناجيل. ومن هنا فأن المثل الذي ضربه في هذه المسألة غير وارد. إذ لو جعلت العزوبة هي مثل الحياة الأعلى وأمست هي القاعدة اذن لا نتهى العالم وشيكا. وهكذا فأن تعدد الزوجات لا ينطوي على شرّ أصيل، ومجرد تزوّج الرسول من عدد من النساء ليس موضع اعتراض بأية حال. لقد كانت هذه هي عادة «البطاركة» القدامى.
وحتى سن الثالثة والخمسين، وهي سنّ عالية حقا، عندما يتحرر المرء من سلطان نزوات الشباب، عاش الرسول وليس له غير زوج واحدة، ضاربا المثل بذلك على ان اللاتعدّد في الزوجات يجب أن يكون قاعدة الحياة في الأحوال السويّة. والواقع ان هذا هو مفاد التعاليم القرآنية. ولكن الاسلام، بوصفه دينا كونيا، محتاج لأن يحتاط لمختلف ضروب الحالات الاستثنائية غير السوية. وتعدد الزوجات هو أحد هذه الاحتياطات، التي لا يسمح بها إلا حين تدعو إلى ذلك بعض الحالات الشاذة. فحين تنشأ حالات مثل هذه فعلا، يصبح تعدد الزوجات ضرورة لا بدّ منها، حتى إذا لم يجز ذلك في تلك الحال كانت النتيجة هي الاتصال الجنسي الآثم. وعندئذ يفسد المجتمع.
وتصبح الأمهات غير المتزوجات والابناء غير الشرعيين جزآ منه.
إن تعدد الزوجات هو، في مثل تلك الظروف، سبيل الوقاية الأوحد. سمّه شرا لا بدّ منه، أو ما شئت، فأنه يظل على أية حال الحاجز الوحيد دون المخازي الأخلاقية. وكان على الرسول ان يكون قدوة كاملة للجنس البشري كله. ومن هنا كان ضروريا، بصرف النظر عن انفاقه كامل شبابه بل الجزء الأعظم من شيخوخته مع زوجة مفردة، ان يتخذ عدة زوجات عندما أفضت الحرب إلى جعل عدد الاناث أكثر من عدد الذكور، بين المسلمين. لقد عاش، قبل اربعين سنة كاملة من البعثة، في أرض كان السيف يصطنع فيها بمثل
الحرية التي تصطنع بها العصا، وكانت مسرحا للوحوش الضارية المنقضّ بعضها على رقاب بعض، حيث القتال والأخذ بالثأر هما الزيّ الشائع، وحيث لم يكن لمن لا يحسن الضرب بالسيف كبير أمل في البقاء. ومع ذلك فأنه لم يسدّد في أيما مرة لكمة واحدة إلى عدوّ.
وحتى بعد البعث، عندما لجيء إلى القتال على سبيل الدفاع عن النفس وشارك الرسول بنفسه في كثير من المعارك، فأن سيفه لم يسلّ على عدوّ ما البتة، إلا مرة واحدة عندما اضطرّ، في معركة أحد، إلى أن يسلّه على عدوّ حمل عليه حملا عنيفا. ثم إنه كان محبا للسلم بالفطرة حتى لقد آثر صلح الحديبية على اراقة الدماء، برغم ان ذلك الصلح عامل المسلمين وكأنهم فريق مغلوب. وبرغم ان الحرب كانت غريبة عن طبيعته إلى هذا الحد فقد أكره، بحكم الظرف القاهر ليس غير، على خوض غمار القتال. ذلك بأن الحرب شر آخر لا بدّ منه، وقد يجيء زمان يصبح فيه اجتنابها أمرا متعذرا. ولم يكن في امكان المرء ان يعتبر الرسول قدوة كاملة لو أغفل ضرب المثل في ميدان القتال أيضا، ابتغاء هداية الجنس البشري. ولقد نشأت أحوال ساقته إلى ساحة الحرب ليظهر كيف يتعين على الجندي العادي وعلى قائد الجيش أن يتصرف ويسلك. ونحن نلاحظ أيضا أنه عاش، في بلد شديد القيظ مثل بلاد العرب، حياة عفيفة، بوصفه عزبا حتى الخامسة والعشرين من عمره. إن طهارة خلقه قد طبّق ذكرها الآفاق. وبعد ذلك عاش مع زوجة واحدة- زوجة كانت أرملة أيضا، أرملة أكبر منه بخمس عشرة سنة- حتى بلغ الخمسين. هذه الحقائق كلها تفرض علينا ان نخلص إلى القول ان عفته كانت ممتنعة امتناعا كاملا على الشق والشهوة. ومع ذلك فقد تعيّن عليه- في كهولته تلك، عندما يعجز العقل الراجح عن اتهامه بالشهوانية إلا إذا أعماه الهوى- أن يتخذ أكثر من زوجة لكي لا يظل هذا المظهر الذي لا سبيل إلى اجتنابه من
مظاهر الحياة البشرية غير ممثّل في حياة «القدوة الكاملة» .
