ولما دخل- صلى الله عليه وسلم- المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه ووضعوا السلاح جاء جبريل- عليه السّلام- معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج.
وفى رواية البخارى من حديث عائشة أنه لما رجع- صلى الله عليه وسلم- ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال له: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه.
فاخرج إليهم.. وأشار إلى بنى قريظة «3» .
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «الدلائل» (3/ 458) ، وابن هشام فى «السيرة» (3/ 206) ، وهو عند البخارى (4109 و 4110) فى المغازى، باب: غزوة الخندق وهى الأحزاب بلفظ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 139) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2813) فى الجهاد والسير، باب: الغسل بعد الحرب والغبار، ومسلم (1769) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد.
وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببنى قريظة.
وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فو الله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث يومئذ مناديا ينادى يا خيل الله اركبى «1» .
وعند الحاكم والبيهقى: وبعث عليّا على المقدمة، وخرج- صلى الله عليه وسلم- فى أثره.
وعند ابن سعد: ثم سار إليهم فى المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذى القعدة.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قاله ابن هشام.
ونزل- صلى الله عليه وسلم- على بئر من آبار بنى قريظة وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة» «2» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وفى البخارى عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر فى الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلى، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبى- صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدا منهم «3» .
كذا وقع فى جميع النسخ من البخارى: أنها العصر. واتفق عليه جميع أهل المغازى.
__________
(1) ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (3170) وعزاه لابن عائذ فى المغازى عن قتادة مرسلا.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (946) فى الجمعة، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، ومسلم (1770) فى الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.
ووقع فى مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخارى ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون.
وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم- قبل الأمر- كان يصلي الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.
وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التى بعدها العصر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحاصرهم- صلى الله عليه وسلم- خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار.
وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة.
وقذف الله فى قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هى:
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فو الله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
فأبوا.
فقال: إذا أبيتم علىّ هذه، فهلم نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه.
فقالوا: أى عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا.
فقال: إن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.
وأرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن ابعث إلينا أبا لبابة- وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره فى أمرنا.
فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرقّ لهم، وقالوا يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت وعاهد الله ألايطأ بنى قريظة أبدا، ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبره، وكان قد استبطأه قال: «أما لو جاءنى لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» «1» .
قال: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته فى وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم تعود فتربطه بالجذع.
وقال أبو عمر: روى وهب عن مالك عن عبد الله بن أبى بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه، فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته.
وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبى لبابة نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو فى بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله
__________
(1) انظر القصة فى «دلائل النبوة» للبيهقى (4/ 16) ، وابن هشام فى «سيرته» (3/ 188- 190) .
- صلى الله عليه وسلم- من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت مم تضحك، أضحك الله سنك. قال: «تيب على أبى لبابة» . قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال: «بلى إن شئت» . قال: فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. قالت:
فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذى يطلقنى بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه «1» .
وروى البيهقى فى دلائله بسنده عن مجاهد فى قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ «2» . قال: هو أبو لبابة إذ قال لبنى قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقى وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ.
وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان لتخلفه عن غزوة تبوك، كما قال ابن المسيب قال: وفى ذلك نزلت هذه الآية.
ولما اشتد الحصار ببنى قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله فى خيمة فى المسجد الشريف لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة وكانت تداوى الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم- وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، قال- عليه الصلاة والسلام-: «قوموا إلى سيدكم» . فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم- المسلمين.
فقالوا: إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (4/ 17) ، وابن هشام فى «سيرته» (3/ 191) .
(2) سورة التوبة: 102.
فقال سعد: فإنى أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء.
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» والرقيع: السماء سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
ووقع فى البخارى: قال: قضيت فيهم بحكم الله، وربما قال: «بحكم الملك» - بكسر اللام-.
وفى رواية محمد بن صالح: «لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذى حكم به من فوق سبع سموات» «1» .
وفى حديث جابر- عند ابن عائذ- فقال: «احكم فيهم يا سعد» ، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: «قد أمرك الله أن تحكم فيهم» «2» .
