ليت نيات الخير والشر تؤتي ثمارها الحلوة والمرة بالسرعة التي ظهرت في عهد الحديبية الانف، إنّه لم تمر أيام طوال على إبرامه حتى كان تشدد المشركين فيه وبالا عليهم، فأخذوا يتشكون من النصوص التي فرضوها أو فرضتها حميتهم الغليظة.
ونظر المسلمون كذلك مبهورين إلى عواقب التسامح البعيد الذي أبداه النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا من بركاته ما ألهج ألسنتهم بالحمد!.
لقد انفرط عقد الكفار في الجزيرة منذ تمّ هذا العقد، فإنّ قريشا كانت تعتبر رأس الكفر وحاملة لواء التمرد والتحدي للدين الجديد، وعند ما شاع نبأ تعاهدها مع المسلمين خمدت فتن المنافقين الذين يعملون لها، وتبعثرت القبائل الوثنية في أنحاء الجزيرة؛ وخصوصا لأنّ قريشا جمدت على سياستها النفعية واهتمت
__________
(1) صحيح، وهو من تمام قصة الحديبية عند البخاري وأحمد.
بشؤونها التجارية، فلم تجتهد في ضمّ أحلاف لها، في الوقت الذي اتسع فيه نشاط المسلمين الثقافي والسياسي والعسكري، ونجحت دعايتهم في تألف قبائل غفيرة، وإدخالها في الإسلام.
وكثيرون من المؤرّخين يعدّ صلح الحديبية فتحا، بل إنّ الزهري يقول فيه:
ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، لم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تيناك السنتين- بعد الحديبية- مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة، ثم خرج عام فتح مكة- بعد ذلك بسنتين- في عشرة الاف.
أما المسلمون المعذّبون في مكة، فقد فرّ منهم أبو بصير عبيد بن أسيد، وهاجر إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين، فأرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها يرجعان به إليها تنفيذا لنصوص المعاهدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير! إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر! وإنّ الله جاعل لك ومن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك» . وحزن أبو بصير، وقال: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين ليفتنونني في ديني؟ فلم يزد النبي عن تكرار رجائه في الفرج القريب. ثم أرسل أبا بصير مع القرشيّين، ليعودوا جميعا إلى مكة «1» .
ورفض أبو بصير أن يستسلم لهذا المصير، فاحتال أثناء الطريق على سيف أحد الحارسين، وقتله به، ففرّ الاخر مذعورا، وقفل راجعا إلى المدينة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وقع لصاحبه، وإذا أبو بصير يطلع متوشّحا السيف، يقول: يا رسول الله! وفّت ذمتك، وأدّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي.
__________
(1) رواه ابن إسحاق بدون إسناد، وعنه ابن هشام: 2/ 223؛ وقد أخرجه البخاري مختصرا على قوله: فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: «العهد الذي جعلت لنا» ، فدفعه إلى الرجلين.
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ويل أمّه، مسعر حرب لو كان معه رجال» «1» .
وأدرك أبو بصير أنّه لا مقام له في المدينة، ولا مأمن له في مكة، فانطلق إلى ساحل البحر، في ناحية تدعى العيص، وشرع يهدّد قوافل قريش المارة بطريق الساحل، وسمع المسلمون بمكة عن مقامه، وعن كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: «مسعر حرب لو كان معه رجال» . فتلاحقوا بأبي بصير، يشدّون أزره، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين ثائرا، فيهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
وألّف أولئك المعذّبون الناقمون جيشا، ضيّق الخناق على قريش، فلا يظفر بأحد منهم إلا قتله، ولا تمرّ بهم عير إلا اقتطعوها.
وإذا قريش ترسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده الرّحم أن يؤوي إليه هؤلاء فلا حاجة لها بهم.
وبذلك نزلت قريش عن الشرط الذي أملته تعنتا، وقبله المسلمون كارهين.
وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانهما لها دلالة مثيرة، فهي قصة العقيدة المكافحة في لؤم من الأعداء، ووحشة من الأصحاب! وهي توضّح أنّ الإيمان بالله أخذ طريقه إلى قلوب أولئك النفر مجرّدا من كل شيء إلا سلامة جوهره.