ومما يلقي ضوآ اضافيا على الحقيقة القائلة بأن جميع ضروب النزوات والشهوات الحقيرة المميّزة للطبيعة البشرية تمييزا صارخا كانت محمدة عند الرسول، تلك البساطة البالغة التي غلبت على طريقة حياته. فبرغم عيشه في هذا العالم أبدى تعلّقا يسيرا بالمفاتن التي يعرضها على الناس. فمن المهد إلى اللحد تقلّب الرسول في شكول من الأحوال والظروف متباينة- شكول يندر ان يقع عليها المرء في حياة رجل فرد. إن اليتم هو أقصى الشقاء والعجز على حين ان الملك هو أقصى القوة والسلطان. لقد استهل حياته يتيما، ومن هذا الدرك ارتقى إلى ذروة المجد الملكي، ولكن ذلك لم يحدث أيما تغيّر في اسلوب عيشه. فقد ظل يحيا على نفس الطعام المتواضع الذي اغتذى به من قبل، ويرتدي عين الملابس البسيطة التي ارتدادها دائما، ولزم في كل شأن من شؤونه اسلوب الحياة ذاته الذي اصطنعه يوم أن كان مجرد يتيم بائس. ان من العسير على المرء ان يتخلى عن عرش ملكيّ ويحيا حياة ناسك، ولكن أصعب من ذلك بكثير أن يتقلد صولجان الملك ويحيا في الوقت نفسه حياة ناسك، أن يملك السطوة والثروة ثم لا يصطنعهما إلا لخير البشر، أن تكون أكثر المفاتن اغراء معروضة أمام ناظريه ثم لا يجيز لها ان تأسره لحظة واحدة. فحين تمت للرسول السلطة المطلقة على المدينة وضواحيها كان أثاث بيته مؤلفا من فراش عاديّ وحصير من سعف النخل وابريق ماء فخاريّ. لقد كان يبيت، في بعض الليالي، على الطوى. وكانت النار كثيرا ما لا تضرم في بيته، طوال أيام موصولة، لطهو الطعام، بسبب من ان الأسرة كلها كانت تحيا على التمر ليس غير. وما كان ذلك لأن الرسول عدم أسباب العيش في سعة ورفه. فقد كان بيت المال في تصرّفه. وكان خليقا بالمثرين من أصحابه- اولئك الذين لم يحجموا عن التضحية بحيواتهم
من أجله- أن يسعدوا أعظم ما تكون السعادة بتزويده بكل متارف الحياة، لو شاء أن ينعم بها. ولكنه لم يكن ليقيم وزنا لكل الأشياء الدنيوية. إن أيما توق إلى كل ما هو أرضيّ لم يستحوذ عليه في أيما يوم من الأيام، لا في فترات العوز ولا في فترات الرخاء. وكما ازدرى عرض الحياة الدنيا، كالسلطان والمال والجمال، الذي حاولت قريش إغراءه به عندما كان في حال من البؤس المطلق، كذلك ظل ينظر إلى ذلك كله نظرة لا مبالية حتى بعد أن منحه الله هذه الأشياء كلها من فضله.