وفى هذه القصة: جواز الاجتهاد فى زمنه- صلى الله عليه وسلم- وهى مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان فى حضرته- صلى الله عليه وسلم- أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيّا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته- صلى الله عليه وسلم- كما فى هذه القصة وغيرها. انتهى.
وانصرف- صلى الله عليه وسلم- يوم الخميس لسبع ليال- كما قال الدمياطى، أو لخمس كما قاله مغلطاى- خلون من ذى الحجة.
وأمر- صلى الله عليه وسلم- ببنى قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود فى السوق، وجلس- صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلى: المكثر يقول إنهم ما بين
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3043) فى الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل، ومسلم (1768) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(2) ذكره الحافظ فى «الفتح» (7/ 412) وعزاه لابن عائذ.
الثمانمائة إلى التسعمائة، وفى حديث جابر عند الترمذى والنسائى وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل «1» .
فيحتمل فى طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعا.
واصطفى- صلى الله عليه وسلم- لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها.، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبى ثم أمر بالباقى فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاث آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدى، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة- وهو السقط من المتاع-.
وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا.
وفى البخارى أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلىّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك [وأخرجوه] ، اللهم إنى أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتى فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم وفى المسجد خيمة لامرأة من بنى غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذى يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها «2» .
وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه فى هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد
__________
(1) صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (1582) فى السير، باب: ما جاء فى النزول على الحكم، والنسائى فى «الكبرى» (8679) ، وأحمد فى «مسنده» (3/ 350) ، وابن حبان فى «صحيحه» (4784) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4122) فى المغازى، باب: مرجع النبى- صلى الله عليه وسلم- من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة ومحاصرته إياهم، ومسلم (1769) فى الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
فيه من المشركين، فإنه- صلى الله عليه وسلم- تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكادت الحرب أن تقع بينهم فلم تقع كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ «1» . ثم وقعت الهدنة واعتمر- عليه السّلام- من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أى: أن يقصدونا محاربين. وهو كقوله- صلى الله عليه وسلم- «نغزوهم ولا يغزونا» كما تقدم-.
وقد بين سبب انفجار جرح سعد فى مرسل حميد بن هلال- عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات.
وحضر جنازته سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن «2» رواه الشيخان.
قال النووى: اختلف العلماء فى تأويله:
فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل الله تعالى فى العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «3» . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازرى: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل، لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته.
وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول. ومنه قول العرب:
__________
(1) سورة الفتح: 24.
(2) حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ أخرجه البخارى (3803) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، ومسلم (2466) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، من حديث جابر- رضى الله عنه-.
(3) سورة البقرة: 74.
فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها.
وقال الحربى: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشىء المعظم إلى أعظم الأشياء، فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.
وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة. وهو النعش. وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التى ذكرها مسلم «اهتز لموته عرش الرحمن» وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم الروايات التى ذكرها مسلم والله أعلم. انتهى.
وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش، وصحح الترمذى من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أخف جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أخف جنازته، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «إن الملائكة كانت تحمله» «1» .
وعن البراء قال: أهديت للنبى- صلى الله عليه وسلم- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها وألين» «2» هذا لفظ رواية أبى نعيم فى مستخرجه على مسلم.
والمناديل: جمع منديل- بكسر الميم فى المفرد- وهو معروف.
قال العلماء: وهذا إشارة إلى أعظم منزلة سعد فى الجنة، وأن أدنى
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3849) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 228) ، وأبو يعلى فى «مسنده» (3034) ، والطبرانى فى «الكبير» (6/ 12) ، من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3802) فى المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ- رضى الله عنه-، ومسلم (2468) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ- رضى الله عنه-.
ثيابه فيها خير من هذه، لأن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. انتهى.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال: قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هى مسك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«سبحان الله، سبحان الله» ، حتى عرف ذلك فى وجهه، فقال: «الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج الله عنه» «1» .
وأخرج ابن سعد عن أبى سعيد الخدرى قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرناه «2» .
قال الحافظ مغلطاى وغيره: وفى هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور.
وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء.
وسيأتى البحث فى ذلك- إن شاء الله تعالى- فى ذكر وفد عبد القيس فى المقصد الثانى، وفى ذكر حجه- عليه الصلاة والسلام- من مقصد عباداته.
ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء، بطن من بنى بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضربة بالبكرات، وبين ضربة والمدينة سبع ليال. لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة.
بعثه فى ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم.
وعند الدمياطى: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم. واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة بن أثال الحنفى أسيرا.
__________
(1) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (3/ 428) ، وهو عند أحمد (6/ 55، 98) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (3/ 128) .
فربط بأمره- صلى الله عليه وسلم- بسارية من سوارى المسجد، ثم انطلق بأمره صلى الله عليه وسلم-، فاغتسل وأسلم وقال: يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلى.
وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبى- صلى الله عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر.
فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبى- صلى الله عليه وسلم- «1» . ذكر قصته البخارى.
غزوة بنى لحيان «2» :
ثم غزوة بنى لحيان- بكسر اللام وفتحها، لغتان- فى ربيع الأول سنة ست من الهجرة. وذكرها ابن إسحاق فى جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة. قال ابن حزم: الصحيح أنها فى الخامسة.
قالوا: وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر فى مائتى رجل ومعهم عشرون فرسا.
واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.
ثم أسرع السير حتى انتهى إلى غران- واد بين أمج وعسفان، وبينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4372) فى المغازى، باب: وفد بنى حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، ومسلم (1764) فى الجهاد والسير، باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2) انظر هذه الغزوة فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 281 و 289) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 80- 84) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 286- 296) .
فسمعت به بنو لحيان فهربوا فى رؤس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا فى كل ناحية. ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر فى عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ثم رجعوا ولم يلقوا أحدا.
وانصرف- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ولم يلق كيدا وهو يقول: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» «1» وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.
غزوة الغابة «2» :
وتعرف بذى قرد- بفتح القاف والراء وبالدال المهملة- وهو ماء على بريد من المدينة. فى ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية.
وعند البخارى أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفى مسلم نحوه.
قال مغلطاى: وفى ذلك نظر لإجماع أهل السير على خلافهما. انتهى.
قال القرطبى شارح مسلم: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذى قرد كانت قبل الحديبية.
وقال الحافظ ابن حجر: ما فى الصحيح من التاريخ لغزوة ذى قرد أصح مما ذكر أهل السير «3» . انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3085 و 3086) فى الجهاد والسير، باب: ما يقول إذا رجع من الغزو، ومسلم (1345) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2) موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لهم.
(3) قاله الحافظ فى «الفتح» (7/ 406) وتتمة قوله: ويحتمل فى طريق الجمع أن تكون إغارة عينية بن حصن على اللقاح وقعت مرتين الأولى التى ذكرها ابن إسحاق وهى قبل الحديبية، والثانية بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة كما فى سياق سلمة عند مسلم ويؤيده أن الحاكم ذكر فى «الإكليل» أن الخروج إلى ذى قرد تكرر، ففى الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفى الثانية خرج إليها النبى- صلى الله عليه وسلم- فى ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها. انتهى، فإذا ثبت هذا قوى هذا الجمع الذى ذكرته، والله أعلم.
وسببها: أنه كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشرون لقحة- وهى ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة- ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة ابن حصن الفزارى ليلة الأربعاء، فى أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبى ذر.
وقال ابن إسحاق: وكان فيها رجل من بنى غفار وامرأة، فقتلوا الرجل وسبوا المرأة، فركبت ناقة للنبى- صلى الله عليه وسلم- ليلا حين غفلتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبى- صلى الله عليه وسلم- أخبرته بذلك فقال: «لا نذر فى معصية، ولا لأحد فيما لا يملك» «1» .
ونودى: يا خيل الله اركبى، وكان أول ما نودى بها.
وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة فى ثلاثمائة يحرسون المدينة.
وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء فى رمحه وقال له امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك. فأدرك أخريات العدو. وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرسه وسلاحه. وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو. وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة.
وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
يعنى هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أى راضع اللؤم فى بطن أمه، وقيل معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1641) فى النذر، باب: لا وفاء لنذر فى معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.
