ومضت قريش في مسيرها مستجيبة لرأي (أبي جهل) ، حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر، وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا.
وهكذا اقترب كلا الفريقين من الاخر، وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب.
وهبط الليل، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وسعدا يتحسّسون الأحوال، ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يمدّانهم بالماء، فأتوا بهما، وسألوهما- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي- فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء.
فكره القوم هذا الخبر، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة! - فضربوهما ضربا موجعا، حتى اضطر الغلامان أن يقولا: نحن لأبي سفيان! فتركوهما؛ وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه وسلم وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما!! صدقا والله إنّهما لقريش» .
ثم قال للغلامين: «أخبراني عن قريش» ، قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: «ما عدتهم؟» قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كلّ يوم؟» قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمئة إلى الألف» ، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختريّ بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وعمرو بن هشام، وأمية بن خلف ... إلخ.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «1» .
__________
(1) أخرجه ابن هشام: 2/ 65، عن ابن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير بهذه القصة. وهذا إسناد صحيح، لكنّه مرسل. وقد رواه أحمد، رقم (948) من حديث علي بن أبي طالب، دون قوله: «ثم قال لهما..» وسنده صحيح، ورواه مسلم: 5/ 170، مختصرا من حديث أنس.
وانكشف وجه الجد في الأمر؛ إنّ اللقاء المرتقب سوف يكون مرّ المذاق، لقد أقبلت قريش تخبّ في خيلائها، تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام؛ لتنفرد بعدها- الوثنية بالحكم النافذ.
ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره وحاضره بهذا الدين، الذي افتداه، واوى أصحابه؛ فأحبّ أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا- على ضوئه- ما يفعلون.
إنّ المرء قد تفجؤه أحداث عابرة- وهو ماض في طريقه- يحتاج في مواجهتها لأن يستجمع مواهبه، وأن يستحضر تجاربه، وأن يقف أمامها حادّ الانتباه، مرهف الأعصاب، وهذه الامتحانات المباغتة أدقّ في الحكم على الناس، وأدلّ على قيمهم من الامتحانات التي يعرفون ميعادها، ويتقدّمون إليها واثقين مستعدين، والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير، ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاقّ، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلّبون- على عجل- تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم، فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن.
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى:
اذهب أنت وربّك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحقّ؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه!!.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له.
ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» ، وإنّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم كانوا عدد الناس، وأنّهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله! إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف ألّا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممّن
دهمه بالمدينة، فلما قال ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله! قال: «أجل» ، فقال: قد امنا بك وصدقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا على السّمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا؛ إنّا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر على بركة الله.
وفي رواية: لعلّك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منّا كان أحبّ إلينا مما تركت.
فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول (سعد) ، ونشّطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم» «1» .