ولكن ثمة حجة أكثر حسما في هذا الموضوع تزوّدنا بها حادثة أشير اليها في الآية التي توّجنا بها هذا الفصل. وتفصيل ذلك أن أحوال المسلمين تحسّنت بعيد هجرتهم إلى المدينة. وإلى هذا، فأن الغنائم التي وقعت في أيديهم، بالأضافة إلى أموال افتداء الاسرى التي نالوها في معركة بدر، جعلتهم يؤثرون الرّفه، نسبيا. وهكذا طرأ بعض التغير على طريقة حياتهم. ولكن بيت الرسول ظل في نجوة من التأثّر بهذه النّعمة الطارئة. ولكن ضربا من الهوى البشريّ الطبيعيّ خامر أفئدة أزواج الرسول وزيّن لهنّ ان من حقهنّ ان ينعمن، شأن غيرهن من نساء الأسر الاسلامية، بنصيبهن من المتارف. وهكذا اتصلن بالرسول مجتمعات لأقناعه بأن يجيز لهن التمتع بنصيبهن من الرفه الدنيوي، عندئذ هبط الوحي الالهي يأمر الرسول بأن يقول لنسائه انهن لا يستطعن ان يبقين زوجاته إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها. وهكذا يتعين عليهن أن يخترن إحدى خطتين: إما التمتع بالمناعم الدنيوية وإما البقاء في عصمة الرسول. فاذا ما آثرن الخطة الأولى فعندئذ يفزن بوافر مما يطمعن فيه ولكنهن يفقدن في الحال شرف العيش في كنف الرسول بوصفهن أزواجه. أفيمكن أن يكون هذا جواب رجل شهواني؟ ان الهمّ الاعظم لمثل هذا الرجل هو السعي لأشباع أضأل نزوات من يحبّ.
ولا ريب في أن الرسول كان يحبّ أزواجه حبا جما ويحترمهن احتراما كثيرا. لقد روي عنه أنه قال: «خيركم خيركم لنسائه» . وهذا يمثّل موقفه نحو المرأة. ومع ذلك، فما إن وفدت عليه زوجاته يسألنه مطلبا مشروعا حتى قيل لهن إن بيت الرسول والمتارف الدنيوية لا يسيران جنبا إلى جنب. إن عليهن ان يخترن إما هذا وإما تلك. فهل من شيمة من كان عبدا لشهواته أن يغفل رغبات أزواجه على هذا النحو؟ إن هذا ليظهر بما لا يحتمل أدنى الشك إلى أي حد كان فؤاد الرسول مبرّآ من كل نزعة خسيسة شهوانية. فهو يؤثر التخلي عن نسائه جميعا على الاستسلام لما يعتبره غير لائق بهن، أي النزوع نحو الاشياء الدنيوية. ألا ينهض ذلك دليلا حاسما على ان غرضه من زواجه المتعدد قد يكون أيما شيء إلا الانسياق مع هوى النفس؟
وقد يتساءل المرء: أيّ شيء يمكن ان يكون غرضه من ذلك؟ إن القرآن الكريم ليجيب عن هذا السؤال على هذا النحو: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ... وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.» * وهكذا أوضح هنا بأجلى بيان ان بيت الرسول ليس هو المكان الذي يجوز فيه الاستسلام لأهواء الجسد. كان الغرض أسمى من ذلك بكثير- كان هو حفظ ما سمعن وتعلّمن من طريق اتصالهنّ المستمر بالرسول لمصلحة الجنس البشري بعامة، وبنات جنسهن بخاصة. ومن هنا طلب اليهن ان يزدرين جميع مفاتن هذه الحياة ويفرغن قلبا وروحا
__________
(*) السورة 33، الآية 28- 29؛ 34.