ولحق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس والخيول عشاء، قال سلمة: فقلت يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذت ما فى أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «ملكت فأسجح» - وهى بهمزة قطع ثم سين مهملة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة- أى فارفق وأحسن، والسجاحة: السهولة، أى لا تأخذ بالشدة بل ارفق. فقد حصلت النكاية فى العدو ولله الحمد. ثم قال: «إنهم ليقرون فى غطفان» «1» .
وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتى والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذى قرد فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقى وهى عشر.
وصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذى قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع. وقد غاب خمس ليال، وقسم فى كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها.
سرية عكاشة بن محصن الأسدى إلى غمر مرزوق- بالغين المعجمة المفتوحة- وهو ماء لبنى أسد على ليلتين من فيد، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، فى أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر به القوم- بكسر الذال المعجمة كفرح- فهربوا فنزلوا علياء بلادهم. فاستاقوا مائتى بعير وقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يلقوا كيدا.
ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذى القصة «2» - بالقاف والصاد المهملة المشددة المفتوحتين- موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، فى شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة. ومعه عشرة إلى بنى ثعلبة.
فورد عليهم ليلا فأحدق به القوم، وهم مائة رجل فتراموا ساعة من
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3041) فى الجهاد والسير، باب: من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صبحاه، حتى يسمع الناس، ومسلم (1806) فى الجهاد والسير، باب: غزوة ذى قرد وغيرها، من حديث سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه-.
(2) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 85- 86) ، و «شرح المواهب» ، للزرقانى (2/ 154) .
الليل ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة فوقع جريحا، وجردوهم من ثيابهم. فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة.
فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح فى ربيع الآخر فى أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا فى الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه، ورثة من متاعهم وقدم به المدينة فخمسه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقسم ما بقى عليهم.
قال فى القاموس: الرث: السقط من متاع البيت، كالرثة بالكسر.
ثم سرية زيد بن حارثة «1» إلى بنى سليم بالجموم- ويقال: الجموح- ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال. فى شهر ربيع الآخر سنة ست، فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من محال بنى سليم، فأصابوا نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للمزينة نفسها وزوجها.
ثم سرية زيد بن حارثة «2» أيضا إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة، فى جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاصى بن الربيع، وقدم بهم إلى المدينة، فأجارته زوجته زينب ابنة النبى- صلى الله عليه وسلم- ونادت فى الناس- حين صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفجر- إنى قد أجرت أبا العاصى.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما علمت بشىء من هذا، وقد أجرنا من أجرت» «3» ورد عليه ما أخذ منه.
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 86) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 155) .
(2) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 87) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 155- 158) .
(3) أخرجه ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 87) .
وذكر ابن عقبة: أن أسره كان على يد أبى بصير بعد الحديبية.
وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبى- صلى الله عليه وسلم- بالنكاح الأول، قيل بعد سنتين وقيل بعد ست سنين، وقيل قبل انقضاء العدة.
وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «ردها له بنكاح جديد سنة سبع» «1» .
ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف، وهو ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، فى جمادى الآخرة سنة ست.
فخرج إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهى عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال.
ثم سرية زيد إلى حسمى «2» - بكسر المهملة- وهى وراء وادى القرى، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست.
وسببها: أنه أقبل دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهنيد فى ناس من جذام بحسمى فقطعوا عليه الطريق، فسمع بذلك نفر من بنى الضبيب فنفروا إليهم فاستنقذوا لدحية متاعه.
وقدم دحية على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك فبعث زيد بن حارثة وخمسمائة رجل، ورد معه دحية. فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، فأقبل بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم.
فأخذوا من النعم ألف شاة، ومائة من النساء والصبيان.
فرحل زيد بن رفاعة الجذامى فى نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- كتابه الذى كان كتب له ولقومه ليالى قدم عليه فأسلم.
__________
(1) انظر المصدر السابق (2/ 87) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89، 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 162، 163) .
وبعث- صلى الله عليه وسلم- عليّا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلى بينهم وبين حرمهم وأموالهم، فرد عليهم.
ثم سرية زيد أيضا إلى وادى القرى أيضا، فى رجب سنة ست، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد، أى حمل من المعركة رثيثا، أى جريحا وبه رمق- وهو مبنى للمجهول، قاله فى القاموس.