إنّهم قد فقدوا الأمداد الروحية التي تجيئهم من مخالطة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإصغاء إليه، وهو يتلو وينصح، بيد أنهم عوّضوا عنها من الاتصال بكتابه والاقتباس من ادابه، فكانوا- في اهتدائهم للحق، وإبائهم للضيم، وإيثارهم للمغامرة- مثلا حسنى للإسلام المكافح العزيز.
ولم يعد أبو بصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الإذن بالمقام معه جاء وهو يحتضر، وروى موسى بن عقبة أنّ رجال أبي بصير صادروا قافلة كان فيها أبو العاص بن الربيع صهر النبي صلى الله عليه وسلم- وهو لما يدخل الإسلام بعد- وأسروا من فيها ما عدا أبا العاص- لمكانته- فذهب أبو العاص إلى زينب امرأته، وشكا لها ما وقع لأصحابه، وما ضاع لهم من أموال، وحدّثت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب النّاس قائلا: «إنّا صاهرنا أناسا، وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصّهر وجدناه، وإنّه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو
__________
(1) صحيح: وهو من تمام القصة عند البخاري وأحمد.
جندل وأبو بصير، وأخذوا ما كان معهم؛ وإنّ زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟» فقال المسلمون: نعم «1» .
وبلغ هذا الحوار أبا جندل، فأفرجوا عن الأسرى، وردّوا عليهم كلّ شيء أخذ منهم حتى العقال.
ثم جاء كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير ليترك مكانه، ويرجع حيث يحبّ، وكان أبو بصير يجود بأنفاسه الأخيرة، فمات والكتاب على صدره، ودفنه أبو جندل. أمّا أبو العاص بن الربيع فارتحل ببضائع قريش حتى قدم مكة، فأدى إلى الناس أموالهم حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم أردّه عليه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، قد وجدناك وفيا كريما.
قال: والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا أن تظنّوا أنّي أسلمت لأذهب بأموالكم، فإنّي أشهد ألاإله إلا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله.
وعاد إلى المدينة، فردّ عليه رسول الله امرأته زينب «2» ، وكان اختلاف الدين قد فرّق بينهما، ولم ينشئ في ذلك عقدا جديدا.
وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردّوا النسوة المهاجرات بدينهنّ إلى أوليائهنّ، إما لأنّهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهنّ لا يستطعن مضطربا في الأرض وردّا للكيد، كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما.
__________
(1) لا يصحّ، لأن ابن عقبة رواه عن الزهري مرسلا. كما في (الفتح) : 5/ 369؛ و (الاستيعاب) لابن عبد البر في ترجمة أبي بصير، غير أنّ ابن إسحاق أخرج القصة بسياق اخر، ومن طريقه أخرجه ابن هشام في (السيرة) : 2/ 82- 83، مرسلا، وقد وصله الحاكم في (المستدرك) : 3/ 236- 237، من حديث عائشة وإسناده جيد، فالأولى الاعتماد على هذا السياق دون ما في الكتاب. وله شاهد من حديث أم سلمة عند البيهقي في سننه: 9/ 95.
(2) حديث صحيح، أخرجه أبو داود: 1/ 250؛ والترمذي (196) ؛ والحاكم: 3/ 237؛ وأحمد، رقم (1876، 2366، 3290) ؛ وابن هشام في السيرة: 2/ 83، من حديث ابن عباس. وإسناده جيد، وقال الترمذي: «ليس به بأس» ، وصحّحه أحمد.
وأيّا ما كان الأمر؛ فإنّ احتجاز من أسلم من النساء تمّ بتعليم القران، وكلف المسلمون أن يدفعوا لأزواجهنّ المشركين عوضا يستعينون به على زواج اخر إذا لم يشاؤوا الدخول في الإسلام، والعودة إلى أزواجهم الأوليات.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ [الممتحنة: 10] .
والاية تشير- بجانب ما فيها من أحكام- إلى ما كانت تستمتاع به المرأة من استقلال فكريّ، وكيان أدبيّ محترم.
ولو حدث ذلك اليوم لتساءل فريق كبير من المسلمين: من الذي يمتحن؟
أهو رجل أم امرأة، وإن كان رجلا، فهل يكون شابا أو شيخا؟ وهل تمتحن المرأة مباشرة أو من وراء حجاب؟.