لتحقيق الغرض الحقيقي. ويا له من غرض سام! إن ثمة مئة مظهر ومظهر من أخلاق الرجل لا تتجلى إلا في صلته بالجنس الناعم. ثم إن ثمة نقاطا في الشريعة الاسلامية خاصة بالنساء دون غيرهن، ولا سبيل إلى نشرها إلا من طريق افراد الجنس الواحد. ولكي لا يحرم العالم من تلك الاقوال والأفعال التي لا يمكن ان تجد تعبيرها إلا في البيوت، ولكي يكون في الامكان نقل هذه الأشياء إلى الذريّة عهد إلى نساء النبي في أن يحفظن كل ما سمعن أو رأين، وإبلاغ النساء الأخريات ذلك كلّه. وهكذا فأن زواج الرسول المتعدّد قصد به إلى أن يكون وسيلة لتحقيق غرض ديني ذي أهمية بالغة. فما أكثر النقاط الشرعية الاسلامية التي لم يستطع الرسول شرحها للنساء مباشرة. لقد وفّق إلى ذلك من طريق أزواجه. والروايات تحدثنا عن نساء وفدن على الرسول، في مناسبات عديدة، ليسألنه عن أمور خاصة تتصل بجنسهن.
فأحالهنّ إلى واحدة من زوجاته قادرة على اعطائهن المعلومات الضرورية.
وفوق هذا، فأن كثيرا من مفاهيم الرسول الاخلاقية التي لم يكن في الامكان تطبيقها إلا ضمن نطاق الأسرة تحدّرت الينا من طريق زوجاته.
والقول بأن امرأة مفردة تستطيع أن تقوم بذلك إنما ينطوي على اسراف في تقدير قوة الذاكرة البشرية. فقد كان الموقف يقتضي وجود نسوة ذوات أمزجة متباينة، ومن ثم ذوات اهتمامات وأشواق متباينة، لكي يفهمن ويحفظن أحسن ما يكون الفهم والحفظ مختلف الأشياء التي تقع تحت أبصارهن. فليس من ريب في أن ذلك كله كان خليقا به أن يكون أكثر من أن يحيط به عقل بشريّ واحد. وهذا هو أيضا أحد الأسباب التي حملت جميع الأنبياء العظام، تقريبا، على الزواج من أكثر من امرأة. وإنما كان هذا أعظم أهمية بالنسبة إلى خاتم النبيين، لكي تحفظ كلماته وأفعاله وتسلم إلى الذرية بكامل تفاصيلها، ذلك بأن تلك الكلمات والافعال كان مقدّرا لها أن تكون
هاديا للجنس البشري إلى آخر الدهر. وهكذا قضت حكمة الله بأن تجري الأمور على هذا النحو لضمان صيانة التعاليم النبوية، من الوجهتين النظرية والعملية.
وعلى الرغم من أن الغرض من اتخاذ الرسول عدة زوجات كان ما ذكرناه آنفا فأن الأسباب كانت متنوعة. كان نطاق الجماعة الاسلامية، آنذاك، جدّ ضيّق. فقد أحدثت حالة الحرب السرمدية تفاوتا بين عدد النساء وعدد الرجال في المجتمع. لقد استشهد الرجال في ميدان القتال، فكان لا بدّ من إعالة اراملهن. ولكن الخبز والزبدة ليسا الغذاء الوحيد المطلوب في أمثال هذه الحالات، كما يحسب بعض رجال السياسة القصيري النظر. كان من الضروري العمل على إشباع حاجاتهن الجنسية، وإلا نتج عن ذلك- ضرورة- فساد أخلاقي يفضي آخر الأمر إلى خراب الأمة كلها. ولم يكن في ميسور المصلح الذي يعتبر الأخلاق كل شيء أن يجتزئ بمجرد تزويدهن بما يحتجن اليه من طعام وشراب. والحق ان الرسول كان على طهارتهن وعفافهن أحرص منه على حاجاتهن الجسدية. وهكذا أمسى من الضروري، في ظل تلك الأحوال، إجازة تعدد الزوجات. وهذا هو السبب الذي من أجله تعيّن على الرسول ان يتخذ عددا من الأزواج في الفترة المدينية من حياته. ومن واجبنا ان ننص على ان جميع زوجاته كنّ إما أرامل أو مطلّقات. ولا حاجة إلى القول ان اختيار المرء نادرا ما يقع على الأرامل حين يكون الانسياق مع الهوى هو رائده. إن الشهوة لفي حاجة إلى البكارة تشبعها وترضيها. ولم يكن المجتمع الاسلامي يشكو ندرة في العذارى. وكان من دواعي الفخر الباعثة على الحسد أن يصبح أيما مسلم عما للرسول. ولكن الغرض كان أنبل من ذلك بكثير:
أعني حماية أرامل أصدقائه ووقايتهن. وهكذا كانت خمس من زوجاته نساء فقدن أزواجهن في ميدان القتال أو بطريقة أخرى. والواقع ان
مدى العسر الذي انطوى عليه تزويج المرأة المسلمة، في تلك الأيام، يتمثّل بوضوح في مسألة حفصة، وهي بنت رجل في مثل مكانة عمر ابن الخطاب ونفوذه ترمّلت [في معركة بدر] ، كما أوضحنا آنفا.
