كان محمد عليه الصلاة والسلام في الخامسة والعشرين عند ما تزوّج خديجة، وكانت هي قد ناهزت الأربعين، وظل هذا الزواج قائما حتى ماتت خديجة عن خمسة وستين عاما، كانت طوالها محلّ الكرامة والإعزاز، وقد أنجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاده جميعا منها، ما عدا إبراهيم.
ولدت له أولا (القاسم) ، وبه كان يكنى بعد النبوة، ثم (زينب) ، و (رقية) ، و (أم كلثوم) ، و (فاطمة) ، و (عبد الله) ، وكان (عبد الله) يلقّب بالطيّب والطاهر، ومات (القاسم) بعد أن بلغ سنا تمكّنه من ركوب الدّابة والسير على النجيبة، ومات عبد الله وهو طفل، ومات سائر بناته في حياته؛ إلا فاطمة فقد تأخّرت بعده ستة أشهر، ثم لحقت به.
كان قران محمد عليه الصلاة والسلام بخديجة خيرا له ولها، ولا شكّ أن هذا البيت الجديد قد اصطبغ بروح ربّ البيت، روح التطهّر من أدران الجاهلية، والترفّع عن تقديس الأوثان.
وقد استأنف محمد عليه الصلاة والسلام ما ألفه بعد زواجه من حياة التأمّل والعزلة، وهجر ما كان عليه العرب في أحفالهم الصاخبة من إدمان ولغو وقمار ونفار، وإن لم يقطعه ذلك عن إدارة تجارته، وتدبير معايشه، والضرب في الأرض والمشي في الأسواق.
إنّ حياة الرجل العاقل وسط جماعة طائشة تقتضي ضروبا من الحذر والرويّة، وخصوصا إذا كان الرجل على خلق عظيم يتقاضاه لين الجانب، وبسط الوجه.
ولم يكن ثمة ما يقلق في هذه الزيجة الموفّقة إلا ألم خديجة لهلاك الذكور من بنيها؛ مع ما للذكران من منزلة خاصّة في أمّة كانت تئد البنات، وتسودّ وجوه ابائهنّ عند ما يبشّرون بهن!!.
والغريب أنّ العرب بعد البعثة كانوا يعيّرون محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا، ويعلنون ارتقابهم لانقطاع أثره وانتهاء ذكره؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن قريشا تواصت بينها في التمادي في الغيّ والكفر، وقالت: الذي نحن عليه أحقّ مما عليه هذا الصنبور المنبتر- والصنبور: النخلة التي اندقّ أصلها- يعنون أن محمدا عليه الصلاة والسلام إذا مات لم يرثه عقب، ولم يحمل رسالته أحد أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) [الطور] !!.
ومحمّد صلى الله عليه وسلم ورسالته فوق هذه الأماني الصغيرة، إلا أنّ الأسى كان يغزو قلب الوالد الجليل وهو يودع أبناءه الثرى، فيجدد الثكل ما رسب في أعماقه من الام اليتم، إنّ غصنه تشبث بالحياة، فاستطاع البقاء والنماء برغم فقدانه أبويه، وها هو ذا يرى أغصانه المنبسقة عنه تذوي مع رغبته العميقة ورغبة شريكة حياته في أن يرياها مزهرة مثمرة، وكأنّ الله أراد أن يجعل الرقة الحزينة جزا من كيانه! فإن الرّجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الالام؛ فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين، ومداواة المجروحين.
,
والمحفوظ من سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أنه تزوج بالسيدة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في سن الأربعين، وظلّ معها واحدها لا يضمّ إليها أخرى، حتى تجاوزت السيدة الفضلى الخامسة والستين.
وماتت وهو- صلوات الله وسلامه عليه- فوق الخمسين.
ولم يجرؤ أحد من أشدّ خصومه لددا أن ينسب إليه دنسا، أو يتهمه بريبة.
__________
(1) نحن نعتقد أن التعدد هو حكم الله في الأديان كلها- ومن بينها النصرانية-، ولا نقيم وزنا لما عداه من قوانين وضعية.
في هذه الفترة الخصيبة الرحبة من عمر الإنسان كان رونق العفاف والشرف يتألّق في جبينه حيث سار.
ولو أنّه أحب التزوّج بأخرى ما عاقه مانع من شرع أو عقل أو عادة، فإنّ التعدد كان مألوفا بين العرب، معروفا في ديانة أبي الأنبياء إبراهيم، إلا أنّه ظل مكتفيا بمن استراح إليها واطمأنّ بصحبتها، ولو أنّها طعنت في السن، وبقي هو في كمال قوته وتمام رجولته، ولهذا المسلك دلالته القاطعة.
فلما انتقلت السيدة خديجة رضي الله عنها وأحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوج، لم يكن البحث عن الجمال في مظانه هو الباعث له على تخيّر شريكته في حياته أو شريكاته، ولو قد فعل ذلك ما تعرّض للوم.
بيد أنّ الباعث الأول كان الارتباط بالرجال الذين ازروه في دعوته وعاونوه في رسالته.