,
واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوض قريش وهو أرغب ما يكون في موادعة القوم، وإن كان قادرا على تحكيم السّيف، وإنزال خصومه على منطقه الذي اثروه مذ صدّوه عن البيت، وتكلّم (سهيل) فأطال، وعرض الشروط التي يتمّ في نطاقها الصلح، ووافق عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا أن تسجّل في وثيقة يمضيها الفريقان.
وحدثت في معسكر المسلمين دهشة عامة للطريقة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أوليائه ومع أعدائه.
فأمّا مع أعدائه، فقد ذهب في ملاينتهم إلى حدود بعيدة، وأولى به أن يقسو عليهم.
وأما مع أصحابه- فإنّه على غير ما ألفوا منه- لم يستشرهم في هذا الاتفاق المقترح.
مع أنّه في شؤون الحرب والسلم التي سلفت كان يرجع إليهم، وربما نزل على رأيهم وهو له كاره، لكنّه اليوم ينفرد بالعمل، ويقرّ ما يكرهون على غير ضرورة ملجئة..
وقد شرحنا في غير هذا المكان «1» موقف النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية خاصّة، وأبنّا أنّ تقدير الأمور لم يترك للنظر المعتاد، بل كان للإلهام الأعلى توجيهه الصائب.
إنّ الله الذي عقل الناقة أن تتابع سيرها لا يأذن لهذه الكتائب أن توالي زحفها، وتشرع رماحها، وقد تحرز نصرا أقلّ على الإسلام- في جدواه- من سلم مبارك النتائج.
قال الزهري: فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال:
أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين!. قال: بلى. قال:
فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟!.
__________
(1) في كتابنا: (الإسلام والاستبداد السياسي) ، وهو من منشورات دار القلم- دمشق.
قال أبو بكر: يا عمر! الزم غرزه- أمره- فإنّي أشهد أنّه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله!.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألست برسول الله! قال: «بلى» . قال: أولسنا بالمسلمين! قال: «بلى» . قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» . قال: فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟!.
قال: «أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيّعني» «1» .
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، فقال: «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» . فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهمّ» ، فكتبها، ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو» :
اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين، يأمن فيها النّاس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردوه عليه!.
وإنّ بيننا عيبة مكفوفة- صدورا منطوية على ما فيها من خير- وأنّه لا إسلال ولا إغلال- لا سرقة ولا خيانة- وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهداهم دخل فيه.
وأنّك ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنّه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب، إذ جاء ابن المفاوض عن قريش نفسه! ..
جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يريد الالتحاق بالمسلمين، فقد دخل في دين الله، ولقي العذاب من أهله، وها هو ذا يرسف في الحديد، وتثقل به قيوده.
__________
(1) حديث صحيح، وهو من تمام قصة الحديبية، والزهريّ أحد رجال إسناده، وليس من مرسلاته، خلافا لما يبدو من السياق. وقد رواه موصولا أحمد من طريق ابن إسحاق. وهو عند البخاري وأحمد من طريق أخرى بنحوه.
ما كان المسلمون يشكّون في دخول مكة؛ فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قصّ عليهم رؤيا أنّه دخلها، وطوّف بالبيت العتيق فيها، فلمّا رأوا ما رأوا من شروط الهدنة، وأمر الصلح والعودة، وتعنّت سهيل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وافتياته على شخصه، دخل عليهم من ذلك كلّه أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون! ثم جاءت قصة أبي جندل فزادت الطين بلّة.
ورأى سهيل ابنه، فقام إليه يضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد! قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا!! قال: «صدقت» . فجعل سهيل ينتر ابنه بتلبيبه ويجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته:
يا معشر المسلمين! أردّ إلى المشركين يفتنونني في ديني!.
فزاد ذلك النّاس إلى ما بهم!.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل! اصبر واحتسب، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم» .
ونفذت القضية، وأعلنت خزاعة دخولها في عقد المسلمين، وأعلنت بنو بكر دخولها في عقد قريش، ومضت شروط الهدنة «1» ..!.
