وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد النخع، وهم آخر الوفود قدومًا عليه, وكان قدومهم في نصف المحرَّم سنة إحدى عشرة، في مائتي رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرِّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل.
__________
الوفد الخامس والثلاثون:
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد النخع" بفتح النون، والخاء المعجمة، وبعين مهملة, قبيلة من مذحج -بفتح الميم وسكون المعجمة وكسر الحاء المهملة وجيم, قبيلة من اليمن، "وهم آخر الوفود قدومًا عليه، وكان قدومهم في نصف المحرم سنة إحدى عشرة" من الهجرة، وهذا وأمثاله مبني على أول التاريخ هل هو المقدم، أو أول سنة المقدم، أو طرح بقية سنة القدوم، والحسبان من ثاني ستة أقوال، أغربها الثالث.
وقد قال ابن عبد البر والذهبي: قدم زرارة في نصف رجب سنة تسع، فيحتمل أنه وفد فيها، ثم مع قومه سنة إحدى عشرة، كذا في النور "في مائتي رجل"، لم يعرف البرهان منهم إلّا زرارة، "فنزلوا دار الأضياف"، هي دار رملة بنت الحارث النجارية، الصحابية، زوجة معاذ بن عفراء، "ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرِّين بالإسلام، وقد كانوا باعوا معاذ بن جبل"، لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن.
وقال ابن سعد في الطبقات: حدَّثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أشياخ النخع، قال: بعث النخع رجلين منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وافدين بإسلامهم: أرطأة بن شراحيل بن كعب، والجهيش، واسمه: الأرقم, من بني بكر بن عمرو بن النخع، فخرجا حتى قدما عليه -صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه، فبايعاه على قومهما، وأعجبه -صلى الله عليه وسلم- شأنهما، وحسن هيئتهما، فقال: "هل خلفتما وراءكما مثلكما"؟ قالا: يا رسول الله, قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلًا، كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء، ما يشاركونا في الأمر إذا كان، فدعا لهما -صلى الله عليه وسلم- ولقومهما بخير، وقال: "اللهم بارك في النخع"، وعقد لأرطأة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، فقتل يومئذ، فأخذه أخوه دريد، فقتل، فأخذه سيف بن حارثة من بني حذيفة, فدخل به الكوفة، وأخرجه ابن شاهين بإسناد ضعيف عن قيس بن كعب النخعي؛ أنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم، هو وأخوه أرطأة بن كعب، والأرقم، وكانا من أجَلِّ أهل زمانهما وأنظفه، فذكر الحديث، وسمى أخاه المقتول بعده يوم القادسية: زيد بن كعب, وجهيش -بضم الجيم وآخره معجمة مصغَّر، وقيل: بفتح أوله وكسر الهاء وسكون التحتية، وقيل: بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها موحدة، وبه جزم ابن الأمين.
روى ابن منده عن أبي هريرة، قدم جهيش بن أويس النخعي في نفر من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله أنا حي من مذحج، فذكر حديثًا طويلًا، فيه شعر منه:
فقال رجل منهم، يقال له: زرارة بن عمرو، يا رسول الله, إني رأيت في سفري هذا عجبًا، قال: "وما رأيت"؟ قال: رأيت أتانًا تركتها كأنها ولدت جديًا أسفع أحوى، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل تركت لك مصرة"؟ قال: نعم، قال: "فإنها قد ولدت غلامًا وهو ابنك"، فقال يا رسول الله: ما باله أسفع أحوى؟
__________
ألا يا رسول الله أنت مصدق ... فبوركت مهديًّا وبوركت هاديًا
شرعت لنا دين الحنيفة بعدما ... عبدنا كأمثال الحمير طواغيا
وعند أبي نعيم، عن الحارث: قدمنا من اليمن، فنزلنا المدينة، فخرج علينا عمر، فطاف في النخع، فتصفحهم، وهم ألفان وخمسمائة، وعليهم أرطأة، فقال عمر: سيروا إلى العراق، قالوا: بل نسير إلى الشام، قال: سيروا إلى العراق, فسرنا فأتينا القادسية، فقُتِلَ منَّا كثير، ومن سائر الناس قليل، فسُئِلَ عمر عن ذلك، فقال: إن النخع ولّوا أعظم الأمر وحدهم. ذكره في الإصابة في موضعين.
وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو لهذا الحي من النخع، أو قال: يثني عليهم، حتى تمنَّيت أني رجل منهم، "فقال رجل منهم يقال له: زرارة بن عمرو" بضم الزاي، وأبوه -بفتح العين، وسماه ابن الكلبي، وتبعه ابن شاهين: زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي.
قال أبو حاتم: قدم نصف المحرم سنة إحدى عشرة، وقال أبو عمر: بل كان قدومه في نصف رجب، سنة تسع، وبالأوّل جزم ابن سعد عن الواقدي، كذا في الإصابة، وتقدَّم جمع البرهان باحتمال قدومه أولًا وحده في التاريخ الأول، ثم مع قومه في هذا التاريخ, "يا رسول الله, إن رأيت في سفري هذا عجبًا"، وفي رواية المدائني: رأيت في طريقي رؤيا هالتني، "قال: "وما رأيت"؟ قال: رأيت أتانًا" بفتح الهمزة، وفوقية- حمارة أنثى، ولا يقال أتانة، قاله ابن السكيت، وجمع القلة آتن، كعناق، وأعنق، والكثرة أتن -بضمتين.
روى البيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "من لبس الصوف، وحلب الشاة، وركب الأتن، فليس في جوفه من الكبر شيء" "تركتها" في الحي، كما في رواية، وللمدائني: خلَّفتها في أهلي, "كأنها ولدت جديًا"، هو الذي من أولاد المعز، "أسفع" بزنة أحمر، أسود مشرب بحمرة، "أحوى" كالتأكيد لما قبله؛ إذ الحوة -بالضم- سواد إلى خضرة، أو حمرة إلى سواد، كما في القاموس، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل تركت لك مصرة"، اسم فاعل من أصر على الشيء، أقام عليه، والمراد حملها محقق ثابت.
وفي العيون والمدائني: أمة، وفي السبل: امرأة، فلعل المصنف ترك الموصوف للخلاف فيه، كذا قيل، وإنما يتحقق الخلاف لو قيل: زوجة، فيرد لفظ امرأة إلى أمة، فلا خلاف.
"قال: نعم، قال: "فإنها قد ولدت غلامًا، وهو ابنك"، دفع به ما قد يدخل عليه من الريبة؛ إذ رأى اللون الغريب، "فقال: يا رسول الله, ما باله أسفع أحوى"، أي: ما الحال الداعي إلى مجيئه
قال: "ادن مني"، فدنا منه، قال: "هل بك من برص تكتمه"؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما علم به أحد، ولا اطَّلع عليه غيرك، قال: "فهو ذلك".
قال: يا رسول الله، ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان مدلجيان ومسكتان. قال: "ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته".
قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزًا شمطاء، خرجت من الأرض. قال: "تلك بقية الدنيا".
__________
بهذا اللون المخالف للون أبيه؟ "قال: "ادن مني"، قصدته ستره لعلمه -صلى الله عليه وسلم- أنه يخفيه، "فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه" " استفهام تقريري، أريد به طلب اعترافه به، ليرتِّب عليه الجواب، فيكون ألزم للحجة، "قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، ما علم به أحد، ولا اطَّلَع عليه غيرك"، فكأنه قال: نعم هو بي، ولكن والذي.. إلخ، فهو معجزة، "قال: "فهو ذلك"، أي: اللون الذي في ولدك أثر ما فيك من البرص، وهذا من المعجزات، "قال: يا رسول الله, ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان" بالضم, تثنية قرط، وهو ما يعلق في شحمتي الأذن، والجمع أقراط "مدلجيان" كذا في النسخ، والمدلج: الذي يسير اليل كله، ولا معنى له هنا، والذي في العيون والإصابة وغيرهما, كالمصنف نفسه في الرؤيا: ودملجان -بضم اللام وفتحه: شيء يشبه السوار، "ومسكتان" بفتح الميم والسين المهملة: سواران من ذهب، قاله المصنف في التعبير، والذي قاله ابن سيده، والجوهري: المسك -بفتحتين: أسورة من ذبل أو عاج، والذبل -بمعجمة، وموحدة ساكنة: شيء كالعاج، وقيل: ظهر السلحلفاة البحرية، فالمعنى على هذا: سواران من ذبل، وفي الجامع لابن الأثير: المسكة -بالتحريك: أسورة من ذبل، أو عاج، فإذا كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب، أو فضة، أو غيرهما.