ثم سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل «1» ، فى شعبان سنة ست.
قالوا: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه، وعممه بيده، وقال: «اغز، باسم الله، وفى سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا» ، وبعثه إلى كلب بدومة الجندل، وقال: «إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم» «2» .
فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبى، وكان نصرانيّا، وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية.
وتزوج عبد الرحمن تماضر- بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة- بنت الأصبغ، وقدم بها المدينة فولدت له أبا سلمة.
ثم سرية على بن أبى طالب «3» فى شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بنى سعد بن بكر، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر.
فأغاروا عليهم بالغمج بين فدك وخيبر، فأخذوا خمسمائة بعير وألفى شاة، وهربت بنو سعد، وقدم علىّ ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا.
__________
(1) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 160 162) .
(2) أخرجه ابن سعد فى الموضع السابق.
(3) انظر هذه السرية فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 89 و 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 162 و 163) .
ثم سرية زيد بن حارثة «1» إلى أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، بناحية وادى القرى، على سبع ليال من المدينة فى رمضان سنة ست من الهجرة.
وكان سببها: أن زيد بن حارثة خرج فى تجارة إلى الشام. ومعه بضائع لأصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بوادى القرى لقيه ناس من فزارة من بنى بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم.
وقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فبعثه- عليه السّلام- إليهم، فكمن هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل، ثم صبحهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا بالحاضر، وأخذوا أم قرفة- وكانت ملكة رئيسة- وأخذوا ابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر.
وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة- وهى عجوز كبيرة- فقتلها قتلا عنيفا، وربط بين رجليها حبلا ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطعاها.
وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبى- صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما أظفره الله به.
ثم سرية عبد الله بن عتيك «2» لقتل أبى رافع، عبد الله- ويقال سلام- ابن أبى الحقيق اليهودى، وهو الذى حزب الأحزاب يوم الخندق.
وكانت هذه السرية فى شهر رمضان سنة ست، كذا ذكره ابن سعد هاهنا وذكر فى ترجمة عبد الله بن عتيك: أنه بعثه فى ذى الحجة إلى أبى رافع سنة خمس بعد وقعة بنى قريظة. وقيل فى جمادى الآخرة سنة ثلاث.
وفى البخارى: قال الزهرى: بعد قتل كعب بن الأشرف.
__________
(1) انظر هذه السرية فى «الطبقات الكبرى» (2/ 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 163) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 91) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 164) .
وأرسل معه أربعة: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة والأسود بن خزاعى، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله.
فذهبوا إلى خيبر، فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصبح فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه، فعلوه بأسيافهم.
وفى البخارى: وكان أبو رافع يؤذى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويعين عليه، وكان فى حصن له.. فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق ومتلطف للبواب لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأغاليق فأخذتها ففتحت الباب.
وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، فانتهيت إليه فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا فى البيت ضربنى قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف فى بطنه، حتى أخذ فى ظهره، فعرفت أنى قتلته.
وفى رواية له: ثم جئت كأنى أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع؟ - وغيرت الصوت- فقال: لأمك الويل، دخل على رجل فضربنى، قال: فعمدت له
أيضا فأضربه أخرى، فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتى، كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف فى بطنه، ثم أنكفىء عليه، فسمعت صوت العظم.
فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت فى ليلة مقمرة فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، فلما صاح الديك قام الناعى على السور، فانطلقت إلى أصحابى فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.
فانتهيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: «ابسط رجلك» ، فمسحها النبى- صلى الله عليه وسلم-، فكأنما لم أشتكها قط «1» . هذا لفظ رواية البخارى.
وفى رواية محمد بن سعد: أن الذى قتله عبد الله بن أنيس.
والصواب: أن الذى دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما فى البخارى.
[سرية ابن رواحة إلى ابن رزام] «2» :
وكان سببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن أبى الحقيق، أمرت يهود عليها أسيرا، فسار فى غطفان وغيرهم يجمعهم لحربه- صلى الله عليه وسلم-.