,
جاء تفكير المسلمين في زيارة المسجد الحرام بداية لمرحلة متميزة في تاريخ دعوتهم، أليسوا يعالنون بعزمهم على دخول مكة، وهم الذين طردوا منها بالأمس وحوربوا، حيث استقرّ بهم النوى؟ وظلّت حالة الحرب قائمة بينهم وبين قريش، لم تسفر عن نتيجة حاسمة؟ فكيف ينوون العمرة في هذه الظروف ... ؟.
والجواب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد بهذا النسك المنشود إقرار حقّ المسلمين في أداء عبادتهم، وإفهام المشركين أنّ المسجد الحرام ليس ملكا لقبيل يحتكر القيام عليه ويمكنه الصدّ عنه، فهو ميراث الخليل إبراهيم، والحج إليه واجب على كلّ من بلغه أذان أبي الأنبياء من قرون:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) [الحج] .
ومن ثمّ فليس يجوز لأهل مكة أن يحجبوا المسلمين عنه، ولئن استطاعوا قديما إقصاءهم، إنهم- بعد ما وقع من قتال- لن يصرّوا على خطئهم القديم.
وإحرام النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بالعمرة فحسب- وهم يريدون دخول مكة- اية على الرغبة العميقة في السلم، وعلى الرغبة في نسيان الخصومات السابقة، وتأسيس علائق أهدأ وأرقّ.
ومتى يحدث هذا؟ بعد أن استفرغت قريش جهدها في إيذاء المسلمين، وبعد ما بدا فشلها الذريع في ذلك. لقد استمرّت بضع سنين تقاتل وتبذل من دمها ومالها لتهزم الإسلام، فلم ترجع اخر الأمر إلا بالخسائر الفادحة، والأزمات العضوض، على حين رسخت أقدام المسلمين، وعلت راياتهم، وانكمش عدوّهم، وها هم أولاء يخرجون إلى مكة عبّادا مخبتين، لا غزاة منتقمين.
أجل إنهم لا يبغون إلا أن ينالوا مثل ما لغيرهم من حق الاعتمار والحج،
ولا يسوغ أن يحرموا من ذلك أبدا. وبذلك القصد السمح المهذب، استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم جمهور المسلمين وأعراب البوادي، واذنهم أنه يريد العمرة ولا يريد قتالا، وساق أمامه الهدي الذي سيذبح ليطعمه فقراء مكة، الفقراء الذين حشدوا لاستئصاله يوم الأحزاب ...
أكان الكافرون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام يفقهون هذه النية ويقدّرون مكانة صاحبها؟.
لا ... إنهم بقوا على العهد بهم من فساد الضمير ونية السوء.
فالأعراب المنتشرون حول يثرب ومن على شاكلتهم من المنافقين، عرفوا أنّ أهل مكة سوف يقاتلون محمدا عليه الصلاة والسلام أمرّ قتال، وأنه إذا أبى إلا زيارة البيت- كما أعلن- فلن تدعه قريش حتى تهلكه أو تهلك هي دون إبلاغه مأربه ... فهي عمرة محفوفة بالأخطار في نظرهم، والفرار منها أجدى!!.
ولو فرض أن الرسول عليه الصلاة والسلام نجح في مقصده هذا، فالاعتذار إليه بعد عودته سهل:
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) [الفتح] .
وخرج المؤمنون الواثقون مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وعددهم قريب من ألف وأربعمئة، وذلك في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة. وساروا ملبّين يطوون الطريق إلى البيت العتيق، فلمّا بلغوا (عسفان) - على مرحلتين من مكة- جاء الخبر إلى المسلمين أنّ قريشا خرجت عن بكرة أبيها، قد أقسمت ألّا يدخل بلدهم مسلم، وأنّ جيشهم استعدّ للنضال، يقود خيله خالد بن الوليد.
وبدأ شبح الحرب أمام الأعين يملأ هذه البقاع المحرمة بالدماء والأشلاء، والمسلمون لم يجيئوا لهذا، وما كان لأهل مكة أن يلجئوهم إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا! وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظنّ قريش؟ فو الله
لا أزال أجاهد على الّذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» .
يعني: الموت- «1» .