"قال: "ذلك ملك" بضم الميم، وإسكان اللام "العرب رجع إلى أحسن زيه" بكسر الزاي وشد الياء. وهيئته "وبهجته" حسنه؛ لأن النعمان كان ملكًا على العرب، فالمعنى: عادت العرب إلى ما كانوا عليه من العزِّ والشرف، وذهبت غلبة الفرس والعجم بظهور المصطفى.
قال المصنف في الرؤيا: تعبيره السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مَرَّ، والجواب أن النعمان كان ملكًا على العرب من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، فالسواران من زيهم ليسا بمنكرين في حقه، ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفًا، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم، فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته، فجدير أن يهمه ذلك؛ لأنه ليس من زيه، واستدلَّ به على أنه أمر يوضع في غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابه، "قال: يا رسول الله, ورأيت عجوزًا شمطاء" بزنة حمراء، أي: أبيض شعر رأسها، "خرجت من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا"، فلم يبق منها
قال: ورأيت نارًا خرجت من الأرض, فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان" , قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: "تقتل الناس إمامهم" وخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه, "يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكنّ دم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك".
قال: يا رسول الله, ادع الله أن لا أدركها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها". فمات فبقي ابنه فكان ممن خلع عثمان بن عثمان -رضي الله عنه
انتهى ملخصًا من الهدي النبوي، والله الموفق, وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في تعبيره الرؤيا -صلى الله عليه وسلم, من المقصد الثاني. انتهى.
__________
إلّا القليل بالنسبة للماضي، كالباقي من عمر العجوز مما مضى، "قال: ورأيت نارًا خرجت من الأرض، فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو"، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعموني، آكلكم آكلكم، أهلككم ومالك، هذا من جملة رؤياه، كما في المقصد الثامن والعيون، وكان معناه: تفترق الناس فيها فرقتين، بصير عرف الحق فاتبعه، وأعمى لم يهتد إلى طريق الحق فضلَّ، ومعنى أطعموني: افتتنوا بي، وارتكبوا الضلال، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزما" سماه آخرًا، مع أنها قتل عثمان -رضي الله عنه, على معنى: إنه لغلظ أمره وفحشه بمنزلة ما يكون في آخر الزمان, الذي تندرس فيه الأحكام وتزول، حتى كأنها لا أثر لها، أو أنَّ المراد: آخر زمان الخلافة الحقيقية التي جروا فيها على سنن المصطفى، وسمَّاها آخرًا مع أنه بقي منها مدة علي وابنه، لقرب قتل عثمان من آخرها، "قال: يا رسول الله, وما الفتنة؟ " لأنها تطلق لغة على معانٍ، فسأله أيها أراد، "قال: "تقتل الناس إمامهم" "، ولفظ الآتي في التعبير، قال: "يفتك الناس بإمامهم، ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس"، ثم قال: "إطباق الرأس عظامه"، والاشتجار: الاشتباك والاختلاف.
"وخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه"، لم يبينوا صفة المخالفة، "يحسب المسيء فيها أنه محسن"، جملة مستأنفة للإشارة إلى غلبتها على الناس، فيظنّ المبطل أنه محق، "ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلى" ألذ "من شرب الماء" للظمآن.
وفي العيون وغيرها: " أحلّ من الحل"، وكأنه لغلبة اشتباه الحال فيظن أنه محق، فيراه أشد حلًّا من شرب الماء، وخصَّه لغلبة حصوله من جهة حلّ، كالأنهار والأمطار وغيرهما، "إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك"، قال: يا رسول الله, ادع الله أن لا أدركها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها"، فمات"، ولم يبينوا وقت موته "فبقي ابنه" عمرو بن زرارة، أورده صاحب الإصابة في القسم الأول، وقال: صحبته محتملة، "فكان ممن خلع عثمان بن عفان -رضي الله عنه".
وعند الكلبي وغيره: فكان أوّل خلق الله خلع عثمان بالكوفة، "انتهى ملخصًا من الهدي النبوي" لابن القيم، "والله الموفق، وسيأتي هذا"، أي: خبر زرارة -إن شاء الله تعالى "في تعبيره الرؤيا -صلى الله عليه وسلم, من المقصد الثاني، انتهى".