وبلغه ذلك فوجه عبد الله بن رواحة فى ثلاثة نفر، فى شهر رمضان سرّا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره.
فندب- عليه السّلام- الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله ابن رواحة، فقدموا عليه وقالوا: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعثنا إليك لتخرج إليه، يستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع فى ذلك فخرج وخرج معه
__________
(1) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4039 و 4040) فى المغازى، باب: قتل أبى رافع، من حديث البراء بن عازب- رضى الله عنه-.
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 90) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 170) .
ثلاثون رجلا من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة ضربه عبد الله بن أنيس- وكان فى السرية- بالسيف فسقط عن بعيره ومالوا على أصحابه فقتلوهم غير رجل، ولم يصب من المسلمين أحد، ثم قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «قد نجاكم الله من القوم الظالمين» «1» .
سرية كرز «2» - بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاى- ابن جابر الفهرى، إلى العرنيين- بضم العين وفتح الراء المهملتين- حى من قضاعة، وحى من بجيلة، والمراد هذا الثانى، كذا ذكره ابن عقبة فى المغازى.
وذكر ابن إسحاق: أن قدومهم كان بعد غزوة ذى قرد، وكانت فى جمادى الآخرة سنة ست.
وذكرها البخارى بعد الحديبية، وكانت فى ذى القعدة منها.
وعند الواقدى: فى شوال منها، وتبعه ابن سعد وابن حبان.
وفى البخارى- فى كتاب المغازى- عن أنس أن ناسا من عكل- يعنى بضم العين وسكون الكاف- وعرينة قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتكلموا بالإسلام، فقالوا يا نبى الله، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها.
فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبى- صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود. فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- فبعث الطلب فى آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم «3» .
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 91) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 93) ، و «شرح المواهب» للزرقانى (2/ 171 و 177) .
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (233) فى الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، وأطرافه (1501 و 3018، 4192 و 4193 و 4610 و 5685 و 5689 و 5727 و 6802 و 6803 و 6804 و 6805 و 6899) ، ومسلم (1671) فى القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
وفى لفظ: وسمر أعينهم، ثم نبذوا فى الشمس حتى ماتوا.
وفى لفظ: ولم يحسمهم، أى لم يكو مواضع القطع فينحسم الدم.
وقال أنس: إنما سمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة. رواه مسلم فيكون ما فعل بهم قصاصا.
وفى رواية أنهم كانوا ثمانية.
وعند البخارى أيضا- فى المحاربين- أنهم كانوا فى الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل.
وفى رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه حتى مات «1» .
وعند الدمياطى- كابن سعد- أن اللقاح كانت خمسة عشر لقحة- بكسر اللام وسكون القاف- ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر.
وفى صحيح مسلم: أن السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار «2» .
وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان النبى- صلى الله عليه وسلم- مولى يقال له: يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه فى لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤا- وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم- وعدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك فى عينيه، ثم طردوا الإبل، فبعث النبى- صلى الله عليه وسلم- فى آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهرى، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال ابن كثير: غريب جدّا «3» .
__________
(1) صحيح: وهى رواية البخارى (5685) فى الطب، باب: الدواء بألبان الإبل، وأبو داود (4367) فى الحدود، باب: ما جاء فى المحاربة، والترمذى (72) فى الطهارة، باب: ما جاء فى بول ما يؤكل لحمه.
(2) تقدم فيما قبله.
(3) قاله الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 51) .
وروى ابن جرير عن محمد بن إبراهيم عن جرير بن عبد الله البجلى قال: قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوم من عرينة الحديث.. وفيه قال جرير:
فبعثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونفرا من المسلمين حتى أدركناهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «النار» ، حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجل سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» .
إلى آخر الآية «2» . وهو حديث غريب ضعيف. وفيه أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلى. قال مغلطاى: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه بنحو أربع سنين.
وفى مغازى ابن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء- وعند غيره: أنه سعد- بسكون العين- ابن زيد الأشهلى، وهذا أنصارى، فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة.
وأما قوله: فكره الله سمل الأعين فأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر. فقد تقدم أن فى صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاة، فكان ما فعل بهم قصاصا والله أعلم.<