وهكذا كان تعدد الزوجات هو السبيل الأوحد لصيانة المجتمع الاسلامي، في وضعه ذاك، من وجهة النظر الاخلاقية.
ثم إن بعض الأسباب السياسية أفضت أيضا إلى زواج الرسول من بعض نسائه. فزواجه من جويرية مثلا كان نعمة عظمى على قومها.
إنه لم يضع حدا لعداوة بني المصطلق المريرة فحسب، ولكنه شدّهم إلى المسلمين برباط من الصداقة قويّ أيضا. وفوق هذا، فقد كان من النتائج المباشرة لذلك الزواج اطلاق سراح مئات الاسرى من أبناء تلك القبيلة. فهل كان غرضه من هذا الزواج شيئا آخر غير الغرض الديني؟
وكذلك كان اليهود ألدّ أعداء الاسلام في بلاد العرب. وقد حاول الرسول ان يتألّف قلوبهم أيضا من طريق البناء بامرأة من نبيلاتهم.
ولكن حقد اليهود أثبت هذه المرة أنه أقوى من أن يتأثر بأجراآت الرسول الاسترضائية. لقد أصرّوا على عداوتهم، ولم يكفّوا في أيما يوم عن انزال الأذى بالاسلام. ومع ذلك فقد بذل الرسول قصارى جهده لتألّفهم. وكانت ميمونة أرملة أيضا، وكانت تنتسب إلى قبيلة معادية، برغم ان الظروف التي قادت إلى زواجها من الرسول كانت مختلفة بعض الشيء. كانت اختها قد تزوجت العباس، عم الرسول، ومن هنا لم تكد تعرض على الرسول الزواج منها حتى وجد نفسه غير قادر على الرفض.
وفي حين كان هدف الرسول من الزواج من هذا العدد الكبير من الأرامل هو مجرد حمايتهن بضمهنّ إلى أهل بيته كان الدافع إلى زواجه من زينب [بنت جحش] مختلفا جدا. لقد رمى بذلك إلى محو لطخة العار التي تصم المرأة المطلّقة في نظر الناس. فليس من ريب في ان
الطلاق هو ثمرة الكراهية التي تلبس المرأة، بحكم الطبع، لباس الخزي إلى حد ما. إن الناس لينظرون اليها في ازدراء، وهي كثيرا ما تفقد الامل في الزواج كرة أخرى، وبخاصة من جانب أبناء عشيرة زوجها السابق. والواقع ان علاقة زيد بالرسول كانت تتسم بمودّة عميقة متبادلة، حتى لقد عرف زيد بابن محمد. والحق أن الرسول هو الذي زوّجه من زينب، وكانت سيدة كريمة المحتد تشدّها إلى الرسول صلة نسب. ولكن الزوجين لم يستطيعا العيش في تناغم وانسجام.
فعقد زيد النية على تطليقها، ولكن الرسول ثناه عن ذلك، وهو ما نصّ عليه القرآن الكريم في وضوح. [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.] * ولكن لم يكن من الطلاق، في آخر الأمر، مناص. فبنى الرسول بها لكي يزيل الفكرة القائلة بأن الطلاق يحطّ من قدر المرأة. وهكذا رفع طبقة النساء المطلّقات كلها، تلك الطبقة التي كان خليقا بها لولا ذلك ان تعاني إذلالا من جانب المجتمع يستمر مدى الحياة. وإنه لمن الخطأ المحض ان يزعم ان الرسول فتن بزينب ومن أجل ذلك حمل زيد على تطليقها. بل ان ذلك سخف ينفيه ظاهر القصة نفسه. فهل يعقل،
__________
(*) السورة 33، الآية 37- 38.
إذا صح ذلك الزعم، ان يظل زيد بعدها مخلصا للرسول بقدر ما كان في أيما وقت مضى؟ لا، بل إنه كان خليقا به، لو صحّ ذلك الزعم، أن يعجز حتى عن البقاء على الدين الاسلامي. ولكن الواقع يقول إن محبته للرسول، وايمانه به، لم يتزعزعا قيد شعرة. ولقد تمتّع، كدأبه دائما، بثقة الرسول المطلقة، حتى لقد أمّره على قوّاته. ثم إن الرسول كان يعرف زينب منذ طفولتها نفسها معرفة جيدة، بوصفها ابنة عمته. وكان أخوها يتمنى على الرسول لو يتزوّجها هو نفسه، ومع ذلك فقد زوّجها زيدا. ولو قد كان يجد في نفسه ميلا اليها، كما يزعم، فما الذي منعه من الزواج منها وهي بعد عذراء؟ لقد تزوّجها بعد أن طلّقت، وبعد أن انخفضت منزلتها بسبب من ذلك في نظر الجمهور. إن رفضه الزواج منها في الحال الأولى ثم قبوله اياه في الحال الثانية ليظهر على نحو قاطع ان الذي حفزه إلى هذا الزواج لم يكن الانسياق مع الهوى على الاطلاق. لقد كان، في الواقع، رغبته في الارتفاع بمنزلة المرأة المطلّقة في نظر المجتمع. وإنما كانت هذه، في الحق، خطوة أخرى نحو تعزيز وضع الجنس اللطيف بعامة.
وقد يتساءل متسائل لماذا تزوّج الرسول، اذن، من مارية القبطية التي لم تكن لا أرملة ولا امرأة مطلّقة؟ فنقول إن هذا الزواج تم لسبب آخر مختلف جدا. وتفصيل الأمر ان الرسول اتخذ ازواجا من قريش ومن قبائل عربية غير قرشية على حد سواء. وبرغم ان صفيّة كانت يهودية، فقد كانت في الوقت نفسه سيدة عربية. ولكن الرسول، الذي بعث للانسانية كلها، كان عليه أن يوضح، بالمثل الصالح، أنه يكنّ للقوميات الأخرى مثل الذي يكنّه لقوميته من إجلال واحترام.
وهكذا لم يكد مقوقس مصر يبعث اليه بمارية حتى ضمّها، رغم كونها أجنبية، إلى بيته على أساس المساواة المطلقة مع زوجاته العربيات.
ومن هنا نرى أن زيجات الرسول كلها كانت تستهدف غرضا أخلاقيا باطنا. فقد نشأت في حياته ظروف لم يكن في ميسوره تجاهها، انسجاما منه مع رسالة حياته الاخلاقية والدينية، ان يقصر نفسه على زوجة واحدة. لقد كان خير البشرية مرهونا بسلوك هذه السبيل، فلم يحجم عن سلوكها. وإنما قضى زهرة حياته، بل القسم الأعظم من كهولته، في كنف امرأة مفردة، مظهرا بذلك أن الزواج من واحدة هو القاعدة في الأحوال السويّة. حتى إذا تهدّد الخطر طهارة النساء وعفافهن، ومسّ الأمر وضعهن الاجتماعيّ، لم يتقاعس عن الأخذ بالبديل الأوحد- أعني تعدد الزوجات. ولكن علينا ان لا ننسى ان ذلك كان مجرد استثناء للقاعدة قصد به إلى مواجهة حالات شاذة، وليس القاعدة نفسها.